الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غسان كنفاني·· دق جدراناً كثيرة

غسان كنفاني·· دق جدراناً كثيرة
17 يوليو 2008 02:42
في التاسع من أبريل عام 1936 ولد الشهيد غسان كنفاني في مدينة عكا في فلسطين، كان والده محاميا من العصاميين، وكانت أسرته تسعى إلى تحسين ظروفها المعيشية يوم وقعت النكبة عام 1948 مما دفع غسان وأهله إلى مغادرة يافا الملاصقة لتل أبيب باتجاه عكا أولا، ثم لم تلبث الأسرة أن نزحت مع الآلاف باتجاه لبنان· في حداثة سنه التحق بمدرسة الفرير بيافا، وكان موضع حسد أقرانه لأنه يدرس اللغة الفرنسية زيادة على ما يدرسونه هم· لم تستمر دراسته الابتدائية هذه سوى بضع سنوات، إذ وقعت المأساة التي كانت فصولها الأولية تتردد على الأفواه: قصص مجازر دير ياسين ويافا وحيفا· فى هذا الجو كان غسان يجلس بهدوئه المعهود ليستمع ويراقب ما يجري· وصلت عائلة غسان إلى صيدا، جنوب لبنان، وبعد يومين من الانتظار استأجرت بيتاً قديما في بلدة الغازية قرب صيدا، استمرت العائلة في ذلك المنزل أربعين يوما في ظروف قاسية، إذ إن الوالد لم يحمل معه إلا النذر اليسير من النقود، فقد كان أنفق مدّخراته فى بناء منزل في عكا، وآخر في حي العجمي بيافا· لم يكن العمل قد انتهى في المنزلين حين اضطرت العائلة للرحيل· منفى في المنفى من الغازية انتقل غسان مع أهله وآخرين بالقطار نحو مدينة حلب السورية، ومنها إلى الزبداني، ثم إلى دمشق حيث استقر بهم المقام في منزل قديم لتبدأ هناك مرحلة أخرى قاسية من مراحل حياة الأسرة· كان غسان فى طفولته يلفت النظر بهدوئه بين جميع إخوته وأقرانه، لكن سرعان ما كان يكتشف الكبار أنه شريك لهم فى مشاكلهم جميعها· فى دمشق شارك أسرته حياتها الصعبة، أبوه المحامي عمل أعمالاً بدائية بسيطة، أخته عملت بالتدريس، هو وأخوه عملا في صناعة أكياس الورق، قبل أن يقوما بكتابة الاستدعاءات أمام أبواب المحاكم، حصل ذلك في الوقت الذي كان غسان يتابع دروسه الابتدائية· اللاجئ المتفوق بعد حصولة على إجازة في الأدب العربي التحق غسان كنفاني بالتدريس في المعارف الكويتية، حيث بدأ العمل الصحافي، وكان يكتب تعليقاً سياسياً بتوقيع ''أبو العز''، لفت إليه الأنظار بشكل كبير، كما نشر قصته القصيرة الأولى: ''القميص المسروق''، التى نال عليها الجائزة الأولى في مسابقة أدبية· في تلك المرحلة أيضا ظهرت عليه بوادر مرض السكري· الصحافي التائه عام 1960 حضر غسان إلى بيروت للعمل في مجلة ''الحرية''، حيث توفرت له فرص اللقاء بالتيارات الأدبية والفكرية والسياسية· وإلى جانب عمله في ''الحرية''، كان يكتب مقالاً أسبوعيا لجريدة ''المحرر'' البيروتية، التي كانت تصدر صباح كل إثنين·عام 1961 عُقد فى يوغوسلافيا مؤتمر طلابي بمشاركة وفد فلسطيني، بين أعضاء الوفد الدانمركي المشارك في المؤتمر كانت فتاة متخصصة في تدريس الأطفال· هي قابلت الوفد الفلسطيني، وسمعت عن القضية الفلسطينية للمرة الأولى· أبدت الفتاة اهتماما بالقضية، ورغبت فى الاطلاع عن كثب على المشكلة، فشدت رحالها إلى البلاد العربية، زارت دمشق ومنها ذهبت إلى بيروت، حيث أوفدها أحدهم لمقابلة غسان كنفاني بوصفه مرجعا للشأن الفلسطيني· هو توّلى شرح الموضوع للفتاة، وقام معها بزيارة مخيمات اللاجئين الفلسطينين في لبنان، كانت شديدة التأثر بحماس غسان لقضيته، كما أحست بالظلم الواقع على الشعب الفلسطيني· لم تمض على ذلك عشرة أيام، إلا وكان غسان يطلب يدها للزواج وقام بتعريفها على عائلته كما قامت هي بالكتابة إلى أهلها· وقد تم زواجهما بتاريخ 19 أكتوبر 1961 ورزقا بفايز في 24/8/1962 وليلى فى 12/11/·1966 غسان الأديب إلى جانب عمله الصحافي كان لدى غسان كنفاني الكثير مما يرويه في قالب أدبي متجاوز لرؤية أقرانه من الكتّاب، فأنجز وفق تواريخ متقاربة العديد من الروايات، كما لو أنه كان يدرك أن العمر لن يمهله، وأنّ عليه أن يفرغ سريعا من قول ما لديه، فكانت أعماله الأدبية التي أثارت اهتمام القراء والنقاد والباحثين: ''عائد إلى حيفا''، ''أرض البرتقال الحزين''، ''موت سرير رقم ،''12 ''رجال في الشمس'' (قصة فيلم ''المخدوعون'') ''عالم ليس لنا''، ''الباب'' (مسرحية)، ''ما تبقى لكم'' (قصة فيلم السكين)، ''عن الرجال والبنادق''، ''أم سعد''· أبحاثه الأدبية والسياسية لم تكن أقلّ شأنا: ''أدب المقامة في فلسطين المحتلة''، ''الأدب العربي المقاوم في ظل الاحتلال''، ''في الأدب الصهيوني''، ''المقاومة الفلسطينية ومعضلاتها''، إضافة إلى مجموعة كبيرة من الدراسات والمقالات التي تعالج جوانب معينة من تاريخ النضال الفلسطيني وحركة التحرر الوطني العربية (سياسياً وفكرياً وتنظيميا)· كان لمكوثه في الكويت، واطلاعه على أوضاع الفلسطينين فيها، إضافة إلى عودته منها إلى دمشق في سيارة قديمة عبر الصحراء، أن منحه المواد الأولية اللازمة لصناعة روايته الأثيرة ''رجال في الشمس''· كانت المعاناة ووصفها بمثابة الصورة الظاهرية للأحداث، أما في هدفها فقد ذهبت القصة إلى تصور ضياع الفلسطينيين فى تلك الحقبة، وتحول قضيتهم إلى قضية لقمة العيش، وفى قصته ''ما تبقى لكم''، التي تعتبر مكملة لـ ''رجال في الشمس''، يكتشف البطل طريق القضية، في أرض فلسطين، وكان ذلك تبشيراً بالعمل الفدائي· تحكي ''رجال في الشمس'' حكاية ثلاثة فلسطينين قرروا الهجرة إلى الكويت طلبا للرزق، ويكون عليهم ان يستعينوا لذلك بالسائق أبو الخيزران الذي يملك سيارة قديمة مهترئة، ويرتبط بعلاقات حميمة مع حراس الحدود تتيح له دخول الكويت بدون تفتيش، كان المطلوب من الرجال الثلاثة أن يختبئوا في الخزان الصدئ لمسافة خمسين مترا تكفي لعبور الحدود، لكن السائق انشغل في حديث مع أحد اصدقائه حول مغامراته العاطفية، فتأخر مكوث الهاربين في الخزان وسط حرارة غير قابلة للاحتمال، يموت الرجال الثلاثة ويلقي السائق بجثثهم على إحدى المزابل، بعد أن يأخذ ما بحوزتهم من مقتنيات، ثم يمضي متسائلا: ''لماذا لم تدقوا جدران الخزان''؟ في الفيلم السينمائي ''المخدوعون'' الذي استخرجه المخرج المصري توفيق صالح من الرواية، يدق الرجال على الجدران لكنّ أحدا لا ينتبه لهم، وعندما سأل غسان المخرج عن سبب التحوير في الرواية، أجابه أن الفلسطينيين بدأوا يُسمعون أصواتهم للعالم، وهم يدقون على جدرانه بفعل العمليات العسكرية التي يقومون بها، لكنّ المطلوب من هذا العالم أن يصغي لهم· تمحورت الرؤية، التي صاغ غسان كنفاني مشروعه الإبداعي بوحي منها، حول تجسيد فلسطين بوصفها تعبيرا رمزيا معقدا يختزل تراجيديا العيش الإنساني على الأرض، وفي الارتقاء بالفلسطيني ليصير نموذجا معبّرا عن عذابات الإنسان المعاصر، وصراعاته المتواصلة من أجل انتزاع الحق في الحياة الكريمة، أما شخصياته الروائية فهي نماذج كونية تقبل التعميم على أمكنة وأزمنة متعددة· استشهاد أديب في الثامن من يونيو عام 1972 نزل غسان كنفاني إلى مرآب منزله في بيروت واستعد لركوب سيارته، واستعجل لميس نجم ابنة شقيقته فائزة لتركب معه، وما أن أدار مفتاح السيارة حتى تطايرت شظايا، واستشهد الإثنان في إحدى أغرب الحوادث التي يمكن للمرء أن يشهدها: الكاتب الذي لم يحمل سلاحا يوما، والذي نذر نفسه للقلم، يسقط صريعا بكميات هائلة من المتفجرات· رحل غسان كنفاني محتفظا في مخيلته، على الأرجح، بإنجازات إبداعية شتى لم يمهلها الزمن لتبصر النور، وتفعل فعلها في الكشف عن القدر الهائل من الرؤيوية التي كان يختزنها خلف هدوئه الوقور
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©