الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ابن بطوطة.. غريب في البلقان

ابن بطوطة.. غريب في البلقان
18 ابريل 2018 20:57
من لا يعرف ابن بطوطة، هذا الرحالة المغربي الذي وُلد من عائلة علماء في مدينة طنجة المغربية عام 1304، والذي دخل التاريخ بصفته أول رحّالة في العالم؟ طاف العالم على مدى أربعة وعشرين عاماً، قبل أن يعود إلى دياره ويحيا حياة روتينية، كقاض، ثم ليموت منسياً دون أن ينتبه إليه أحد. وشكراً للمدينة التي سُميت تيمناً بمدينة كانت لقرون طويلة المدار الذي تدور حوله طريق البلقان، أي قسنطينة الجزائرية التي كان اسمها صدى للقسطنطينة بوابة البلقان. ففي هاتين المدينتين، كتبت المصادفة حكاية رحلة استثنائية لرجل استثنائي. كان في عمر الحادية والعشرين عندما بدأ ابن بطوطة رحلته في شهر يونيو 1325. كان هدفه الحقيقي هو زيارة مكة. ولم يكن يدري أنه سيبدأ في رحلة طويلة، لم يعد بعدها إلى المغرب لمدة أربعة وعشرين عاماً. وكذلك لم يفكر أنه سيزور بلداناً لم يسمع بها قبل، بلداناً غريبة عليه، وستقوده قدماه إلى بلاد تسمى أرض البلقان. يقول ابن بطوطة عن رحلته: «رحلت وحيداً. لم أجد أحداً يؤنس وحدتي بلفتات ودية، ولا مجموعة مسافرين أنضم لهم. مدفوع بِحكمٍ ذاتي من داخلي، ورغبة عارمة طال انتظارها لزيارة تلك المقدسات المجيدة. قررت الابتعاد عن كل أصدقائي، ونزع نفسي بعيداً عن بلادي. وبما أن والديَّ كانا على قيد الحياة، كان الابتعاد عنهما حملاً ثقيلاً عليّ. عانينا جميعاً الحزن الشديد». كما كتب عن نفسه، موضحاً، كيف أنه ترك مهنته كقاض وفقيه، واختار أن يكون رحّالة ومؤرخاً: «من طنجة مسقط رأسي يوم الخميس 2 رجب 725 هـ /‏‏ 1324م معتمداً حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، منفرداً عن رفيق أنس بصحبته، وراكبا أكون في جملته، لباعث على النفس شديد العزائم، وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة كامن في الحيازم، فحزمت أمري على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور، وكان والداي بقيد الحياة فتحملت لبعدهما وَصَباً، ولقيت كما لقيا نَصَباً». طريق وانعطافات كل المعلومات المتوافرة عن حياة ابن بطوطة مصدرها السير الذاتية المذكورة في سياق حكايات رحلاته. ولم يكن ابن بطوطة ليشتهر، ويلقّب بـ«أمير الرحّالة المسلمين»، لو لم يكن أولهم. لقد سافر حول العالم قبل اختراع الماكينة البخارية ووسائل النقل الحديثة. قطع أكثر من 75 ألف ميل (121,000 كم)، وهو رقم لم يكسره أي رحّالة منفرد حتى ظهور عصر النقل البخاري، بعد 450 سنة. أسوق هذه المقدمة، ليس نيّة مني لتتبع رحلة ابن بطوطة، فهي تحتاج إلى دراسة خاصة، وما كنت جئت على ذكره، لو لم تقده أقدامه إلى السير على طريق البلقان، دون أن يخطط لذلك. ولتوضيح هذه الانعطافة في المسار، لابد من مصاحبته في رحلته، على الأقل إلى حين انطلاقه نحو بلاد البلقان. لقد سافر ابن بطوطة، أولاً، إلى مكة برّاً عبر ساحل شمال أفريقيا، وأثناء رحلته مرّ بكل من تلمسان الجزائرية وتونس، حتى وصل الاسكندرية، ثم القاهرة التي كانت عاصمة سلطنة المماليك، وهي مدينة كبيرة ومهمة في ذلك الوقت. وبعد قضاء قرابة الشهر في القاهرة، اختار أن يسير من الطريق الأقرب له من بين طرق عديدة في الأراضي الخاضعة لحماية المماليك. فمن بين الطرق الثلاثة المعتادة والموصلة إلى مكة، اختار ابن بطوطة طريقاً لا يستخدمه المسافرون كثيراً، وضم رحلة إلى وادي النيل، ومن ثم إلى شرق ميناء على البحر الأحمر في عيذاب، لكنه عندما شارف على الوصول، أجبرته ثورة محلية على الرجوع. عاد ابن بطوطة إلى القاهرة، وقام برحلة ثانية كانت هذه المرة إلى المماليك التي تسيطر على دمشق. وكان قد قابل خلال رحلته الأولى رجل علم تنبأ له بأنه لن يصل إلى مكة المكرمة إلا من خلال السفر عبر سوريا. وكان لهذا التحويل ميزة إضافية، حيث إن السلطات المملوكية لم تدخر جهداً في الحفاظ على مسار الحجاج آمنا؛ بسبب عديد الأماكن المقدسة التي تقع على طول الطريق، بما في ذلك الخليل والقدس وبيت لحم. ومن دون هذه المساعدة سوف يتعرض الكثير من المسافرين للسرقة والقتل. محطات وصُدَف وبعد أن أمضى ابن بطوطة شهر رمضان في دمشق، انضم إلى القافلة المسافرة إلى الجنوب، إلى المدينة المنورة، حيث قبر النبي محمد. وبعد أربعة أيام في المدينة سافر إلى مكة، وبدلاً من العودة إلى دياره، قرر ابن بطوطة مواصلة رحلاته، واختار الخانات كوجهته القادمة (الخانات المغولية في الشمال الشرقي). فبدأ رحلة طويلة عبر العراق وبلاد فارس والهند والصين، أي كل الشرق الأدنى وآسيا الوسطى وجنوب آسيا. وفي كل تنقلاته لم يكن في برنامجه الرحيل شمالاً ناحية البلقان. لكن هل هو قدر كل رحّالة مهاجر، أن تطأ قدماه طريق البلقان؟ هل هي المصادفة؟ ذلك أقصى ما يمكن أن يقال عن رحلة ابن بطوطة على طريق البلقان. والحكاية بدأت بالشكل التالي: ففي رحلته الثانية إلى مكة قادماً من إفريقيا عام 1330 أو 1332 (لا يوجد تاريخ مدقق لهذه الرحلة)، أقام فيها لمدة عام، بعد أن كان زار بغداد والنجف والموصل وسنجار (التقى شيخ الصوفيين هناك) وتبريز وأصفهان في بلاد فارس، بل بعد أن زار اليمن وأفريقيا (الصومال ومومباسا). وبعد نحو ست أو ثمان سنوات من التطواف، التقى ابن بطوطة سلطان دلهي الهندية المسلم، محمد بن توغلوك، وكان هذا بحاجة إلى دليل ومترجم يرافقه إلى رحلته نحو الأرض التي يسيطر عليها السلاجقة في الأناضول، فعرض عليه الإنضمام إلى واحدة من القوافل. وبعد ذلك، نقلته سفينة تابعة إلى جنوة من ميناء اللاذقية السوري إلى ألانيا الواقعة على الساحل الجنوبي لتركيا الحديثة، حيث سافر بعدها براً إلى قونيا، ومنها إلى سنوب على ساحل البحر الأسود، حيث سلك طريقه بحراً نحو شبه جزيرة القرم، وصولاً إلى مملكة القبيلة الذهبية، وفيها زار ميناء مدينة آزوف، حيث التقى أمير خان، وانتقل بعد ذلك إلى مدينة المجر الكبيرة والغنية. ومن ثم غادرها للقاء بلاط (حشد) مسافرين أوزبك خان، والذين كانوا بالقرب من جبل بيشتو. ومن هناك قام برحلة إلى بولغار (بلغاريا)، والتي أصبحت أعلى نقطة وصلها ابن بطوطة في الشمال. وقد أشار إلى لياليها القصيرة غير العادية ـ شبه الاستوائية ـ في فصل الصيف، ثم عاد إلى بلاط خان وانتقل معهم إلى استراخان. رفيق المرأة الحامل وعندما وصلوا إلى استراخان (اليوم هي إحدى مدن روسيا في الكيان الفدرالي الروسي استراخان أوبلاست)، كان أوزبك خان قد أعطى الإذن لإحدى زوجاته الحوامل، أميرة بيلون، ابنة الامبراطور اليوناني أندرونيكوس باليولوقوس الثالث، للعودة إلى منزلها في مدينة القسطنطينية لكي تلد، وهنا أخذ ابن بطوطة طريق عودته مرافقاً هذه الحملة التي ستقوده إلى القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطينية آنذاك، في نهاية 1332 (أو 1334)، حيث سيلتقي الإمبراطور اليوناني أندرونيكوس باليولوقوس الثالث، ثم ليزور كاتدرائية آيا صوفيا، التي سيكتب عنها وعن حديثه مع البطريرك المسكوني حول أسفاره في مدينة القدس. وبعد شهر في القسطنطينية، دون أن يدري أن المصادفة وحدها هي التي جعلته يحط رحاله في هذه المدينة.. فلو لم تكن زوجة السلطان أوزبك خان حاملاً، ولو لم يعطها السلطان الإذن لزيارة عائلتها في القسطنيطنية، لكي تلد هناك، كما هي العادة في العديد من مدن الشرق حتى اليوم. (ففي شهرها التاسع من الحمل تذهب المرأة للولادة عند أهلها).. لو لم يحدث كل ذلك لما زار ابن بطوطة القسطينطينة، ولما قدم لنا كشفاً مستفيضاً عن أحوالها في تلك الأيام. وبالتأكيد، فإن ابن بطوطة لم يكن يدري، أن مخطوطته سينتهي بها الأمر هنا أيضاً، وسيطلع عليها العالم بعد قرابة نصف قرن من رحلته تلك، رغم أنه لم يمكث في المدينة طويلاً، فهو عاد إلى أستراخان، ومن ثم إلى العاصمة ساراي آل الجديد ونقل حصيلة أسفاره إلى السلطان محمد أوزبك. تشكيكات استشراقية ورغم أن العديد من المستشرقين الغربيين لا يعتقدون بأن ابن بطوطة زار جميع الأماكن التي وصفها، ويقولون إنه من أجل توفير وصفٍ شامل في العالم الإسلامي، فقد اعتمد على الإشاعات واستفاد مما ذكره أو دونه المسافرون القدماء. فعلى سبيل المثال، هناك من يستبعد أنه قام برحلة حتى نهر الفولغا من ساراي الجديدة لزيارة بولغار. وهناك شكوك جدية حول عدد من الرحلات الأخرى، مثل رحلته إلى صنعاء في اليمن. وكذلك رحلته من بلخ إلى بيستام في خاراسان، ورحلته حول الأناضول. وبعض المستشرقين أيضاً شككوا فيما إذا كان حقاً قد زار الصين.، لكن رغم ذلك، ومهما بدت تعليقات المستشرقين في العديد من المؤاخذات منطقية، إلا أن ابن بطوطة فرض اسمه على الجميع، مثلما فرض واقعية «رحلته» وما وصفه عن هذه الرحلات. وحتى إذا كانت محطاته هي مجرد أماكن خيالية لرحلة «متخيلة»، نوى عليها ولم ينفذها، إلا أنها زودتنا بحساب مهم عن بلدان العالم في القرن 14، لما تتضمنه من شهادات. لقد عاين ابن بطوطة غالباً صدمة ثقافية في المناطق التي زارها من حيث العادات والتقاليد، التي لم تتناسب مع خلفيته كمسلم محافظ، يعود نسبه إلى القبيلة الأمازيغية المعروفة في بلاد المغرب لواتة. فمثلاً عندما شاهد الأتراك والمنغوليين ذهل من طريقة تصرف النساء، ولاحظ ذلك عند رؤيته لزوجين أتراك، مشيراً إلى حرية المرأة في التعبير، فقد كان يتوقع أن الرجل الذي يرافقها هو خادمها، ولكنه كان في الواقع زوجها. وشعر أيضاً بأن اللباس المتعارف عليه في المالديف وبعض مناطق جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا كاشفاً جداً. بعد انتهائه من كتابة «تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» في عام 1355، لم يُعرف إلا القليل عن ابن بطوطة، فيما ظل كتابه غامضاً، وغير معروف لعدة قرون حتى مطلع القرن التاسع عشر، حيث نشرت مقتطفات منه بالألمانية والإنجليزية، استناداً إلى مخطوطات اكتشفت في الشرق الأوسط تحتوي نسخة مختصرة من النص العربي لابن الجوزي. وخلال فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر تم اكتشاف 5 مخطوطات في مدينة قسنطينة الجزائرية في الفترة ما بين عامي 1830 و1840 ،حيث احتوت على مخطوطتين، إحداهما نسخة كاملة من النص. وأُحضرت هذه المخطوطات إلى المكتبة الوطنية الفرنسية في باريس حيث تمّت دراستها من قبل عالمين فرنسيين هما تشارلز ديفريمري وبينيامينو سانغوينيتي. وفي عام 1853 نشرا سلسلة من 5 مجلدات تحوي النص العربي مع ملاحظات شاملة وترجمة إلى اللغة الفرنسية. وتجدر الإشارة إلى أن النص الذي نشره ديفريمري وسانقوينيتي ترجم إلى عدة لغات، ولمعت معه شهرة ابن بطوطة حول العالم. المصادفة التي قادته إلى القسطنطينية، عاصمة الامبراطورية البيزنطية آنذاك، هي التي قادت إلى العثور على مخطوطته في المدينة التي سُميت على اسم العاصمة البيزنطية، حتى وإن كانت تبعد عنها آلاف الكيلومترات. فالمدينتان (البيزنطية والجزائرية) لا تشتركان بوقوعهما على حوض بحر واحد، هو حوض البحر الأبيض المتوسط وحسب، بل تشتركان بزيارة أو إقامة هذا الرحالة الاستثنائي، ابن بطوطة فيهما. كأن ذكرى القسنطنطينية الأولى هي التي قادته لاحقاً إلى المدينة توأمها البعيد، قسنطينة الجزائرية، أو كأن القسطنيطينية هي قدر لابد من المرور عليه؟ فكيف لا تكون طريق البلقان قدراً بشرياً لكل ما له علاقة بالانفتاح على العالم، على الكوزموبوليتية، حتى اليوم؟ عاصمة الإمبراطوريات كانت القسطنطينية عاصمة للإمبراطورية الرومانية، خلال الفترة من 335 إلى 395، وعاصمة الدولة البيزنطية من 395 إلى 1453، حين فُتحت على يد العثمانيين بعد محاولات عدة في 1410 و 1422، فدخل محمد الفاتح القسطنطينية، وأطلق عليها إسلامبول أو الآستانة. وبدخوله أصبحت المدينة عاصمة السلطنة العثمانية. غُيّر اسمها في عام 1930 إلى إسطنبول ضمن إصلاحات أتاتورك القومية. تأسست المدينة عام 658 ق.م. وكانت من قبل قرية للصيادين، وعرفت باسم بيزنطة. وفي عام 335 للميلاد جعلها الإمبراطور قسطنطين الأول عاصمة للإمبراطورية الرومانية الشرقية (الإمبراطورية البيزنطية)، وأصبح يطلق عليها القسطنطينية نسبة للإمبراطور قسطنطين الأول مؤسس الإمبراطورية. أصبحت المدينة مركز المسيحية الشرقية ومركزاً حضارياً عالمياً، فأضحت أعظم مدن العالم في ذلك العصر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©