السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حبيب سروري: استفحال الجنون حوّل كل فردٍ منا إلى منجمٍ روائي

حبيب سروري: استفحال الجنون حوّل كل فردٍ منا إلى منجمٍ روائي
2 يوليو 2008 23:35
في هذا الحوار يتحدّث الروائي اليمني الذي يقيم في فرنسا عن تجربته في الكتابة، وقضايا الرواية والشعر، ومعاينته للواقع العلمي العربي، وهو الأكاديمي المتخصص بعلوم الكمبيوتر· ؟ كتبت وأصدرت روايتك الأولى ''الملكة المغدورة'' بالفرنسية؛ ثم سرعان ما عدت إلى الكتابة والنشر بالعربية، من خلال ثلاث روايات ومجموعة قصصية وكتاب شعري· لماذا عدت من خيارك في الكتابة والنشر بالفرنسية· وهل يمكن أن تحدثنا عن التجربتين في جوانبهما اللغوية؟ ؟؟ بالنسبة لي لا الكتابة بالفرنسية أو بالعربية خيارٌ مطلق· ولا حتّى الكتابة نفسها، ربما!··· كلُّ شيء مرتبطٌ بالسياق الزمني للكتابة، بالرغبةِ في خوض مغامرةٍ أو تجربةٍ أو مشروعٍ ما بهذه اللغة أو تلك، بِلِمن من القراء تودُّ أن يصل نصّك في البدء، بماهية الكلمات الأكثر توهّجاً في الذهن ورغبةً في تجسيد الفكرة وانسيابها الحميمي على الورق!··· لست متأكداً تماماً، في حالتي على الأقل، أن ثمة قوانين محدّدة تُحرِّكُ بِوعي اختيار لغة الكتابة· أعرف فقط أن ثمّة مواضيع أحبُّ كتابتها بهذه اللغة، وأخرى باللغة الأخرى، لا أكثر ولا أقل··· ألجأ للعربية في الكتابة الأدبية منذ سنوات أكثر من الفرنسية لأن الوصول المباشر السريع للقارئ اليمني والعربي أولويتي حالياً· لا أعتبر بالنسبة لي أن العربية والفرنسية في وضعٍ تناحري، وأن الانتقال من إحداهما للأخرى خيانةٌ ما· بالعكس، أعشقهما بنفس القوّة· العربية لغة ثقافة طفولتي التي تسكنني أبداً، والفرنسية لغة ثقافة حياتي منذ 1976 وقراءاتي وحراكي اليومي· أراهما، على الطريقة الصينية، مثل اليينج واليانج، في صراعٍ وازدواجيةٍ تكاملية··· هما في حال توحُّدٍ جسديّ وتلاقح وتحوّلٍ دائم· كلُّ لغةٍ تحاولُ أن تذوب في الأخرى في لحظة التعبير··· ربما أجدُ لذّةً أكبر أحياناً بقراءة هذا النص أو ذاك أو كتابة هذه العبارة أو تلك، في هذه اللغة أو تلك· ذلك طبيعيٌّ في تضادِّ اليينج باليانج· غربة عن العصر ؟ قال أحد الكتاب وأظنه عبد الرحمن منيف أن الرواية هي تاريخ الفقراء، فيما يعتقد جورج أمادو أنها تاريخ لكل الطبقات· في روايتك نجد ملمحاً من التحولات التاريخية الاجتماعية، من زاوية فنية تنحو إلى الإدهاش، مع أن الحدث أو المشهد واقعي، أحياناً، كالذين يتظاهرون في عدن، في سبعينات القرن العشرين، مطالبين بتخفيض الراتب الذي يتقاضونه شهرياً كأجور عمل من مؤسسات الحكومة· إلى أي مدى يمكن القول إن التاريخي/ الاجتماعي ما زال مصدراً ثرياً للكتابة الروائية؟ ؟؟ كلُّ شيء في الحياة تقريباً مادةٌ خامة بإمكانها أن تُزهِر عملاً روائياً جميلاً إذا ما تمّ عجنُها وقولبتُها واستثمارُها فنيّاً كما يلزم· حياتنا العربية غنيةٌ بأحداث صغيرة أو كبيرة، عميقة المدلول، متعدّدة الأبعاد، لا تُعدُّ ولا تحصى ، مثل تلك التي ذكرتَها في سؤالك،·· هي مصدرٌ لا نهائي الثراء، لم نستلهم منه إلى الآن، في رأيي، إلا شذرات لا تستحقُّ الذكر·· واقعنُا العربي، بفضل ازدهار تناقضاته، بفضلِ غُربتِه عن العصر لانتمائه لِعصورٍ تليدة في الوقت نفسه، بفضل استفحال الجنون واللامعقول والمفاجآت في سيرورته اليومية، بفضل كلِّ غموضِ وخفايا علاقاته الاجتماعية والإنسانية ومآسي حياة المرأة فيه·· يُحوِّل كل فردٍ منا تقريباً إلى منجمٍ يمكنُ استلهامه روائياً! يخلقُ لنا هذا الواقعُ كل يوم مواد خامة لا حدّ لِغنائها وإمكانية توظيفها في العمل الروائي، ويُشكّلُّ لنا قبل كل شيء مسرحاً شاسعاً يمكن للخيال الروائي أن يرتع ويمرع فيه من دون حدود·· لنأخذ حال فرنسا ذات الـ60 مليون نسمة تقريباً: تتقدّمُ فيها سنويّا وبانتظام عشرات آلاف الروايات لدور النشر التي تختار منها حوالي 700 عمل سنوي فقط ترى فيهم قدراً كبيراً من التجديد في البنية والأسلوب والموضوع واللغة··إذا قارنتُ ذلك بضخامة واقعنا العربي وتداخل شِعابِه التاريخية والاجتماعية، وخصوبة مصادر مواده الخام الروائية التي تحدثتُ عنها قبل قليل، لقلتُ أن سؤالك عن مدى كون حياتنا الاجتماعية والتاريخية مصدراً ثريّاً للكتابة الروائية، لا يمكنُ طرحُه إلا بعد أن تكون قد صَدرتْ في المجتمعات العربية ألف رواية سنوياً، خلال عقود طويلة أو قرون· ؟ بدأت تجربتك الأدبية في كتابة الشعر، ثم اتجهت إلى الرواية· هل هو اختيار ذاتي اقتضته ضرورات فنية وتقنية ونفسية، أم أنه استجابة للأحوال الثقافية، خاصة في أوروبا وأميركا، والتي تحتل فيها الرواية المكانة الأولى في اهتمامات القراء؟ ؟؟ هو أوّلاً اختيار ذاتي محض اقتضتْهُ الضرورات التي تحدّثتَ عنها· لكن الوضع الثقافي الفرنسي الذي وجدتُ نفسي فيه، وموقع الرواية في مركزه، أولعَ ذلك الاختيار وخلق له المناخ الأنسب· لعلّ ذلك الموقع المركزي للرواية كان إحدى المفاجآت المعرفية الكبرى التي أثارتني كثيراً عندما وصلتُ فرنسا في ·1976 بعد تعلُّمي الفرنسية بدأتُ أوّلاً البحثَ عن الشعر في المكتبات! لم أجدهُ إلا مختفياً في رفوفٍ نائيةٍ فيها· بدا لي كما لو كان آرجون، الذي كان روائياً أيضاً، آخرَ الشعراء!·· لم أجد في المكتبات الفرنسية وواجهاتها إلا الرواية تقريباً·· القصّة القصيرة، مثل الشعر، نوعٌ أدبيٌّ ثانويٌّ بل نادرٌ جدّاً·· هكذا، بدا لي كما لو كانت الرواية الهواءَ الذي يتنفسهُ الناس· أما الشعر فهو نوعٌ من السيجار الراقي الذي يجد البعض لذَّةً في تنفسِّهِ بين الحين والحين· بالنسبة لي: الشعرُ ليس هذا السيجار الراقي فحسب، هو أيضاً العطرُ الذي يتسرّب في هواء الرواية ويملأه عبقاً عليلاً ساحراً· لعلّه زمن الرواية ؟ ماذا عن التحولات الأدبية العربية· هل ما زالت مقولة (الشعر ديوان العرب) تمثل حال المشهد الثقافي العربي الآن، أم أنه (زمن الرواية)؟ ؟؟ يبدو لي أن عبارة ''الشعر ديوان العرب'' لا تخلو من طنين أجوف! مثل عبارة ''اليمن بلد المليون شاعر'' وغيرها من المبالغات المحليّة!·· لا أبالغ كثيراً إذا قلتُ أن كلمة ''شاعر'' في عالمنا العربي تلتصق بالجملة بمن أراد، ولأي نص تقريباً! ثمة إسهالٌ هائلٌ يوميّ باسم الشعر لا يبقى شيء منه في الغالب في ذاكرتنا· كم هم الشعراء العرب الذين تُردِّدُ الإنسانية نصوصهم أو تعرفُ حتّى أسماءهم؟ لماذا اسم شهرزاد وحده محفورٌ حقّاً في وجدان الإنسانية فيما ''ديوان العرب'' ليس أكثر من لهجةٍ محليّة؟· بالنسبة للشقّ الثاني من سؤالك، لعله فعلاً زمنُ الرواية، لأسبابٍ تحدّثَ عنها كثيرون قبلي· أهمُّ هذه الأسباب في رأيي أن الرواية مشروعٌ ضخمٌ يتَّسعُ لكلِّ تفاصيل الزمانِ والمكان، يؤطِّرُ كلَّ قارّات الدماغ، يستقطبُ ويستوعبُ كلَّ ملكاتِهِ الفكريةِ واللغويةِ والجمالية· لا أختلف على أن الشعر سيظلُّ أبداً ملَكةً لغويّةً حادّةَ التميّز بالتأكيد، لحظةً جماليةً شديدةَ الكثافة· لكنه مُدانٌ اليوم بأن ''تُؤمِّمَهُ'' الروايةُ إلى هذا الحدِّ أو ذاك، لأنها تتَّسعُ لكلِّ اللغات، بما فيها اللغة الشعرية· لكنه ليس تأميماً يُلغي الشعر، بالعكس· لعلّ الرواية حياةٌ أخرى للشعر، موازيةٌ لحياته الأثيرة في صومعته التقليدية· الرواية أرضٌ بلا حدود مهيّأة لأن يكتسحها الشعر في كل لحظة· هي فضاءٌ شاسعٌ يسمحُ للشعر بمزيدٍ من التدفق والعطاء والانتشار في كلِّ شرايين الحياة· ؟ بصفتك بروفيسور، تقوم بتدريس علوم الكمبيوتر في جامعة روان والمعهد القومي للعلوم التطبيقية بفرنسا، كيف تقرأ الواقع الثقافي العلمي في البلدان العربية، وبالذات في جانب علاقته بالمنجز العلمي العالمي وتحولاته؟ ؟؟ الصورة قاتمةٌ جدا! المشكلة الكبرى لمجتمعاتنا العربية هي غياب العقلية العلمية بسبب المناهج التربوية التي تُعلّمُ الطالب منذ المهد كيف لا يفكر، كيف يخضع، كيف لا يتساءل ولا ينتقد! المناهج غيبيةٌ في جوهرها، عتيقةٌ في مادتها·· النتيجة: عدم مقدرة الإنسان على التساؤل والرفض والابتكار ومواكبة العلم والعصر، على الرغم من الإمكانات المادية الكبيرة لبعض الدول العربية، والغياب المريع للبحث العلمي والتكنولوجي!· العقلية التي تنتُجُها المدارس والجامعات في مجتمعاتنا تثيرُ هلعي: سأذكرُ لك على سبيل المثال فقط حدَثين من زياراتي لبعض الجامعات العربية بدعوات رسميّة· في إحداها زرتُ قريةً لإنتاج الكهرباء بالطاقة الشمسية! قال لي مسؤولُها إن التجربة فشلت لأن المعدّات التي نشتريها من الغرب لا تناسب جوّنا الصحراوي وتُتْلف بسبب الغبار بعد حوالي 12 سنة! تساءلتُ بقلق: لماذا لا يستغلّون إمكاناتهم الماديّة الهائلة لِعمل أبحاث محليّة لتكييف هذه المعدّات مع ظروفهم الجغرافية ولماذا ينتظرون أن يصنع لهم الآخر كلّ شيء؟· في زيارة أخرى لإحدى جامعات المنطقة رأيت ما أثارني بشكلٍ آخر: أروني مختبر أبحاث قال لي مسؤوله إنهم يصنعون فيه ''تمر فلكس'' (يخلطون التمر في ''الكورن فلكس'' الذي يتناوله الأطفال عادةً مع الحليب في الصباح!)· أيحتاج ذلك الإنتاج فعلاً لمختبر أبحاث؟· أيمكن في مجتمعات غير مجتمعاتنا التي تستفحل فيها العقلية اللاعلمية أن تنال هذه الأهميّة مهزلةُ ''علاج الايدز'' على طريقة الزنداني؟· باختصار، نحن غائبون علميّاً بشكل مريع حيث يلزم الحضور، وشديدو الحضور ببطوليّة خارقة في فَلكِ اللاأشياء الصغيرة!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©