الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قصيدة تصدرت البيانات الانقلابية!

قصيدة تصدرت البيانات الانقلابية!
19 مايو 2010 19:59
المدويّات: قصائد كان لها صدى ودوي في الذاكرة الشعرية المعاصرة، إما لموضوعاتها الجديدة، أو لبنائها الفني الحديث، واستحقت هذه الوقفات النقدية والقراءات الاستعادية التي تذكّر بها وتستجلي أصداءها. حين احتفل العالم العربي بمئوية الشابي العام الفائت استرجع قراؤه تلك النفثات الحارقة التي بثها صدره المزدحم بأحلام وأوجاع، وبآلام وآمال يحدّها عمره الغض من جهة، وثقافته ووعيه من جهة أخرى، فكانا قوسين يؤطّران حياته وشعره بل جملة وجوده الواحدة، فالشابي لم تكن تبعده عن قصيدته أية مسافة: حياته هي شعره، والعكس صحيح أيضاً، فكما كانت سنوات عمره قصيرة معدودة (خمسة وعشرون عاماً) كذلك كانت قصائده القليلة في ديوان وحيد لم يتح له الموت أن يراه؛ فقد صدر بعد وفاته بسنوات (توفي الشابي عام 1934 وصدرت طبعة الديوان الأولى عام 1955). القراءة العربية للشابي لكنّ قراءة الشابّي العربية خارج التراب التونسي لم تتعدَّ المشهورات من قصائده مثل (نشيد الجبار أو هكذا غنى بروميثيوس) التي يعلن فيها بيان صموده: “سأعيش رغم الداء والأعداءِ/ كالنسر فوق القمة الشمّاءِ” و”صلوات في هيكل الحب” التي مزج فيها غزلا ناعما بمواجد رومانسية تُماهي الحبيبة بالطبيعة: “عذبةً أنتِ كالطفولة.. كالأحلام.. كاللحن.. كالصباح الجديدِ/ كالسماء الضحوك، كالليلة القمراء، كالورد، كابتسام الوليدِ” و”النبي المجهول” التي يظهر فيها تشبعه بفكرة السوبرمان التي يردها دارسوه لقراءة متعجلة لفكر الفيلسوف نيتشه وهو ما نشك بحصوله بالدرجة التي تصورها بعض الدراسات لا سيما في عمر الشابي وسياق تعليمه وثقافته، ولعلها الثورة المحتدمة داخله على تلك القدرية التي أسلم لها الشعب نفسه وتقاعس عن النهوض والحركة ومقاومة الاستعمار واحتلاله: “أيها الشعب ليتني كنت حطّابا/ لأهوي على الجذوع بفأسي”. لكن ما حظيتْ به قصيدته الأشهر “إرادة الحياة” من اهتمام يستوقف قراءة الشابي للبحث عن تعليل يتجاوز شهرتها التي تعود لأسباب غير شعرية؛ فقد كانت لعقود تتصدر البيانات الثورية وأجواء الانقلابات، فصارت أغنية يشير تكرارها في الإذاعات إلى تغيير ينسب للشعب تحقيق إرادته وتحدي قدره الذي يراد له برغبة حاكم أو نظام، ولكن هذه الإرادة كانت في قصيدة الشابّي مشروطة بدليل تصدر أداة الشرط (إذا) للأبيات: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر إنها إذن إشارة أكثر منها قصيدة، وارتباطها بذاكرة القراءة لا تنفك عن دوي التغييرات والتحولات في الأنظمة العربية التي تدّعي كلّها تمثيل إرادة شعوبها، فيكون مجيئها إلى السلطة حتى بطريق الانقلابات والمؤامرات تحقيقاً لتلك الإرادة، وكأن ثمة من استفتى الشعب فيما يحصل وراء رنين الأغنية الثورية. زواج الرومانسية والقوة يتجسد في ديوان الشابي “أغاني الحياة” زواج شعري بين العذوبة الرومانسية والقوة السوبرمانية، وهما أهم مؤثرين في تجربة الشابي التي وجدت تجسدها في اندفاعها الفتي المستمَد من فتوة الشاعر نفسه. فهو يعلي أفكاره ويرمّزها ليبني صورا شعرية مرجعها الوحيد هو الطبيعة كنموذج جميل لما لم يدنسه البشر في أهوائهم وشهواتهم، وكمثال لما تكون عليه القوة التي لا تلين لضعف وخمول. ولذا قرن الحياة بالأغاني رغم الحزن الذي يشف من وراء غلالة الكلمات والصور والأخيلة التي يزخر بها شعره؛ ما يجعلنا نتساءل كسوانا من قارئي الشابي ودارسيه: أحقا هو هذا الفتى الذي كتب ما كتب بدءا من سن الرابعة عشرة؟ تعود أقدم قصائد الشابي المؤرخة إلى عام 1923، أما قصائد الديوان فيؤرخها الشابي دوما ذاكرا اليوم والشهر، وتعود بواكيرها إلى عام 1924، رغم أنه استبعد أغلبها من نسخة الديوان التي هيأها للنشر بنفسه بناء على دعوة أحمد زكي ابو شادي له خلال تواصله مع مجلة “أبوللو” في القاهرة وتبنيها قصائده نموذجا للأفكار التي تبشر بها المجلة، والسمة الرومانسية الغالبة عليها كإعلان عن هويتها التجديدية، بمقابل التقليد الشائع في شعر النهضة. ولكن رومانسية الشابي لم تُقرأ كما يحب هو، إذ لم يكن متشبعا بروح الرومانسية كما تمثلها جبران أو سواه من شعراء المهجر، فهو لا يرى الطبيعة خلاصا ذاتيا له وحده كما يرى زملاؤه، بل يذهب بالفكرة بعيدا ليرى في الطبيعة تجسيدا لا لبراءة وجمال ونقاء يعز مثالها في الواقع، بل يقرأ فيها درسا في القوة والتصميم والعزم، ويستلهم بذلك ما في المخيلة البشرية الأولى والفكر البري ـ كما يسميه شتراوس ـ والنماذج البدئية عن قوة الطبيعة وتحديها للزمن الذي يقهر الإنسان ويهزمه بينما تصمد الطبيعة وتتجدد منتصرة على الموت والفناء. وهذه الأمثولة هي التي قادته ليغرف من مشاهد الطبيعة ما يؤكد فكره الداعي للوقوف بقوة إزاء ما يتحدى إرادة الإنسان واختياراته؛ فتسير مقدراته كما يريد. الإرادة المشروطة تبدأ قصيدة “إرادة الحياة” وتنتهي بجملة شرطية: “إذا الشعب يوما أراد الحياة/ فلا بد أن يستجيب القدرْ” في البيت الأول، و”إذا طمحت للحياة النفوس/ فلا بد أن يستجيب القدرْ” في البيت الأخير (راجع مقتطفات من القصيدة آخر الدراسة) وكأن هذين الشرطين قوسان يحدان القصيدة ويحددان وجهتها، وتؤكد عودة القصيدة في الختام إلى بدايتها فكرة التجدد والولادة بالانبعاث والعود الأبدي في الأساطير، حيث تؤول المصائر إلى البدايات ولكن بشرط الإرادة، فيكون ما بين القوسين ـ الشرط وجوابه ـ عَقداً بين الشاعر والقارئ: إذا حصلت الإرادة وطمحت النفوس للحياة فسيتحقق جواب الشرط: لا بد أن يستجيب القدر! والذي يتأكد بتكراره في البيت الثاني مرتين بتغيير الاستجابة، ووضع الشابي جوابا قاطعا ًواحدا للشرطين: شرط المطلع إذا الشعب يوما، وشرط الخاتمة: إذا طمحت للحياة النفوس، وفيهما مشترك آخر هو الحياة في الجملتين فالعقد إذن يدور حول الحياة وهي موضوعه وغرضه، وهذا ما تغفله القراءات السياسية والبيانات الثورية. ولكن القراءة المتفحصة للنص وشعر الشابي كله ترينا اشتراط النيات بالعمل عنده، والإرادة المشروطة تزيد أعباء الشعب وتوجه له لوما خفيا تغفله أيضا القراءة الشائعة، وتتناسى أن استجابة القدر تستلزم رفض الموت الذي رآه الشابي في مفاصل الجسد العربي أو تأسف لوجوده، وودّ لو استطاع علاجه بما تلهمه الطبيعة، فقد احتكم للأرض ـ الأمَ كما يسميها فأجابته بأنها لا تحب إلا المستنيرين بنور الحياة لا الموتى ولولا أمومتها لما وسعت لهم قبورا في جوفها. ويستل أمثولة أخرى من قاموس الرومانسية المتداول وهو حياة الطير وحريته؛ فالفضاء لا يضمه ميتا بل يريده حيا طليقا ليكون جديرا بالحياة. فهل كان ذلك ما قدمته البيانات الأولى بعد انتصارها لتكون جديرة بقصيدة كإرادة الحياة ترددها في هيجانها المسلح؟ بين الفكرة والواقع في مفتتح محاضرته التي طوّرها كتاباً بعنوان “الخيال الشعري عند العرب 1930” يقول الشابي: “لقد أصبحنا نتطلب حياة قوية مشرقة ملؤها العزم والشباب، ومن يتطلب الحياة فليعبد غده الذي في قلب الحياة. أما من يعبد أمسه وينسى غده فهو من أبناء الموت وأنضاء القبور الساخرة”. ذلك ما حلم به الشابي: أن نتطلع للغد وحياة مشرقة قوية ولا نعبد الأمس فنكون من أبناء الموت، لكن الحلم مقيد عنده بل يضيق عنه أفق الوجود الفسيح ما يتيح للبشر، فيقول في قصيدته “قيود الأحلام” التي يُغني عنوانها البليغ عن شرح فكرتها: وأودّ أن أحيا بفكرة ِ شاعرٍ فأرى الوجودَ يضيقُ عن أحلامي وهذا التثوير المشروط غاب عن برنامج القراءة الشائعة ولم يلتفت إلى غلى تفاصيلها المعبرة عن فكر الشابّي ومشغّلاته الأساسية. إرادة الحياة إذا الشعبُ يوما أرادَ الحياة فلابدّ أن يستجيب القدرْ ولابدّ للَيل أن ينجلي ولا بدَّ للقيد أن ينكسرْ ومن لم يعانقه شوق الحياة تبخر في جوها واندثرْ كذلك قالت لي الكائنات وحدّثني روحُها المستترْ ..فعجّتْ بقلبي دماءُ الشباب وضجتْ بصدري رياحٌ أُخَرْ.. وأطرقتُ أصغي لقصف الرعود وعزفِ الرياح ووقع المطرْ وقالت لي الأرضُ لما سألتْ: “أيا أمّ هل تكرهين البشرْ؟” أباركُ في الناس أهلَ الطموح ومن يستلذ ركوب الخطرْ وألعن مَن لا يماشي الزمان ويقنع بالعيشِ عيشِ الحجرْ هو الكون حيٌّ يحب الحياة ويحتقر الميتَ، مهما كبرْ فلا الأفق يحضن ميتَ الطيور ولا النحل يلثم ميتَ الزهرْ ولولا أمومة قلبي الرؤوم لما ضمت الميتَ تلك الحفرْ ..ورفرفَ روحٌ غريبُ الجمال بأجنحة من ضياء القمرْ ..ورنَّ نشيدُ الحياةِ المقدَّ سُ في هيكلٍ حالم قد سحرْ وأُعلن في الكون أن الطموح لهيبُ الحياة، وروحُ الظفرْ إذا طمحت للحياة النفوس فلا بد أن يستجيب القدرْ!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©