الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كاسيوس لونجين يبرز جماليات اللغة «في الجلال»

كاسيوس لونجين يبرز جماليات اللغة «في الجلال»
26 أغسطس 2009 00:14
«في السمو»، «الأسلوب الرفيع»، «سمو البلاغة»، جميعاً تعد ترجمات مختلفة للمصطلح الذي اختاره كاسيوس لونجين عنواناً لكتابه «في الجلال»، الذي أخرجه للعالم قبل ما يقرب من ألف وسبعمائة عام، وترجمه إلى العربية الأستاذ الدكتور عدنان خالد عبدالله، وهو من إصدارات «مشروع كلمة». المتحف المتنقل والكتاب أول وثيقة بلاغية من التراث الإغريقي تحمل مؤثرات عربية من حيث اهتمامها بجماليات الشعر العربي، وما به من مصطلحات بلاغية، وقد تولدت فكرته، عندما التقى لونجين ذو الأصول العربية والثقافة الإغريقية الواسعة، والذي بلغ شأناً كبيراً من العلم والمعرفة حتى أن معاصريه أطلقوا عليه لقب «المتحف المتنقل» في بلاط زنوبية - ملكة تدمر- بحضارات وآداب متنوعة ومدهشة، فتدمر آنذاك كانت محطة استراحة للقوافل الذاهبة والقادمة من الشرق، وكان الناس يلتقون في هذه الواحة الصحراوية الثرية والمترفة حاملين معهم بضائعهم وتوابلهم وعطورهم وأغانيهم، فتختلط الآداب المختلفة بالأغاني، والتجارة بالشعر والغرب بالشرق في تناغم وتآلف نادرين، وكان لونجين يرى ويسمع ويعي كل هذا التنوع والغنى والتلاقح. ثمن الإخلاص ويقول الكاتب، عندما ألف لونجين كتابه «في الجلال» كان محط إلهامه الشعرية العربية والعبقرية الجمالية المرتبة به وليس الأدب الإغريقي الذي تركه وراءه عندما غادر روما دون رجعة وهو شيخ كبير قادماً إلى تدمر ليساهم في إعمارها وسطوع نجمها دون أن يدري بأنه ربما سيكون السبب في خرابها ودمارها إلى يومنا هذا.ويضيف، أن لونجين ولد في تدمر، وليس في روما، ولكنه عاد إلى تدمر في السنوات الأخيرة من عمره ليساعد على تعزيز تلك الإمبراطورية الناشئة وجعلها تنافس روما، وذلك بتحريضه للزباء بالتمرد على روما، حتى دفع حياته ثمناً لإخلاصه لبلده ومسقط رأسه. نهاية مأساوية ثم يعرج بنا عدنان خالد، إلى الحديث عن أهمية «في الجلال» في النقد الأوروبي، قائلاً، إن أول ترجمة فرنسية لهذا الكتاب ظهرت في عام 1674 وكانت للناقد الشهير بوالو Boileau، وأحدثت دوياً كبيراً حتى أن اسم لونجين أصبح شائعاً على ألسن المثقفين والمتأدبين آنذاك. ويرجع الكاتب هذه الشهرة التي نالها كتاب لونجين إلى سببين: أولاً: سيرة حياة لوجين وعبقريته وارتباطه ببلاط الزباء ونهايته المأساوية على يد أورليان (حاكم روما)، حيث أصبح عند الناس نموذجاً للبطل الذي قدم حياته ثمناً لأفكاره ومثله. ثانياً: أن بوالو كان قد تزعم الحركة النقدية في فرنسا والمعروفة باسم الكلاسيكية المحدثة Neo- Classicism، والتي كانت تؤكد على محاكاة الكتاب الإغريق والرومان والالتزام باللياقة وأعراف التقليد الأدبي، وباتباع قواعد وأصول محددة للنظم والكتابة. فن الشعر وكان بوالو قد ألف واحداً من أشهر كتب النقد الأدبي في العالم آنذاك وهو «فن الشعر» (1674) الذي صاغه شعراً وضمنه قواعد الكتابة الناجحة بدءاً من كيفية اختيار الموضوع وانتهاءً بكيفية إنهاء الجملة وموضع الفاصلة في الكلام. وهذا الكتاب يلخص أسس الكلاسيكية المحدثة وأفكارها وانجازاتها، وهذا الكتاب يؤرخ لهموم عصر انتهى وولى وانتهت معه مثله الأدبية وأفكاره النقدية. ويضيف عدنان خالد، إنه توافق نشر ترجمة «في الجلال» مع نشر كتاب فن الشعر لبوالو في السنة ذاتها، ويبدو أن بوالو كان يعمل على الترجمة منذ أمد بعيد، حيث إن بعضاً من تعبيرات لونجين قد تسللت إلى مفرداته ومجازاته في كتاب فن الشعر. محاكاة القدامى ويلفت إلى أن شهرة بوالو الواسعة كناقد ومنظّر ساعدت في انتشار كتاب لونجين وهيأت الأذهان لقبول أفكاره، أو على الأقل بعضاً منها. كما أن ترجمة بوالو أدت إلى ذيوع شهرة كتاب «في الجلال» ومؤلفه، وسرعان ما التقطه الإنجليز (الذين كانوا ينظرون إلى ريادة فرنسا الأدبية بإعجاب)، وجعلوا مفرداته وأفكاره جزءاً من المعجم النقدي الإنجليزي آن ذاك، وأصبحت مفردة الجلال موضع بحث نقدي وجمالي وفلسفي غزير، ومن جملة الموضوعات التي لاقت الاستحسان والقبول عند الانجليز هي بعض النصائح التي أسداها لونجين لتلميذه أو صديقه عبر صفحات الكتاب، حول بعض المجازات التي قد تؤدي إلى رفعة النظم وسموه، وتحذيراته الكثيرة من الهبوط بالكلام إلى مستوى السوقية والفجاجة، علاوة على مناداته بمحاكاة القدامى لكي يتعلم الناشئة أصول الكتابة وأسسها، وتحولت هذه النصائح إلى قواعد مقدسة لا يمكن لكاتب أو ناقد أن يحيد عنها، وسرعان ما ارتبط اسم لونجين بتلك القواعد والأصول حتى أصبحت صنواً له ومرادفاً لأسمه. الموهبة والفن وبعد ذلك يتحدث الكاتب عن مفهوم الجلال لدى لونجين، الذي عبر عنه بقوله «إن الجلال يكمن في التميز في الفكر والتعبير، وهما الخصلتان اللتيان تعزى إليهما شهرة الشعراء والناثرين العظام، واكتسبوا من ورائهما سمعتهم الخالدة، فاللغة الرفيعة لا تهدف إلى اقناع السامعين بل إلى سلب لُبهم، وما يؤدي إلى دهشتنا وتعجبنا يكون دائماً وأبداً أشد تأثيراً مما يقنعنا ويرضينا. وإن كان الإقناع يكون في العادة تحت سيطرتنا».كما يتناول كاتبنا بالشرح والتحليل رؤية لونجين لعديد من القضايا المرتبطة بالأدب وبلاغة التعبير، ومنها علاقة الطبيعة أو الموهبة بالفن، واصفاً الطبيعة بأنها ليست قوة عشوائية، ولا تعمل دون منهج، ورغم أن الطبيعة هي السبب الأول والمبدأ الإبداعي الأساسي الذي يحكم كل النشاطات، ولكن يجب أن تعمل وفقاً لأطر وقواعد، لأن الجلال يكون خطيراً عندما يترك له الحبل على الغارب أو يكون تحت رحمة الجهل، ولا يكون آنذاك مرتبطاً بالمعرفة والعلم. ويدلف أيضاً للطريقة التي تناول بها لونجين عيوب الخطاب، وكذلك أصل العيوب الأدبية، التي يمكن أن تخالط الجلال وتؤثر سلباً عليه. ثم يعود ليحدثنا عن مصادر الجلال الخمسة، وهي: القدرة على تكوين الأفكار العظيمة. الانفعالات والعواطف الملهمة. القدرة على تكوين المجازات. المفردات النبيلة وحسن اختيارها. التأثير العام الناجم عن الرفعة والسمو. مكانة أدبية وكذلك يتحدث عن نبل الروح باعتباره من أهم عوامل الجلال، قائلاً إن «الجلال هو صدى للفكر النبيل»، مشيراً إلى أن الكلمات ستكون أكثر وقعاً عندما تكون الأفكار عظيمة، لذلك فأن التعابير الرفيعة ترد على نحو طبيعي عند الرجال الذين يتمتعون بكبرياء. وبقراءة باقي صفحات الكتاب نكتشف أن المترجم عرج مع كاسيوس لونجين إلى عديد من القضايا والإشكاليات الأدبية، المرتبطة بشكل جذري برقي اللغة، وسمو الأداء التعبيري عند جماعة المشتغلين بالأدب، ملقياً الضوء على محاولات لونجين إلى الارتقاء باللغة وتحقيق ما أسماه ب»الجلال» وهو ما أعطي لونجين مكانة أدبية ونقدية مهمة على مر التاريخ، ولكنه لم يحتل ذات المكانة في منطقتنا العربية، برغم أن هذا الجلال الذي تحدث عنه لونجين، ما كان له أن يتحدث عنه أو يتناوله بالشرح والتحليل، لولا احتكاكه المباشر بالحضارة العربية ومفرداتها، وعلى رأسها صنوف الآداب والفنون. المؤلف كاسيوس لونجين (213- 273 م) هو وزير الزّبّاء الذي ولد في حمص ودرس في الإسكندرية وكان صديقاً حميماً للفيلسوف فورفريوس وأستاذه أيضاً وهو أحد تلامذة أفلوطين، مؤسس الأفلاطونية المحدثة، وكان معلماً للبلاغة في أثينا، التي قضى فيها معظم حياته قبل أن ينتقل إلى تدمر للعمل في البلاط معلماً ومربياً ومستشاراً، ولكن القدر لم يمهله طويلاً هناك، حيث قدم حياته قرباناً للزّبّاء بعد أن أتهم بأنه حرضها على الثورة ضد روما، وهكذا أُعدم بناء على أوامر صريحة من الإمبراطور أورليان عام 273 بعد الميلاد. وقد اشتهر في عصره بأنه من أكثر النقاد حصافة وعلماً، حتى أُطلقت عليه تسمية مكتبة حية ومتحف متنقل، ويقصد بالمتحف هنا مؤسسة عالية التعليم، كناية عن سعة اطلاعه وغزارة علمه وكثرة إنتاجه الذي فقد معظمه، ولم يصلنا منه غير أقل القليل. إن من لا يتمتعون بحظ من الحكمة والطيبة ويرتادون مناطق المتعة واللهو، إنما ينحدرون إلى الدرك الأسفل ويهيمون على وجوههم دون أن يرفعوا رؤوسهم إلى الأعلى نحو الحقيقة ولا أن يحاولوا الوصول إليها ولا أن يتذوقوا تلك المتع النقية والخالدة، فهم كالأنعام رؤوسهم منكسة وإلى الأرض وإلى طاولات الولائم منهمكون بالتناسل والرعي فيزدادون بدانة، ولكي تزداد ممتلكاتهم يرفسون وينطحون بقرونهم وحوافرهم المعدنية ويقتلون بعضهم بعضاً من شدة الجشع. أفلاطون
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©