الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عودة جماعية إلى أيام الشارقة المسرحية

عودة جماعية إلى أيام الشارقة المسرحية
30 مارس 2011 20:07
أشاعت الدورة الحادية والعشرين من مهرجان أيام الشارقة المسرحية حالة من الرضا والانتشاء الفني والثقافي لدى المسرحيين والجمهور والمتابعين الذين ساهموا من خلال إقبالهم المكثف على هذه الدورة بالذات، على تحويل المهرجان إلى عرس مسرحي بكل ما تحتويه كلمة “عرس” من دلالة وإشارة، فكان المهرجان أشبه بكرنفال إبداعي تلّون بالكثير من الوعود والإرهاصات المبشرة، والتي بانت معالمها منذ اليوم الأول لانطلاق المهرجان في السابع عشر من شهر مارس، وحتى اليوم الأخير في السابع والعشرين من الشهر ذاته، عشرة أيام كانت هي مدة التظاهرة، ولكنها لخّصت أيضا مسيرة إحدى وعشرين سنة من الحماس والبحث والتجريب والمغامرة الجمالية، التي توّجت الدورة الحالية بالكثير من العلامات المشيرة والمؤكدة على أن المسرح في الإمارات هو مسرح متعاف ويخزّن الكثير من الطموح والتحدي والجرأة والتطور، وأنه بات يقف الآن على أرضية صلبة، ويثبت أقدامه فوق منصة عالية، ليزاحم ويجاور وينافس التجارب المسرحية المتقدمة عربيا وإقليميا. شهدت الدورة الحادية والعشرين من المهرجان الذي تنظمه دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة مشاركة 12 عرضا مسرحيا، سبعة منها كانت ضمن العروض الداخلة في مسابقة المهرجان وهي: “الرهان” لمسرح حتا، و”عار الوقار” لمسرح دبا الحصن، و”أصايل” لمسرح كلباء، و”الثالث” لمسرح دبي الشعبي، و”السلوقي” لمسرح الفجيرة، و”حرب النعل” لفرقة مسرح الشارقة الوطني، وأخيرا “قرموشة” لفرقة مسرح دبي الأهلي. أما العروض التي شاركت في المهرجان ولم تحظ بشرف المنافسة على جوائزه لأسباب فنية وموضوعية متعددة، فهي: مسرحية “هوا بحري” لمسرح أبوظبي الوطني، و”سفر موت” لمسرح رأس الخيمة، و”أنا وزوجتي وأوباما” لمسرح خورفكان، و”أحلوج” لمسرح العين، و”بايته” لفرقة المسرح الحديث بالشارقة وهو العمل الذي ترك العديد من علامات الاستفهام حول سبب استبعاده من المنافسة، رغم تماسك العرض فنيا وتصديه لقضايا حاضرة وملحة من خلال معالجة جريئة وذكاء إخراجي وازن بين حساسية النص وبين الأداء العالي للممثلين. ورغم علامة الاستفهام الكبيرة هذه، فإن دورة العام 2011 من أيام الشارقة المسرحية أفصحت ومنذ إزاحة الستار عن العرض الافتتاحي: “الحجر الأسود” عن وجود شرارات والتماعات ممهدة لدورة حافلة بالمنافسة القوية، وأكثر من ذلك بتوفر قدر من الدهشة والسحر والافتتان بهذا الفن الصعب والآسر في آن. مسرحية “الحجر الأسود” من تأليف صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، والأب الروحي للمسرحيين في الإمارات، ومن إخراج الفنان التونسي المنصف السويسي، والمسرحية كما أشار صاحب سمو حاكم الشارقة تقدم صورة جريئة وصريحة حول نشاط القرامطة وصراعهم الطويل مع الخلافة العثمانية، هذا الصراع الذي أكد أن تدخل الأعداء في توجيه الحركات الإسلامية حوّل هذا الحركات إلى منابع للإرهاب والفتنة والقتل والترويع. السويسي بدوره عالج المسرحية فنيا من خلال لجوءه لمفردات إخراجية تحفظ خصوصية وجرأة النص، وتقدم في ذات الوقت طقسا مشهديا يمزج بين الفرجة والتخييل وبين واقعية الحكاية وصدامها المباشر مع عنف الحدث ومأساويته. عروض مميزة قدمت أيام الشارقة المسرحية هذا العام العديد من العروض المميزة، التي ساهمت في العودة الجماعية لمبدعين غابوا عنها في الدورات السابقة في تأجيج المنافسة على جوائزها، والأهم من ذلك مساهمتهم في عودة الروح لخشبة ظلت طويلا وهي تعاني من العتمة المشهدية ومن العثرات الفنية والنصوص الهزيلة، عادت الأسماء الغائبة فعاد الوهج والألق للأيام المسرحية وتحركت من جديد عجلة الفعل الذي يوازي المضمون، أو المبنى الذي يترجم المعنى، ونذكر من هذه الأسماء إسماعيل عبدالله ومرعي الحليان وعبدالله صالح في مجال التأليف، وناجي الحاي وحسن رجب وأحمد الأنصاري في مجال الإخراج، هذه الأسماء التي لم تشارك في الدورة الماضية استطاعت أن تفتح علبة الدهشة المسرحية مجددا وأن تنثر إبداعاتها المضيئة في فضاءات ومسارات الأيام، هذا بجانب كتاب ومخرجين آخرين ظلوا وما زالوا يحفرون في صخرة التحدي والبحث والمغامرة المسرحية، ونذكر منهم الفنان علي جمال كاتبا ومخرجا، ومحمد العامري، وعبدالله زيد الذي يثبت في كل دورة أنه فنان يناور ويلعب في منطقة مسرحية خصبة تتقاطع روحيا ومعرفيا مع بيئة وجماليات وأسرار المنطقة الشرقية أو الساحل الشرقي للإمارات بخصوصيته المكانية والتراثية والاجتماعية. وهنا قراءة مكثفة في بعض الأعمال التي حملت صفة التميز سواء على مستوى النص أو الإخراج أو استخدام مفردات السينوغرافيا الموفقة والمتناغمة مع رسائل ومضامين العرض. فعرض مثل: “حرب النعل” للكاتب إسماعيل عبدالله، أثبت أن المختبر المسرحي لمخرجه محمد العامري هو مختبر قائم على الارتجال الممتزج بوعي متجاوز وخاص جدا حول قيمة “اللذة” وقيمة “الاستمتاع” بالتعبير البصري الجامح والمنصهر تماما مع فكرة أو مضمون العرض، هذه اللذة لا تخلو أيضا من هاجس بحث متواصل في النسق التشكيلي الذي يجعل من الفعل الإخراجي أقرب للنحت الفني، فمحمد العامري من المخرجين القلائل في المنطقة الذين يجدون في الخشبة مساحة هائلة من اللعب والتجريب والإيغال بعيدا نحو الأعماق المجهولة وغير المكتشفة في السينوغرافيا وفي طاقة الجسد الأدائية الذائبة والمتماهية كليا في فضاء هذه السينوغرافيا. تروي مسرحية “حرب النعل” حكاية الوالي المتسلط على خيرات الأهالي في قرية ساحلية تعيش في زمن قديم متخيل، وبسبب سياسات هذا الوالي الخاطئة ونظرته الأنانية والتسلطية، تتحول القرية إلى لقمة سائغة للغرباء الطامعين في خيرات القرية، ويتمثل هؤلاء الغرباء ومن خلال إسقاط رمزي في القطط الهزيلة التي تحولت إلى فجأة إلى قطط سمينة ومتوحشة تروع الأهالي وتنتهك حرماتهم، وتتوج أطماعها ونوازعها التدميرية باغتصاب إحدى نساء القرية، ما ينتج عنه ولادة طفل أشبه بالمسخ الذي يجمع بين وجه القط وجسد الإنسان، ومن هذه الحادثة البشعة بالذات تفصح المسرحية عن مقولتها بأن الغريب عندما يجد الدروب أمامه سالكة يتحول إلى داء سرطاني يتغلغل حتى في أحشاء وهويات ضحاياه المستلبين. العرض الثاني الذي حظي بإشادة كبيرة من الجمهور والنقاد كان عرض: “الرهان” للكاتب والمخرج على جمال الذي قدم عرضا أنيقا ومتماسكا لحكاية تدور حول تأثير الفتنة والوساوس العدائية التي تفرق بين أخوين تعاهدا على عدم الفراق مهما كانت الظروف أثناء هروبهما من الحرب الدائرة في مدينتهما، ومن خلال حوارات مكثفة وذات حمولات شعرية وأنساق تعبيرية مرهفة، قدم العرض ثيمته حول الصراع الإنساني الشرس برؤية إخراجية متوازنة ومنشغلة وموصولة تماما مع مفاصل وتشعبات النص، وكان للإضاءة وخيال الظل الذي استند عليه المخرج دورا في الانتقال الرشيق بين الزمنين الفعلي والافتراضي، وبين الذاكرة الهانئة والسعيدة وبين الحاضر المروع والدامي. وفي عرض “السلوقي” للكاتب إسماعيل عبدالله أيضا والمستوحى من رواية “قلب كلب” للروسي ميخائيل بولغاكوف يقوم عبدالله باستثمار فكرة الرواية وإدماجها في قالب محلي صرف، ومن خلال حكاية شعبية مليئة بحس عجائبي وفانتازي تعود إلى فترة الاستعمار الإنجليزي، وسيطرة النواخذة على المناطق الساحلية، مع تحكمهم في مصائر الأهالي وتفاصيل الحياة وشؤونها، في تلك الفترة المتخمة بالقضايا الاجتماعية المغيبة والمقصية والمسكوت عنها، وعالج مخرج العرض حسن رجب هذه القضايا برؤية اخترقت وتجاوزت التجارب السابقة التي قدمها طيلة مشواره المسرحي، وكان التحدي الماثل أمام المخرج هو إيجاد حلول مشهدية مناسبة لفكرة تحويل الكلب السلوقي الذي يملكه النوخذا المتسلط إلى كائن بشري، من خلال علاج سحري توصل إليه مساعد النوخذة، نجح حسن رجب في تجاوز هذه العقبة من خلال تحريك الإيقاع العام للعرض، ومزج الواقعي بالفتنازي وتذويب الخيال في الواقع بابتكار مؤثرات بصرية جعلت خيوط العرض تشتبك حول مضمون العمل بغض النظر عن الحالة الغرائبية للحدث. تكريم الحاي وسميحة أيوب في تقليد راق وحضاري يذهب باتجاه تكريم الفنان المسرحي العربي والمحلي في كل دورة من دورات أيام الشارقة المسرحية، كرمت إدارة المهرجان في هذه الدورة كلا من الفنانة المصرية الكبيرة سميحة أيوب، والفنان الإماراتي المخضرم ناجي الحاي تثمينا لإنجازاتهما الإبداعية ومسيرتهما المسرحية الحافلة والمحتشدة بالأعمال التي لا يمكن لها أن تمحى من ذاكرة المسرح المحلي والعربي. فسميحة أيوب التي تحمل لقب سيدة المسرح العربي، شكلت ـ وكما ورد في خطاب تكريمها ـ ظاهرة فنية شاملة في المسرح العربي عامة والمصري خاصة، وهي علامة فنية بارزة، أسست لنفسها، وأسهمت بتفان في الارتقاء بالحركة المسرحية على الصعيدين الفني والجمالي، وما زالت أدوارها في التلفزيون والسينما والمسرح تقدم أمثلة زاهية تظل محفورة في الذاكرة الشعبية تأصيلا وتأريخا لدورها في عالم الفن، وتأكيدا على مكانتها التي استحقتها، والتي صاغتها وفرضت نجاحاتها على الرغم من الصعوبات التي واجهتها على الصعيدين الإنساني والفني. ومن أهم الأعمال التي قدمتها سميحة أيوب خلال مشوارها الطويل مع المسرح: “غادة الكاميليا”، و”الوزير العاشق”، و”كوبري الناموس”، و”السبنسه”، و”سكة السلامة” و”الفتى مهران” و”الخال فانيا” وغيرها من الأعمال التي تحولت إلى بصمة راكزة في ذاكرة المسرح العربي. أما خطاب تكريم الفنان الإماراتي ناجي الحاي فأشار إلى أن الحاي هو مغامر يعيش حالة قلق مسرحي دائم، وغايته المجتمع بآماله وقضاياه، هدفه الجمهور لا المهرجانات أو الجوائز، وهو فنان من طراز فريد وظاهرة استثنائية يقف الجميع عندها، مثقل بالهم المسرحي ومعجون بالإبداع، مثير للأسئلة بأطروحاته التي يكتبها أو التي يتبناها، أسس لرؤية مغايرة في خطاب العرض المسرحي وتخرج من تحت عباءته الكثير من شباب المسرح في الإمارات، وخبر كل مجالات المسرح من تمثيل وكتابة وإخراج وإشراف عام. ومن أهم الأعمال التي قدمها الحاي للساحة المحلية والخليجية والعربية: “حبة رمل”، و”الهوى غربي” و”بنت سليمان” و”باب البراحة” و”زكريا حبيبي” و”بنت عيسى”، وغيرها من الأعمال التي تحولت إلى علامات مضيئة ومتوهجة في الذاكرة المسرحية والفنية عموما، لأنها أعمال ما زالت تثير العديد من الأسئلة وما زال المخرجون الجدد يعيدون صياغتها برؤى مختلفة تفترق في المعالجة وتتفق على قوة وعمق الطرح الذي حمله العمل الأصلي، لساحر وشاعر المسرح الإماراتي الذي لا يشبهه أحد. الملتقى الفكري حمل الملتقى الفكري المصاحب للمهرجان عنوان: “المسرح العربي: بين عقدين”، وشارك فيه نخبة من النقاد والمسرحيين المحليين والخليجيين والعرب، من أجل مراجعة وقراءة واقع المسرح العربي في السنوات الأخيرة، بعد التحولات الكبرى التي لامست المجتمعات العربية وعلى كافة الأصعدة، ففي ورقة للباحث المسرحي الدكتور خالد أمين أشار إلى أن الممارسة المسرحية العربية شهدت في العقود الأخيرة تغييرات عميقة على مستوى بنيات إنتاجها، بسبب جملة من العوامل أبرزها هو تفاعل المسرحيين العرب مع الفنون الأخرى المجاورة مثل فن الأداء، والفرجة الخاصة بالمواقع، بالإضافة إلى اعتماد وسائل وتقنيات رقمية جديدة أثناء صناعة الفرجة المسرحية. من جانبه أكد الدكتور صبري حافظ خلال الملتقى أن المسرح يحيا بالتجريب، ويزدهر به، مشيرا إلى أنه لم يجد مسرحا عربيا استطاع أن يراكم لنفسه تقاليد راسخة من التجريب قدر ما فعل المسرح في تونس، حيث طرح هذا المسرح على نفسه وعلى مشاهديه عبر هذه التقاليد مجموعة من الأسئلة حول مشروعية التجريب، وحول طبيعة ما يدعوه البعض: “المسرح متعدد الأصوات واللغات”. وتحدث الباحث عبدالإله عبدالقادر عن متغيرات المسرح الإماراتي في العقد الأول من الألفية الثالثة مشيرا إلى وجود تطور في وعي المسرحي الإماراتي خصوصا فيما يتعلق بتقنيات التمثيل واستغلال قدرات الممثل، وأكد عبدالقادر على أن تعدد خشبات المسرح وتوافر صالات عرض شبه متكاملة ساهم في تطوير المسرح المحلي، وألمح إلى ظهور أقلام جديدة تميزت بكتابة نوعية ومختلفة تبشر بولادة نهضة مسرحية نتوقعها في العقد القادم من الألفية الثالثة، بسبب حضور هذه الجدلية الإبداعية التي لا تتوقف وتحتم المواصلة في حركة مستمرة باتجاه المستقبل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©