السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صور الإحسان وسبل تربية النفس عليه

صور الإحسان وسبل تربية النفس عليه
31 مارس 2011 20:28
إذا كان الإسلام قد أضفى على المهنة بعداً أخلاقياً بإيجابه الأمانة بشتى صورها على جموع الممتهنين والقائمين بالأعمال والوظائف، فإنه أضفى عليها كذلك بعداً إنسانياً، واجتماعياً بإيجابه مبدأ الإحسان فيها، مؤكدا أهمية هذا المبدأ في المجال المهني والوظيفي، مما يدعونا إلى تقرير أن للإحسان كخلق إنساني مجالات متعددة في المنظور الإسلامي منها: - الإحسان في الجانب المالي: ويكون في كل ما يمتلكه الإنسان من أشياء ينتفع بها كالأموال وما يلحق بها، أو الآلات أو كل ما ينتفع به أو يقي ضرراً أو يدفع بأساً. - الإحسان في الجانب المهني: ويكون في كافة ما يمتهنه الإنسان من أعمال ووظائف كالتعليم،الطب، والهندسة، والتجارة، والزراعة ... الخ .ويكون بزيادة الممتهن فوق ما كلف به أو تعاقد عليه. - الإحسان في الجانب العلمي والمعرفي: ويكون بالتيسير على الناس رجاء وجه الحق سبحانه بزيادة البذل فيه عسى أن ينتفع به أقواما فيغير من مسار حياتهم. - الإحسان في جانب النصح والإرشاد: فلا يبخل الإنسان بنصيحة على أخيه قد تصلح من شأنه، وتعدل من حاله. سواء في أمور الدين أو الدنيا مبتغياً بذلك وجه الله تعالى. وقد ارتقى مفهوم النصيحة عند الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كان مساوياً للدين كله ولذلك عرف الرسول صلى الله عليه وسلم الدين بأنه النصيحة فقال فيما رواه الإمام مسلم «الدين النصيحة» وعلى هذا فينبغي بذل النصح لجماعة المؤمنين وأفرادهم، وإن لم يأخذوا بها رغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى. -الإحسان من النفس: فالمحسن الذي يبتغي بعمله وجه ربه تعالى، يبذل للمسلمين من جاهه ويعطى من عطفه ووقته وراحته، ومعسول كلامه وطلاقة وجهه، ويبذل من دعائه وشفاعته فيما أحل الله تعالى ... وهكذا إلى سائر صور العطاء من النفس. -الإحسان ببذل الطاقة الجسدية: إذ المحسن يعطي من معونته ويعطي من خدماته ويعطي من جهده في مجال حياته العامة والمهنية خاصة. فيكافح المفاسد مثلاً، وإن كلفه ذلك التعب والمشقة، ويبذل من أجل خدمة مجتمعه وأفراده مما يحتاجون إليه في جانب عمله ومهنته وغيره من الجوانب . -الإحسان بالتضحية بالروح: قد يسمو الإحسان بالإنسان حتى يصل إلى مستوى تضحية الإنسان بذاته: فالمجاهد المقاتل في سبيل الله يجود بحياته لإعلاء كلمة الله وابتغاء مرضاته. والذي يؤثر أخاه بشربة ماء وهو على وشك الهلاك لينقذه من الموت هو من المحسنين. إذ أنه جاد بحياته لأجل غيره، وفى حكم هؤلاء كل من جاد بحياته في مجال مهنته أداء لواجبه وإخلاصاً لما كلف به في مجال عمله. وهكذا تتنوع مجالات الإحسان لتشمل الحياة كلها في مجال المال، والمهنة، والعلم والنصيحة والنفس، وطاقات الجسد وقواه، حتى تبلغ الروح والحياه. وإذا كانت مجالات الإحسان من وجهة النظر الإسلامية تتسع دائرتها لتشمل كل نشاط إنساني، فإننا نلمح لهذا الخلق الفاضل فوائد وثمرات فردية وجماعية في مجال المهنة وغيرها من هذه الثمرات كما يقرر العلماء: 1- أن خلق الإحسان يولد في الفرد شعوراً بأنه جزء من الجماعة وليس فرداً منعزلاً عنهم، فنراه معهم يعين منهم ذا الحاجة بجسمه أو جاهه أو ماله أو شفاعته في الحق أو عواطفه ومشاعره وتعبيراتها، ومتى ساد هذا الخلق بصورته تلك فإنه يمثل في واقعه تجسيدا حيا للنموذج الأمثل لمفهوم الأمة الواحدة. 2- أن خلق الإنسان يزكى الأنفس ويطهرها من رذائل الأنانية المقيتة، والأثرة القبيحة، والشح الذميم، فالممتهن أيا كان موقعه إذا ما بذل من جهده وماله ووقته فوق ما كُلف لقاء وجه ربه، هو إنسان ربى نفسه على التزكية والطهارة وصهرها في نار الفضيلة حتى خلعها من شوائب الأثرة والأنانية، يقول الله تعالى «فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى» الليل:21-14. وهذه التزكية لا تكون إلا بمخالفة أهواء النفس وشهواتها، وقضية مخالفة أهواء النفوس يمكن أن تكون بتحويل ذكى فيه ارتقاء وشيء من المشقة عند الصعود، بيد أن في هذا الارتقاء الشاق لذات لا يظفر بها متبعو أهواء نفوسهم. 3- ومن ثمرات خلق الإحسان في مجال المهنة وغيرها، حل مشكلة حاجات الملهوفين من أفراد المجتمع، فالمريض الذي لا يملك أجر الطبيب إذا ما عامله الطبيب بالفضل والإحسان، فلم ينتظر منه الأجر المادي ورضا جزاء ربه له في الدنيا والآخرة، قد فرج عن هذا المريض كربته وأغاث لهفته، وقس على ذلك سائر المهن في شتى التخصصات. فقضاء الحاجات فيها، وإغاثة لهفة أصحابها، له أثره في تجسيد وحدة الجماعة المسلمة. أضف إلى ذلك أن غياب الإحسان عن جمهرة من الناس، احتاجت إلى التعامل به في شتى المهن والتخصصات، من شأنه أن يعرض المجتمع إلى عواقب وخيمة وويلات جسيمة منها: أن يتولد بين أفراد المجتمع الحقد والحسد والشحناء والميل إلى العدوان والجريمة. ،.....، لذا كان خلق الإحسان في المهنة، وفي كل معاملة -على النحو الذي قرره الإسلام -يعد عاملاً حاسماً في القضاء على تلك الرذائل والشرور. 4- أن في تربية النفوس على خلق الإحسان إقامة سد واق يمنع النفس من الركون إلى المادة وحبها، وجعلها عنواناً للحياة لا تسير إلا به لأنه والحالة تلك لن تصبح المادة وسيلة يتحقق من خلالها منافع الحياة ومصالحها فحسب، بل في هذه الحالة سيعيش الإنسان أسيراً لداء الجمع والمنع حتى تكون بئس الخاتمة وسوء المصير. من أجل ذلك ذكر العلامة (الميداني) أن لتربية الإنسان على خلق الإحسان- انطلاقاً من الفوائد العظيمة لهذا الخلق في حياة الفرد والمجتمع، وعلى الصعيدين العام والمهني-نجد الإسلام قد وضع خططاً وترتيبات من خلالها يمكن غرس هذا الخلق في النفوس ليثمر بكل صنوف الفضيلة التي تلقي ظلالها على شتى المستويات، ومختلف المجالات. ويمكن أن نجمل ملامح التربية على هذا الخلق في النفس الإنسانية في التصور الإسلامي من خلال عدة خطوات منها: - التعويل على عنصر حب الإنسان لذاته، وهو عنصر متمكن في النفس الإنسانية بحسب تكوينه الفطري. - تعهد هذا العنصر حتى يتولد عنه حب الإنسان لكل ما يفيده وينفعه. - إضافة عنصر العقل الواعي، ذي البصيرة النافذة والنظر البعيد، ليقارن مقارنه صحيحة بين العاجل والآجل، وبين الدنيا والآخرة. - العمل على طرح شوائب الأهواء، بوسائل تحفها الحكمة وتحكمها البراعة، حتى يتم نقاء المَرَكب النفسى مما لا نفع فيه، ومما يجب أن يذهب جفاء. - إضافة عنصر الطمع فيما أعد الله تعالى يقيناً للمحسنين في سبيله وابتغاء مرضاته، من نعيم مقيم وجزاء عظيم، في جنة الخلد، ومن إخلاف وبركه للمحسنين في سبيله في الدنيا - الترهيب من غياب هذا الخلق من النفس البشرية وما يجره ذلك من آثار سلبية على الفرد والمجتمع، وما يتبعه من عقاب أعده الله تعالى لكل من بخل بالبذل من وقته وجهده وماله لينفع مجتمعه، ويقيل عثرة مكروب فيه ويذهب لهفة ملهوف من أبنائه. - مزج العناصر السابقة مزجاً جيداً، مع رفع درجة حرارتها بوقود الإيمان بالله واليوم الآخر ثم نعدل هذه الحرارة يبرد اليقين الذي لا يمازجه شك أو اضطراب بعد هذه العملية التربوية الإسلامية الذكية، لابد أن تندفع نفس المؤمن بالجود والإحسان ابتغاء لمرضاة الله، وطمعاً فيما أعده سبحانه للمحسنين من ثواب في الدنيا والآخرة. وحين يتكرر في نفس المؤمن هذا الانفعال الخلقي نحو الإحسان والعطاء ابتغاء لما عند الله، يصبح هذا الخلق هيئة راسخة في النفس الإنسانية يصدر عنها فعل الإحسان بلا تدبر أو روية. أضف إلى ذلك أن التربية الإسلامية فى تحلى المؤمن بخلق الإحسان المهني والوظيفي اتخذت عدة وسائل من خلالها نضبط الغلبة المادية على النفس الإنسانية، وحصرها ضمن إطارها النافع والمفيد، ومنعها من التحول في نفس صاحبها إلىَ مرض خبيث يفتك بصاحبه وبالمجتمع من حوله. من هذه الوسائل الوسيلة الأولى: تغذية الدوافع الفطرية المعدلة للدوافع المادية في النفس الإنسانية. كالدافع الجماعي الذي يتولد عنه مقدار من الغيرة، ويتولد عنه حب الإحسان والعطاء. إذ أن بروز الدوافع الفطرية المختلفة إذ نُميت وفق مقاديرها النافعة، أحدثت حالة من التوازن فيما بينها، وكان كل منها معدلاً للآخر، وحاصراً له عن أن ينموا نمواً ضاراً على حساب مواقع غيره في خريطة النفس الإنسانية. الوسيلة الثانية: تقييد دافع حب المادة والمعاملة المادية عن الانطلاق الحر في كل ميادين المهن والكسب، ومنعه من أن ينطلق إلا في حدود ما أذن الله به، من وجوه كسب لا ظلم فيها ولا عدوان ولا ضرر ولا إثم. الوسيلة الثالثة: تكليف المسلم بجملة من الحقوق المتعلقة بما يكسب من مهنته أو مما يمكن أن ينفع به الآخرين على سبيل التطوع والنافلة، وتذكيره بحق مصلحة المسلمين العامة وإلزامه بالإتيان بذلك طائعاً راضياً، ففي هذا محاصرة لغلبة الدوافع المادية داخل النفس الإنسانية. الوسيلة الرابعة: إقامة منافس في داخل نفس المسلم من شأنه أن يشكل قوة حصار تكبح باستمرار محاولات غلبة المادة على النفس، ولعل في الإحسان والبذل والعطاء أقوى منافس لطغيان المادة على النفس البشرية. الوسيلة الخامسة: الغوص في أعماق نفس المسلم إلى حيث يستقر الإيمان، ثم تحريك جانب الإيمان باليوم الآخر وتحريك محوري الطمع والخوف فيه بالترغيب والترهيب، وتصعيد مطامع النفس في المادة والتملك، حتى تتوجه للرغبة بامتلاك ما هو أجل وأعظم في جنة الخلد حيث لا منتهى لملكية المؤمن فيها كماً أو كيفاً، هنا تصغر الدنيا بماديتها في عينه، ويهون في نفسه أن يتنازل عن بعض مما يملك ليس لقاء مادة زائلة أو نزوة عابرة وإنما ابتغاء مرضاة الله تعالى. هنا سيشتد في نفسه خلق الإحسان فيجيب داعيه إذا ما هتف به ذو حاجة، وبهذا يكون التوازن للشخصية المؤمنة أمام الأنانية المقيتة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©