الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«كارمن» في أبوظبي

«كارمن» في أبوظبي
20 مارس 2013 21:17
في إطار مهرجان أبوظبي، الذي يتزامن مع شهر الفرانكفونية، قدّمت الرابطة الثقافية الفرنسية في أبوظبي، والمعهد الفرنسي في الإمارات، وجامعة السوربون، رائعة الفرنسي جورج بيزيه (1840 ـ 1875) أوبرا “كارمن”، برؤية فرنسية معاصرة، بعد أن تمّ تصويرها سينمائياً في شهر ديسمبر من عام 2012، على مسرح دار أوبرا باستيل الوطنية بباريس، من إخراج إيف بوفيس، وقاد أوركسترا أوبرا باريس فيليب جوردان، التي قدّمها في أربع فصول في إيقاع مسرحي أوبرالي استثنائي حاز على إعجاب الحضور الذي نال متعة لا تضاهي على مدى أربع ساعات كاملة. والعرض مبني على قصة تحمل الاسم نفسه للكاتب الفرنسي بروسبير مريميه عام 1874. لعبت دور كارمن الأوبرالية السوبرانو آنّا كاتارينا أنطوناتشي، فيما لعب دور البطولة الرجالية بدور دون جوزيه، الجندي القروي الرومانسي “التينور” نيكولاي شوكوف، ولعب دور إسكاميلو مصارع الثيران “الباس” لودفيك تيزير، ولعبت دور الفتاة القروية ميكائيلا، عاشقة دون خوزيه “الميتزو سوبرانو” جينا كوهمرير. وقد شكل هذا الرباعي الأوبرالي الساحر، عمود هذا العرض الذي جاءنا منطوقاً بالفرنسية بترجمة إنجليزية مطابقا للواقع في صدق التعبير والأداء، بالإضافة إلى أكثر من مائتي عازف، ومؤد، وممثل، وكورس، أنشدوا هذه الملحمة الموسيقية الكلاسيكية على مدى أربع ساعات كاملة، كانت حافلة بالأنغام الشعبية ذات الطابع الإسباني، والمواقف الشاعرية المتناقضة، من الحب والكره والفقد والعفة والشجاعة، وأدوار الثنائيات بروح المسرح عن صراع الواجب والعاطفة والجسد، وعن العشق القاتل عندما يهوي بالقلوب المحطمة إلى بؤرة الانتقام في تصاعد للمأساة، في نهاية الفصل الرابع والأخير، وهو في تقديري من أروع فصول هذه التراجيديا الأوبرالية، التي تجري في ميدان عام بمدينة إشبيلية الإسبانية، أمام سور حلبة المصارعة، حيث يستعد عامة النّاس لمشاهدة أحد عروض مصارعة الثيران في أضخم احتفال شعبي تقليدي تشهده المدينة، فيما نرى كارمن وهي ترتمي في أحضان إسكاميلو، (غريم عاشقها دون خوزيه)، وتبوح له بأنها لم يسبق لها وأن أحبّت رجلا كما أحبته، دون أن تنتبه لتحذيرات صديقتها فراسكينا، من أن دون خوزيه بين الحضور، وأنّه ينوي قتلها، لكنها لا تأبه لذلك؛ لأنها ليست تلك المرأة التي ترتجف أمام أحد، في الأثناء يتقدم منها خوزيه بوجهه الشاحب اليائس، وبشكل هستيري يأخذ في استجدائها، ويقدم لها ثوب العرس الأبيض، لكنها ترفض حبه بقسوة، وأنها لن تخضع لأحد، فكما ولدت حرّة ستموت حرّة. وفي لحظة غضب مجنونة، وبقلب محطم، يهجم على كارمن، ويطوّق رقبتها بذيل فستان العرس، لتنتهي بين يديه جثة هامدة، وسط ذهول الجميع. وربما تكمن عظمة هذا المشهد في تلك الموسيقى الدرامية الكورالية الجنائزية، حيث تبدو النظرة الرائعة التي جاءت بها هذه الأوبرا في مجال التعبير الأدائي والموسيقي من خلال كورس أوركسترا أوبرا باريس، حيث مثل صوت المجموعة الضخمة هنا صوت الشعب الذي يمثل كل الأجيال، فتجد في أداء أوبرا كارمن، النساء والرجال والأطفال والشباب والكهول، من الطبقات كافة، ومن بينها فئة (الغجر) التي تشتهر بامتهان الرقص والغناء في الاحتفالات الشعبية، وكان لذلك تأثير كبير في تجسيد الحالة الشعبية والجانب الاحتفالي التي أظهرته كارمن في تقديم المشاهد الطبيعية في قوالب لحنية سلسة، كان يتداخل معها عنصر التمثيل، الذي تم إدخاله بصورة عصرية، دون المساس أو التأثير على الجانب الموسيقي الذي تمتع بالإثارة والطرافة والجمال وعذوبة الإيقاع، بحيث كان سهلا على جمهور أبوظبي، التداخل في نسيج العرض والتفاعل معه. بعد كل هذه السنوات تعود هذه الأوبرا الكلاسيكية الشعبية العظيمة إلى الجمهور العالمي والعربي على وجه الخصوص، برؤية معاصرة، بعد أن اعتبرها موسيقيون عظام أمثال: ديبوسي، سان سانس، تشايكوفسكي، برامز، واحدة من أفضل الأعمال الموسيقية التي أنتجت منذ الحرب الفرنسية ـ الروسية، على مستوى الموضوع والموسيقى، وعلى مستوى الأغنيات، حيث أنها تحتوي على اثنتين من أشهر أعمال جورج بيزيه، الأولى بعنوان “الهافاني رقصة كوبية”، والثانية بعنوان “مصارع الثيران”، حيث تم فيهما استخدام جميع الأصوات الموسيقية من السوبرانو والألتو والباص والتينور والباس، ببراعة ومهارة قلّ نظيرها، لكن ربما يبدو لنا من أن موضوع كارمن من الخارج، على أنّه مجرد صراع على الحب أو صراع على امرأة جميلة وسط حطام المجتمع، لكنها في الواقع غير ذلك، فهي تتناول المشاعر الإنسانية، وانكسارها وانهزامها أمام سطوة القوة والمال، وأيضا تصور صراع تلك القيم النبيلة التي كانت سائدة في ذلك الوقت، لتكشف المستور في صراع المجتمعات الحضاري، ما بين الارستقراطية والبرجوازية وأحلام البشر من خلال جوّ مشحون بالانفعالات وشتى الألوان الغنائية والتعبيرات في الأداء الغنائي والمسرحي الذي قام بجزء كبير منه “كورس أوبرا باريس” بقيادة الموسيقار والملحن باتريك ماري أوبرت، مع ذلك الديكور اللامتناهي في تكوينه وهندسته، من خلال بناء الخلفية التي تبدو لنا بوضوح كبيت قديم من طراز فن العمارة الوثيق الصلة بالهندسة ذات الملامح الشرقية من أبواب ونوافذ، وما يحيط به من وسائل لتسريع حركة المؤدين والممثلين الذين كانوا يتدفقون بسرعة هائلة على خشبة المسرح التي كانت ما تصبح غالبا أشبه بساحة احتفال شعبي. جماليات العرض يبدأ الفصل الأول من الأوبرا بافتتاحية موسيقية للأوركسترا تمهيدا لهذه الأجواء الخشنة، التي سرعان ما تكشف لنا أننا في أحد ميادين إشبيلية الإسبانية المقتظة بالبشر، بالقرب من مصنع السجائر، حيث يشعر ثلّة من الجنود وقائدهم موراليس (لعب الدور الأوبرالي الكساندر دوهاميل) بالملل أثناء تأدية الخدمة العسكرية، فيأخذون في الغناء على سبيل التسلية والمرح، حتى تظهر الفتاة الريفية ميكائيلا على عجلتها الهوائية باحثة عن خطيبها دون خوزيه، لكنها تصطدم بفظاظة هؤلاء الجنود الذين يلحّون في اصطحابها، مما يدفعها للهرب، وفيما يظهر خوزيه مع أحد الجنود، يدفع مخرج العرض بمجموعة هائلة من أطفال الشوارع، وعاملات مصنع السجائر إلى خشبة المسرح، حيث يقومون بتقليد الجنود والسخرية منهم، وفي الأثناء تظهر كارمن تلك الفتاة الغجرية الساحرة، النموذج المثالي للجمال المدهش الخلاّب ويتهافت عليها كل الرجال، وفي ديالوج ممتع من الغناء والحركة، يسألونها متى ستحبهم؟ فتجيب بأن الحب مثل العصفور المتمرد لا يخضع للقوانين، وتغنّي: “الحب طفل بلا قيود/ لا يعرف أي قانون/ أنا أحبك حتى لو لم تحبني/ إذا أحببتك فإحذرني”. وتستمر نشوة الاستعراض والغناء في امتزاج صوتي بارع بين غنائها وأصوات الجنود وعاملات المصنع لتصوير ذلك الأفق الروحي الممتزج بحواف من الرومانسية، حتى يطلب الجميع من كارمن أن تختار حبيبا لها، فتقوم بإلقاء وردة صفراء أمام خوزيه الذي لم يبد اهتماماً كبيراً بها في بداية الأمر، ويسجل مشهد الوردة بمقابل البندقية بداية للصراع الذي تجسده أصوات المجاميع الممتزجة بالأصوات المفردة (الصوليست)، فيما تبدو تلك التقسيمات الهندسية البارعة في توزيع أكثر من مائة مشترك لتجسيد افتتاحية العرض، في إطار ديكور ضخم يقوم على أربع مستويات من السلالم إلى الشرفات، حتى خلفية المسرح بديكورها المرتفع الذي أتاح تقديم لوحة أوبرالية شاملة تتوازن فيها هارمونية الصوت مع نوع الحركة والتجسيد. يتفرّق الحشد، وتعود النساء إلى المصنع، لتظهر الريفية ميكائيلا ثانية، ومعها رسالة لخوزيه من والدته، تنصحه فيها بسرعة الزواج، وقبل أن يردّ، نسمع صيحات عالية، يطلب فيها الكابتن زونيجا (جسده فرانكوس ليس) من خوزيه إستطلاع أمر المكان، لنعرف أن كارمن تشاجرت مع امرأة من عاملات المصنع، وجرحت وجهها بسكين، ويحاول زونيجا استجوابها، لكنها تتجاهله بشكل وقح من خلال أغنية شعبية، فيها مزاج موسيقي مختلف يقوم على التلوين النغمي الذي تلعب فيه آلتي (الأرغن) و(التشيللو) دورا مهما في تطوير فن الصراع الانساني في هذا العرض الذي كشف عن القيمة العظيمة المتكاملة لفن الأوركسترا، وعن الذوق الرفيع لدى آنا كاتارينا بدور كارمن، وهي تؤدي هذه اللحظة الأوبرالية الدرامية بصوت عاطفي وخفيف يتلءم مع غجرية فاتنة، تشعر أنها مهضومة الحقوق في الحياة والحب. تتدفق اللحظات الدرامية في المشهد، الذي ينتهي بأمر من القائد زونيجا للجندي خوزيه بمرافقتها وإيداعها السجن، لكن كارمن المحترفة فن الإغواء، وبأدائها المفعم الرقيق بصوت الليجر السوبرانو الخفيف الذي عادة ما يصنع لنا ذلك الجو المخملي الذي لعبت فيه إضاءة جول هوربجت دوراً مهماً في إضفاء البعد النفسي للشخصيات، تقوم بإقناعه بأنه بإمكانهما الهرب معاً خارج أسوار إشبيلية، وفي لحظة ضعف تراجيدية، يتركها خوزيه الذي أصبح مهووسا بها تهرب، ليحل مكانها في المعتقل. كرنفالية شعبية من الملاحظ أن دور كارمن، يعدّ أطول دور كتب لمغنية سوبرانو في تاريخ الأوبرات العالمية، وربما من أعقد الأدوار التي تؤديها مغنية لهذا الصوت الموسيقي الإنساني الرفيع، وفي هذه المرحلة من الفصل الثاني، نراها ترقص وتغنّي في حانة شعبية تدعى ليلاس، التي تتردد عليها في العادة عصابات المهربين والمأجورين من القتلة، فيما تقدّم كارمن وصديقتيها فراسكينا (لعبت دورها أوليفيا دوري) ومرسيدس (لعبت دورها لويز كالينيان)، أغان غجرية بوهيمية بألحان راقصة تظهر فيها قيمة آلات موسيقية رائعة مثل: الفيولا، الكروتا، مع اصطحاب هارموني بديع، وهنا يتودد قائد الجنود زونيجا، لكارمن حتى تذهب معه، لكنها أصبحت لا تفكر إلا في خوزيه، الذي يمكث في معتقل انفرادي منذ شهرين، وينتظر أن يفرج عنه هذا المساء، فيما يظهر بسرعة مصارع الثيران إسكاميلو، محاطاً بجمهور من المعجبات، حيث لا يتردد في أن يحكي لهن عن مغامراته وبطولاته وشجاعته الفائقة داخل حلبة المصارعة، محاولا التقرب من كارمن، لكنها لا تستجيب له، لتنتقل إلى لوحة مقابلة في المسرح الفسيح حيث يناقش مجموعة من المهربين وعلى رأسهم دانكاريو (يلعب دوره إدوان غروسلي ميركر) ورميندادو (يلعب دوره فرانكيوس فيلينو)، خططا مع كارمن وأصدقائها الغجر لسرقة بضاعة، لكنها ترفض مرافقتهم؛ لأنها في هذه اللحظة الساحرة لا تفكّر إلا في خوزيه، الذي سرعان ما يدخل المشهد، منشدا أغنية شعبية حالمة يعترف لها بحبه، وفيما ينفضّ الجميع تاركين لهم فضاء المسرح كله، تتجلى غنائية الثنائيات التي كانت تستهوي بشكل خاص الجمهور الإيطالي والجمهور الفرنسي، لمشاهدة موضوعات الحب، التي نلتصق بها الآن من خلال دويتو كارمن بقوامها الممشوق مثل الزهرة الكاملة التفتح، وخوزيه بلوعته وتدفق شبابه، فيما تأخذ كارمن مكانها في وسط المسرح لكي تسرد عليه قصصها مع الرجال، وبخاصة قائده زونيجا، ثم تغني وترقص له وحده، وفي لحظة خاطفة ينقطع كل هذا الجمال والروح الغنائية الموسيقية المفعمة بالعشق والهوى، بصوت الأبواق العسكرية، التي تنطلق داعية الجنود إلى ثكناتهم، يتغير مزاج كارمن، عندما يهمّ حبيبها بالرحيل، لكنه يتعهد لها بالوفاء العظيم، وحبه لها في أغنية “الزهرة الصفراء”: “ما من امرأة دخلت قلبي بعمق مثلك/ أنت لا تصدقين حبّي/ الزهرة التي قذفتني بها ما زالت في سجني/ في قلبي المتيم بحبك/ إني أحتفظ بها كعطر في داخل روحي/ وفي المساء أحب أن أراك”. في ختام الأغنية تطلب كارمن منه الانضمام إلى عصابة المهربين ليثبت لها تضحيته وحبه الحقيقي، لكنه يرفض، ليفاجأ بظهور قائده زونيجا، وسرعان ما يوجّه بندقيته إلى رئيسه، فيسرع الغجر إلى التدخل، وينزعون سلاح كليهما، ويهرب خوزيه مع كارمن إلى قمة الجبل حيث أجمل تصوير بالإضاءة للحظة الغروب. لا شك أن الفصل الثاني، يحمل كل جمالياته، سواء من خلال تقديم جانبا من روح التقاليد الإسبانية، أو من خلال تلك الملابس المبهرة والمتنوعة ما بين تاريخية وعصرية، والاستخدامات المثيرة للماكياج والشعر المستعار، والمفردات الديكورية المتحركة، والإكسسوارات، وإبراز ممكنات الصوت في الأداء الغنائي، وبخاصة استثمار صوت كارمن الذي ظل يتنقل في مرونته وطبقاته، وصولا إلى الطبقة المتوسطة وهي (السوبرانو الليريك)، ثم إلى الطبقة العريضة وهي (السوبرانو الدراماتيك الحزين)، وفي هذه الطبقة تتمكن فيها الأوبرالية من أداء الأصوات السفلى والوسطى في المساحة الصوتية لحنجرتها، وكذلك خوزيه بصوته التينور الرائع، مع طبقات قوية متدفقة، بحيث شكلا في هذا الفصل ثنائيا ناجحا، باعتباره الصورة الموسيقية المجسمة لمشاعر الحب المنكسر، في رشاقة لحنية تبعث على الفرح والأسى في آن. إنقلاب الشخصيات لقد بلغت موسيقى فيليب جوردان قمتها في الفصل الثالث، وهي تقدّم الأغنية الشعبية التي تنسجم تماما مع حالة انقلاب الشخصيات، بعد أن نرى خوزيه يصل خشبة المسرح من اخل كهف صخري، حيث يتقاسم المهربون سرقاتهم، وحيث تنقلب كارمن على حبيبها خوزيه، التي سرعان ما تفصح في أغنية حزينة أنه لم يعد فارسها، وأنها لم تعد تحبّه، مدركة بأنه لم يعد يلائمها، فهو ليس من الغجر، وغير قادر على التآلف مع حياتهم وعاداتهم وتقاليدهم ورؤيتهم للحياة، وتعترف له صراحة أنها مغرمة بمصارع الثيران إسكاميلو. وفي نقلة سريعة تلعب فيها الإضاءة دوراً مؤثراً في فصل اللوحة إلى ثلاثة مشاهد، نرى كارمن تجلس مع صديقاتها لقراءة الطالع، وتلك التنبؤات بالرومانسية والحب والثراء والترف، حيث تبدو روح الموسيقى الفرنسية بإيقاعاتها التي لا تخلو من الرشاقة والطرافة والتألق والصفاء، لكن ذروة المشهد تكشف عنه بطاقات كارمن التي تشير إلى موتها الفاجع، الذي يتحقق كما أوضحنا في الفصل الرابع والأخير، في حين يصل إسكاميلو، ويخبر خوزيه بأنه مفتون بحب وجمال كارمن، وتدور بينهما المعركة الفاصلة، ليترك مصارع الثيران المكان، داعيا الجميع إلى حفلة لمشاهدة مثيرة لمصارعة الثيران، وتظهر الريفية ميكائيلا لتخبر خوزيه بموت أمه حسرة على فراقه. وهنا تتجلى أروع أغاني ذات صلة بموسيقى وفيرة ثرية للتعبير الصادق عن العواطف والأشواق والندم. هذه هي تقريباً معطيات هذه الأوبرا العظيمة التي وصلتنا في تصوير سينمائي حديث، بصورة مصقولة ممتعة، لفصول أربعة من مسرح دار أوبرا باستيل الوطنية بباريس، وهي صورة إنسانية رقيقة، يعود تحقيقها في الحقيقة إلى قائد الأوركسترا الحساس المرهف فيليب جوردان، ولا جدال أن مهمة قيادة هذا العدد الضخم من الموسيقيين شاقة وعسيرة، وتتطلب مقدرة فائقة ذات خاصية التحكّم القيادي والزمني والإخراج التعبيري للأداء، ثم ربط التسلسل الموسيقي والغنائي بين الأوركسترا سيمفوني والغناء والحركة ومجال الصوت على المسرح، وكان جوردان أكثر من مايسترو في ربط المجموعات الغنائية مع البيانو الذي يحلّ أحيانا مكان الأوركسترا، هذا مع تحديد السرعات والأداء العام من حيث التعبير مثل (الفورتي ـ القوي) والبيانو الخفيف التدرج في القوة والضعف (الكريشندو، والديميتو يتدو ـ السرعة والبطء) حتى كنا جميعا نعيش في أجواء الرشاقة الموسيقية الفرنسية الساحرة التي وضعت خطواتنا على طريق الأغاني الشعبية التي أعيد تقديمها بتوزيع وإيقاعات معاصرة جذابة. روعة السوبرانو النسائي إذا كان من حديث عن الأداء، فتقدمه ببراعة آنا كاتارينا (كارمن) في فلسفية صوتية قلما نحظى بها على المسرح الأوبرالي، فقد تمتعت برشاقة وحركة وتعبير صادق، جعل منها صورة العرض بكامله، وبخاصة في أدائها لطبقة السوبرانو الدراماتيك، حيث عبرت من خلاله بقوة عن اختلاط المشاعر ما بين الانفعال والألم والبهجة والمرارة، حتى وصلت بها إلى قمة التراجيديا المعاصرة، وكما استقبلها الجمهور المحترف في باريس وبقية دول العالم بالترحاب والتصفيق، استقبلها جمهور أبوظبي بروح احترافية عالية وإنصات ينسجم تماما مع القيمة الفنية والإنسانية لهذه التحفة الموسيقية الاستثنائية، كما أن الصورة السينمائية المصقولة التي وصلتنا، لم تتحقق كثيراً إلا من خلال التصوير البارع لدار أوبرا باستيل بطوابقها ومقصوراتها الملكية وجمهورها الذي زاد عن ثلاثة آلاف متفرج شاهدوا تحفة جورج بيزيه بصورة معاصرة ما بين الكلاسيك والروح الشعبية، والإطار العالمي للفنون العالمية المتطورة ومنها الموسيقى المبتكرة التي شاهدناها في أعلى قمة الرشاقة والنجاح. وذلك يقودنا في الواقع إلى الحديث عن جهود الرابطة الفرنسية التي اعتادت الاحتفاء بجمهور أبوظبي من خلال برنامجها الشهري الثقافي، الذي كشفت عنه لـ”الاتحاد الثقافي” نائلة خليفة، وهو برنامج يتصدره حاليا شهر الفرانكفونية الذي يضم معرض ملصقات لآخر عشرين سنة من الفرانكفونية، ومهرجان الفيلم الفرانكفوني في أبوظبي في الفترة ما بين 23 إلى 30 مارس الجاري، ويضم مجموعة من العروض السينمائية من المغرب “حصان الريح”، وبلجيكا “العمالقة”، وكندا “السيد الأزهر” الذي سبق عرضه في افتتاح الدورة السابقة من مهرجان أبوظبي السينمائي الدولي، ومن لبنان “المجتمع اللبناني”، وسويسرا “الغرفة الصغيرة”، ومصر “الجوع”. من المهم الإشارة في النهاية إلى هذا العرض الممتع، الذي قدم لجمهور أبوظبي معلومات وفيرة من خلال هذه النسخة المصورة التي كشفت عن كواليس تصوير اوبرا كارمن سواء من خلال التحضيرات والتجهيزات في كواليس المسرح وغرف الماكياج والطريقة التي يتم بها تجهيز الممثلين والشعر المستعار والأقنعة والخدع البصرية، وكذلك الحوارات التلفزيونية الثقافية مع أبطال العرض وشؤون كثيرة ذات صلة بفن الأوبرا والدعوات الملحة كي يصبح فنا جماهيريا في متناول الجميع، ونجحت كارمن ببساطة وجمال موضوعها، وحرفيتها الموسيقية وأسلوبها الرقيق المنفتح على موسيقى الآلات (السوناتة والسيمفونية) من جذب كافة شرائح الجمهور، وهو غاية ما نبحث عنه في ظل الابتكارات المتسارعة في عالم الأوبرا والأوراتوريو، وغيرها من أشكال الفنون البصرية الحركية المتطورة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©