أنا من الإحساء أكبر واحات جزيرة العرب، ومن أكبر الحواضر والعواصم العلمية لجميع المذاهب والمدارس الفكرية. استفدنا من سفن أقدم ميناء في المملكة، وهو ميناء العُقَير «بضم العين وفتح القاف»، أكثر مما استفدناه من البّر، محلياً وعالمياً! فيه يبحر أهل الإحساء ونجد وما جاورهما إلى شتى دول الخليج وإلى العالم، ولا ننسى ميناء جدة لمن يريد الحج بحراً.
لم تكن سفن ميناء «العُقَير» سفن بضائع فقط، بل كان لها دورٌ عظيم سامٍ من حيث تنقّل علماء الإحساء، وطلاب العلم الذين يفدون إليها من دول الخليج للدراسة الدينية في المدارس العلمية وأربطة العلم والمساجد. ورد ذلك في مؤلفات كثيرة.. منها تحفة المستفيد بتاريخ الإحساء في القديم والجديد للقاضي الشيخ محمد ابن عبدالقادر، وكتب د. عبدالله السبيعي، والإحساء عبر أطوار التاريخ للمؤرخ خالد الغريب، وصفحات من تاريخ الإحساء للأديب عبدالله الشباط، والمدارس العلمية في الإحساء للباحث التربوي اللغوي عبدالله الذرمان، وعن طريق هذه المراكب هاجر نخبة من علماء الإحساء إلى الخليج لنشر العلم الشرعي واللغة العربية والأدب، فأصبح منهم أئمة وعلماء وخطباء ومستشارون وسفراء، ولم تزل بعض أفراد الأسر موجودة إلى الآن في دول الخليج. وكانت السفن إلى عهد قريب تستهوي بعض العوائل الإحسائية لزيارة أقاربها في البحرين بعد انتقال الميناء لمدينَتَيْ الخبر والدمام إلى قبيل افتتاح جسر الملك فهد بن عبد العزيز (رحمه الله) عام 1407هجرية.
وهناك حجّاج من الإحساء ونجد ومناطق أخرى يحجّون عن طريق السفن في ميناء العقير مروراً بالبحرين والإمارات وعمان والهند واليمن الجنوبي والشمالي وباب المندب وسواحل جازان والقنفذة قبل جدة، فيستريحون في تلك الدول والمدن الساحلية، ويوطّدون العلاقات، ويتبادلون السلع، وتقوم بينهم المراسلات النثرية والمساجلات الشعرية والأهم تبادل الكتب ونسخها. فالمصادر والمخطوطات تحكي لنا عن علاقات قامت بين الإحسائيين وعلماء تلك الدول والمدن وكذلك مع التجار والفلاحين. ولا ننسى المناقشات والتدارس والتتلمذ... إلخ، عبر رحلاتهم بالمراكب المباركة.
.................................................
* شاعر وباحث سعودي
عدد اليوم
