الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قدسيّة الشعر عند قدماء العرب

قدسيّة الشعر عند قدماء العرب
20 أغسطس 2009 00:46
ضاع معظم تاريخ العرب القديم، فلم نعد نقرأ منه إلاّ إشاراتٍ شحيحة، هنا وهناك، في كتب المؤلفين القدامى كابن النديم والجاحظ والمسعودي، والطبري، وابن هشام، وابن كثير... ولذلك نحن نجتزئ بتقبّل المقولة الشائعة: «الشعر ديوان العرب»، على مَضض، وهي المقولة التي صاغت المستشرقة الألمانيّة زيغريد هونكيه منها مقولتها: «العرب شعب من الشعراء». لكن ما وراءَ ذلك من طقوس وأفعال وسِيَرٍ ومظاهر تُثْبت ذلك تفصيلاً فلا نكاد نظفَر منه إلاّ بالنزر القليل: فكيف كان يَقْرِض الشاعرُ قصيدتَه؟ أكان كلُّ شاعر كاتباً فيكتُبَها قبل أن تُرْوَى عنه فتسيرَ في الآفاق؟ أم كان الشاعرُ يَقرض قصيدته معوِّلاً على مجرّد الذاكرة، قبل أن تلتقطها عنه ذاكرة راوِيَتِهِ فيُسَيِّرها بين الناس؟ ثمّ كيف كان يُنشد زهير ابن أبي سُلمى، مثلاً، معلّقته وهو يُشيد بالمواقف السلميّة لِهَرِم بن سِنَان والحارث بن عوف بعد أن سعَيَا في الصلح بين عبْس وذبيان، وبعد أن تحمَّلا دِيَاتِ القتلى وقد كاد القتل يُفني القبيلتين؟ وبِمَ كان يَتَطَقَّسُ (يتّخذ طقوساً) عمرُو بنُ كلثوم حين أنشدَ معلّقته العظيمة في الفخر بقبيلته؟ وما كان ردّ فعْل قصيدته في تغلب، وهي التي هُجِيَتْ بأنّه ألهاها قصيدةٌ قالها عمرو بن كلثوم!؟... ألاَ يكون ذلك الإلهاءُ ضرْباً من تقديس نصّها بينهم، وتحفيظه الجوارِيَ والغلمانَ، وإنشادِه في المجالس والمواقف العِظام؟ ثمّ كيف كان ردّ فعْل الحاضرين حين كان الشعراء يُنشدون فيهم أشعارهم؟ أكانوا يصفّقون له أم كانوا يَجْتَزئون بتَرْدادِ عبارات الإعجاب والإكبار، والثناء الجميل، دون تصفيق؟ أم لم يكن لا هذا، ولا ذاك؟ وإنّما كانوا يلتزمون الصمتَ حتّى كأنّ على رؤوسهم الطيرَ تمعُّنا وتتبُّعاً، وتأمُّلاً وتمتُّعاً؟... ثمّ ما سرُّ هذه المعلّقات التي عُلِّقتْ على أستار الكعبة، وهي أقدس مكان على الأرض؟ وكيف حدَث الرّبْطُ بين الطقوس الدينيّة والطقوس الشعريّة؟ وما تفسير أمْرِ عمْرو ابن هند للحارث بن حِلِّزةَ حين أراد أن يُنشدَه معلَّقته، بأن يتوضّأَ قبل أن يُنشدها!؟ وما سرُّ أنْ يُسمِّيَ أعظمُ شاعر عراقيّ في التاريخ القديم «ذا القرنين» الطَّوّافَ: «جلجاميش» في ملحمته التي يطلق عليها أستاذنا الدكتور نجيب محمد البهبيتي «المعلّقة العربيّة الأولى»؟ وما ذا وراء قول ابن رشيق في «العمدة» مِن أنّ القبيلة كانت تُقِيمُ الاحتفالات العظيمة فتُطعم الطعام، وتتسابق بالخيول، ويتغنَّى نساؤها بالدفوف، وتتقبّل تهاني القبائل الأخرى حين كان يَنبَُِغُ فيها شاعر خِنْذِيذٌ ينضَح عن عِرْضها، ويتغنّى بمآثرها، ويرُدّ على مَن تطاولَ عليها بالهجاء؟ أيكون كلّ ذلك لأنّ الشعر كان مجرَّدَ «ديوان العرب»، أم لأنّ الشعر كان عند العرب بمثابة القيمة الوجوديّة، لا يمكن العيش إلاّ به، ومعه، ولَهُ؟ ثمّ هل كان الشعر، كما هو شائع في كتب النقد القديمة، مجرّدَ نِتاج الخيال، أم كان الشعراءُ ثَقِفِينَ متعلّمين حكماءَ يتمثّلون صورة الحياة والطبيعة والإنسان والكون فيضمِّنُوا كلّ ذلك في أشعارهم كدريد بن الصّمة، والحارث بن حلّزة، وزهير بن أبي سلمى، وأميّة بن أبي الصَّلْتِ...؟ وبعد، فليست هذه إلاّ مُساءلاتٍ يمكن أن نعيد من خلالها كتابة تاريخ الشعر العربيّ القديم الذي قد يكون نجيب البهبيتي أوّلَ مَن يضع لبِنتَه في كتابه الخطير: «المعلقة العربيّة الأولى عند جذور التاريخ».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©