الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بورما... خيار الاحتواء لتحفيز الانفتاح

بورما... خيار الاحتواء لتحفيز الانفتاح
17 أغسطس 2009 01:30
بعد أن أخفقت سياسة العقوبات وإزجاء الوعظ السياسي لنظام ميانمار (بورما) العسكري على مدى عشرين عاماً، أصبحت هناك حاجة ماسة الآن لمقاربة أخرى تشمل تعاطي الغرب مع زعماء بورما، وزيادة المساعدات الإنسانية، وإعادة تفعيل العلاقات التجارية مع تلك الدولة. وإذا لم يفعل الغرب ذلك، فليس التغيير الإيجابي وحده هو الذي سيصبح مستعصياً أكثر من ذي قبل، بل إن بورما كلها ستتحول، وعلى نحو سريع، لا سبيل لعلاجه، إلى تابع اقتصادي للصين، بالمعنى الحرفي للكلمة.ومن المؤشرات الدالة على استعصاء نظام ذلك البلد على الضغط الغربي، الحكم الذي أصدره مؤخراً على «أونج سان سوكي» زعيمة المعارضة الحاصلة على جائزة نوبل، بوضعها قيد الإقامة الجبرية للمرة الرابعة، وبقاء ألفي سجين سياسي وراء القضبان، وعدم ظهور أية علامة تحول ديمقراطي في الأفق. ومن واقع تجربتي الشخصية، عندما ولدت في الولايات المتحدة لأبوين بورميين عام 1966، كان جدي «يوثانت» يشغل آنذاك منصب الأمين العام للأمم المتحدة. وعندما بلغت الثامنة من عمري أُتيحت لي رؤية القهر بعيني في بورما أثناء القلاقل التي وقعت هناك أثناء تشييع جنازة جدي. وفي عام 1989، وبعد تخرجي في الكلية، قضيت عاماً في تايلاند وتحديدًا في منطقة تقع على امتداد حدودها مع بورما، حيث تعاونت مع المنشقين البورميين في مساعدة أول موجة من اللاجئين من أبناء هذا البلد. وفي ذلك الوقت، لقي الآلاف مصرعهم في الانتفاضة المناوئة للحكومة، ووضعت «سو تشي» قيد الإقامة الجبرية للمرة الأولى، كما رفضت الطغمة العسكرية الحاكمة تسليم السلطة لحكومة مدنية بعد أن خسرت الانتخابات. وعندما عدت إلى واشنطن، عقب تلك الأحداث، دخلت في جدال مع أعضاء من الكونجرس وغيرهم حول الوسيلة المناسبة للتعامل مع النظام البورمي، وكان رأيي آنذاك هو أن فرض عقوبات قصوى هو الوسيلة الوحيدة لإطاحة الديكتاتوريات، بشكل عام. وقد أثبتت الأيام فيما بعد صحة حجتي. فمع بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، كانت جل المساعدات الغربية التي تقدم لبورما قد أوقفت، كما تم كذلك حظر جميع المساعدات التنموية التي يتم تقديمها عبر المنظمة الدولية والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي. وبعد ذلك بعقد من الزمان، تكفلت عمليات الحظر والمقاطعة بقطع جميع العلاقات الاقتصادية للنظام مع الولايات المتحدة وأوروبا. وفي عام 2006، نشرت كتابا بعنوان: «نهر آثار الأقدام الضائعة: تاريخ شخصي لبورما» دعوت فيه إلى إجراء تغيير في مقاربة الغرب تجاه النظام. وحتى عندما سحق النظام بعنف بالغ تظاهرات احتجاجية جديدة ضده عام 2007، بقيت مقتنعاً بأن قدراً أكبر من التعاطي مع هذا النظام هو الطريق الصحيح لاحتوائه. وكان إحساسي وأنا أقتنع بذلك أن العديد من صناع السياسات والصحفيين لا يرون الصورة الأكبر، وأن الكثيرين منهم لم ينتبهوا إلى مظاهر الفقر المدقع الذي كانت البلاد تعانيه نتيجة عقود من الحرب الأهلية، والتخبط الاقتصادي، والمقاطعة والحظر، وقطع المساعدات.وفي عام 1991، حذر مدير «اليونيسيف» من تعرض أطفال بورما لمأساة إنسانية، وقال إن تقديم المزيد من المساعدات لتلك الدولة أمر عاجل لا يمكن معه الانتظار حتى تتولى حكومة مناسبة البلاد. ومثل هذه الأوضاع المأساوية تجوهلت على أمل أن تؤدي العقوبات واللغة الخشنة مع النظام إلى التغيير السياسي، وهو ما لم يقع. ويرجع ذلك جزئياً إلى أن هؤلاء الذين صاغوا تلك العقوبات لم يضعوا في اعتبارهم الكيفية التي سيؤدي بها صعود العملاقين الآسيويين، الصين والهند، إلى تغيير المشهد الاقتصادي في بورما. فعندما انسحبت الشركات الأميركية من تلك الدولة في منتصف التسعينيات بدأت الشركات الصينية والآسيوية تتدفق عليها، وتحل محلها. وساهم ذلك التدفق في اكتشاف حقول غاز طبيعي بحرية تصل قيمتها إلى مئات المليارات من الدولارات، وفي قيام عدد من المشروعات المهمة منها مشروع يستغرق عامين لمد أنبوب للنفط والغاز يبلغ طوله ألف كيلومتر عبر بورما من أجل وصل المقاطعات الصينية الداخلية بالمناطق الساحلية. وعلى رغم أن بورما غير معرضة لخطر التفكك الاقتصادي، إلا أن سكانها، وفي غيبة المساعدات الأجنبية معرضون لخطر التحول إلى ارتهان اقتصادي فعلي لجيرانهم الصينيين الذين يبلغ تعدادهم 1.3 مليار نسمة. وفي الشتاء الماضي، أعلنت إدارة أوباما عن إجراء مراجعة لسياستها في بورما، وآمل أن تضع هذه الإدارة في اعتبارها، وهي تفعل ذلك، أن سياسة الحظر والمقاطعة لم تفشل فحسب، بل كانت لها نتائج عكسية، حيث أدت إلى سحب عناصر القوة الأميركية الناعمة من ذلك البلد، في حين أن استمرارها كان كفيلاً بتغيير شكل المشهد هناك كلية. ولا يعني التعاطي مع النظام في بورما إجراء محادثات معه فحسب، وإنما يعني إلى جانب ذلك التعامل أيضاً مع القوى القادرة على خلق حقائق جديدة في المشهد هناك، وهو ما يمكن أن يتم من خلال العلاقات الاقتصادية مع الشعب البورمي. وكذلك، لا ينبغي لهذا التعاطي أن يكون مبنياً على فكرة أن النمو الاقتصادي سيقود تلقائياً إلى الديمقراطية، وإنما يتعين أن يقوم على فكرة إلحاح التعاطي مع أمراض بورما السياسية والاقتصادية في الوقت ذاته. ومرة أخرى، يشعر الكثيرون في أميركا وفي مختلف أنحاء العالم بالغضب جراء ما يجري في بورما من أحداث، ولكن على هؤلاء أن يدركوا أنه بدون نمط جديد من التفكير بشأن التعاطي مع نظام تلك الدولة، فإن عشرين عاماً أخرى ستمر دون أن يقترب حلم بورما الديمقراطية المزدهرة من التحقيق، بل وقد يصبح أبعد منالاً مما هو عليه الآن. ثانت ماينت ـ يو محلل سياسي، ومؤلف كتاب «نهر آثار الأقدام الضائعة: تاريخ شخصي لبورما» ينشر بترتيب خاص مع خدمة «لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©