الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سبع طرق تؤدي إلى الموت

سبع طرق تؤدي إلى الموت
15 مارس 2012
أتساءل: هل يفكر الروائي فعلاً بالشكل الذي سيكتب به روايته، بالمتن/ المبنى الروائي، وأجيب بالإنكار، لأن المبنى بحسب ما يقول أغلب النقاد يأتي اعتباطاً، حينما يشرع الروائي بكتابة روايته لا يفكر إلا بأن يتساءل عن كيفية الدخول إلى عالم ما يريد الكتابة عنه، لكنه لا يفكر بشكل كلي بالمبنى الذي سيجمع فيه هذا العالم. المبنى، مكون ليس ثانوياً، فهو جمالية العمارة الفنية، هو روح التشكيل، هو خريطة المضمون وتكشفاته وأول ما يواجه المتلقي، والآن ربما تنتاب القارئ الحيرة عندما يجد هذا الشكل معبراً عن المضمون بكل تجلياته، إذ وهو يكتشف هذا العالم يتساءل إلى أي صنف ينتمي، ويتساءل أيهما برع فيه الكاتب، في مضمونه أم شكله. في آخر عمل سردي من الأعمال الروائية الستة التي ترشحت في قائمة البوكر العربية القصيرة والتي سيتم منها اختيار العمل الفائز أجد أن الرواية السادسة “عناق عند جسر بروكلين” للكاتب المصري عز الدين شكري فشير هي العمل الذي لا بد أن نقرأ فيه مضمونه من خلال شكله. الرواية نص يقرب أن يحمل دلالات فلسفية أكثر من أن يكون نصاً حياتياً، نص إشكالي، يتضمن مجموعة كبيرة من الأغراض، يحاول جاهداً أن يقترب من مجموعة من المفاصل ومنها الغرب/ الشرق، الموت/ الحياة، الحب/ الكره، الذات/ الآخر، الهوية/ الجنسانية. هذه الثنائيات الضدية هي التي ستحرك مقالتي هذه عن هذه الرواية وأبدأ بثنائية الموت والحياة. بؤرة مركزية تتكون الرواية من 8 فصول تطول وتقصر بحسب ما يكتنف الفصل الواحد من معلومات تخص ذات السارد، وهي تعبر عن وجهة نظر 8 ساردين، أي أن الرواية تتقابل فيها 8 فصول/ 8 ساردين. الفصل الأول بؤرة مركزية وهو فصل الجد درويش الأستاذ الجامعي في التاريخ والذي يعاني من مرض السرطان وهو صاحب الأيام المعدودات في الحياة والذي تخلى عن بيته في المدينة وجزء من مكتبته الكبيرة ليشتري بيتاً صغيراً في الريف الأميركي، وهو هنا يقرر قبل عزلته أن يقيم لحفيدته سلمى حفل عيد الميلاد. وهذا الفصل هو ما يمكن أن أطلق عليه فصل “الموت”. أما الفصول الأخرى فهي 7 فصول جميعها يضطلع بها ساردون، موزعون على ولايات أميركية بعيدة وهم مدعوون لحضور الحفل، وجميع هؤلاء يعانون من وسائل الانتقال وكأنهم بذلك يذهبون لا إلى حفل ميلاد، بل هو عزاء وتوديع/ موت درويش، إلا أنهم لم يصلوا. أجد أن هناك بناءين لهذه الرواية، أولهما البناء الشكلي وثانيهما البناء المضموني. في البناء الشكلي قدم الروائي في الفصل الأول الغاية (حفل الموت المرتقب) ثم قدم في الفصول من (2) إلى (8) وهي 7 فصول مسعى الشخصيات للوصول إلى الغاية، أي أن البناء هذا يقوم على ترتيب “الغاية ثم الوسيلة”. في البناء المضموني لا بد أن يكون تسلسل الفصول أن يتأخر الفصل (1) ليحتل مكان الفصل (8) لأنه الغاية من توجه الشخصيات السبع إلى حفل الميلاد. وهنا لا بد أن يقلب الترتيب إلى هذا النمط “الوسيلة ثم الغاية”. وأجد أن حتى “سلمى” صاحبة الحفل ومركزه لا تصل إلى هذا الحفل وكأن الحفل بهذا المعنى جزء من الوهم/ حفلة الموت التي يريد الجميع تقديم التأبين فيها غير أنهم لا يصلون. التجريد الروائي وأجد حقاً أن درويش الجد أقام حفلاً بوصفه فاقداً لما تبقى من العمر لكي يستعيد وجود السنوات الضائعة تلك بحفيدته سلمى الشابة التي تذكره بوجوده الحياتي المفقود. تبدو الرواية “تجريدية” وهي فعلاًَ في هذا الإطار كونها رواية شخوص عرب في عالم أميركي، ولأن هؤلاء لا يستطيعون أن يقيموا علاقات اندماجية مع المجتمع الذي هو ليس مجتمعهم (في الحاضر) تراهم يعودون إلى الأبنية الاجتماعية التي ينتمون إليها (في الماضي). هنا، وفي كل فصل نجد حاضراً قصيراً وماضياً طويلاً وكأن الرواية قد بنيت في كل فصل بهذه التشكيلة الماضي (المستعاد) و(الحاضر) المفقود، أما المستقبل فهو غير متحقق بعدم الوصول إليه، وكأن الرحلة تتلخص بالذهاب إلى الأمنيات (الحفل) التي يكتنفها الموت. درويش الأستاذ الجامعي يتذكر ابنته ليلى التي تقطن مصر الآن بعد أن هجرت زوجها الطبيب لقمان وابتعدت عن أخيها يوسف الذي يقطن في ولاية أميركية بعيدة، ودرويش وفي الساعات المقبلة سيستقبل ضيوفاً دعاهم إلى حفل أقامه لعيد ميلاد حفيدته سلمى ابنة ليلى. يستذكر درويش الماضي وعلاقته بثلاث نساء “جين وريما وزينب” حيث ارتبط بهن من خلال منطق غير محتمل الوقوع، إذ عبر كتاب “ألبرت حوراني” والمسمى “تاريخ الشعوب العربية” تنهض كل علاقات هذا الرجل بالنساء الثلاث. جين لم تقرأ الكتاب، ريما لم تقرأ الكتاب، زينب قرأت الكتاب. كتاب التاريخ وكأننا نتساءل هنا: هل يرى فشير أن حياة “درويش” بكل وعيه ستكون ملخصة في قراءة كتاب حوراني بوصف القراءة موجهاً لمصائرهن معه، أو هل أن كتاب حوراني محور لقياس مدى علاقة درويش بالنساء الثلاث حيث تزوج درويش من زينب أخيرا كونها قرأت كتاب حوراني. هذا هو ما نقول عنه بالعالم الافتراضي، إذ يفترض “درويش” أن هذا الكتاب مشؤوم كونه يستحضر كل ذكرياته مع أولئك النساء الثلاث. في الفصل الثاني “اللجوء إلى مارك” يتجه رامي تلميذ درويش في الجامعة إلى حضور الحفل، هنا يقدم الروائي بطله رامي مع أسرته (زوجته ماريا وابنتيه ساشا ومارتا) ويطرح من خلالهن مفهوم الوحدة التي تتلخص بعدم حديثهن باللغة الأم “العربية”. ألاحظ في هذه الرواية ابنية لغوية ضعيفة ولا أدري فعلاً هل تقصدها الروائي لتلائم موضوعة الفصل، ففي الفصل الثاني هذا الذي لا يتواصل فيه رامي مع أسرته عبر لغته الأم نجد هذا البناء الجملي الضعيف: “فهذا الأمر ضروري لنا كي نظل أوفياء لأنفسنا، كيلا نفقد ذاتنا أو كي نحققها أو كي هذا أو كي ذاك”. هذا التكرار لـ “كي” 5 مرات لا يخدم النص ولا أعرف هل هو تجديد لغوي يأتي به الروائي ليبهرنا به. ونلاحظ أيضاً: “وأدى ذلك البوح لأمرين: الأول أن..” وهذا بناء ليس روائياً بل هو تحليلي جاء في السرد. عبر محور الشرق والغرب تتلخص صراعات رامي الذي انفصل عن عائلته التي تفكر غربياً وانفصلت ليلى عن لقمان حيث عادت إلى القاهرة وتمسك داود وزوجته أميرة بالفكر الإسلامي في الغرب الأميركي. يطرح الروائي إشكالية حياة العربي المهاجر عبر هذه الشخصيات، بل عبر مجمل شخصيات روايته، وفي هذا الفصل تحديداً دخل الروائي إلى حد بعيد بالتحليل الاجتماعي عبر “الأمرين وهما الأمر الأول.. ثم الأمر الثاني ثم “الأمران الناتجان عن عملية البوح”.. هذه اللغة التحليلية للبنية الاجتماعية التي يعيشها رامي تجعل غاية الرواية ليست فنية في مضمونها بعكس ما رأيناه في بنيتها الشكلية المتطورة. طبيعيون ومهاجرون هنا يقدم رامي شخصية صديقه اليهودي مارك على أنه أكثر انسجاماً من عائلته التي فقدها بالرغم من أصولهم العربية، إلا أنهم يرفضون الانتماء والتحدث بلغتهم الأم، تلك العائلة التي تقسم الأميركان إلى طبيعيين ومهاجرين. في الفصل الثالث فرسان الدمار الذي يضطلع به “يوسف درويش” يستذكر حبيبته سيليا وذكرياته معها في أفريقيا كونهما يعملان معاً في الأمم المتحدة، وهو يتوجه الآن إلى الحفلة. يستخدم الروائي استذكاراً ماضوياً، حاضراً مفقوداً، تضميناً حكائياً خارج حكاية النص الأصل من أجل إدامة نصه وتوسيعة ومثاله قصة الفتاة في الجنجويد مع الشابين الأفريقيين. يقدم فشير في فصله الرابع شخصية المتدين في خضم صراعات الغرب أبناء جالوت، والمسلمين أبناء داود يحكي مفاهيمه في ضرب البرجين. هنا نشعر أن الروائي أراد أن يجمع كل التناقضات الكونية في رواية واحدة فبدت محاولة افتراضية لصراعات أفراد وليس لصراعات ومصائر تتلاءم مع كونيتها. هذه الرواية لا تبني موضوعتها على صراعات درامية، بل هي تدخل في نسق حكائي مفترض عبر سبع قصص قصيرة لهؤلاء الساردين. هنا نتساءل: هل هذه الرواية ما هي إلا 7 قصص قصيرة؟ كل قصة هي فصل وكل فصل لابد أن ينتهي بالحاضر، كون الشخصية تعيش مكاناً يؤدي إلى بيت درويش وهي في طريقها إليه لحضور الحفلة، ويحصل التباطؤ كذلك يحصل أن تخذل التكنولوجيا الأميركية المتطورة تلك الشخوص في الوصول إلى موعدها.. وأتساءل: هل أن عدم الوصول الذي لم تستطع التكنولوجيا الأميركية تحقيقه هو موقف أراده الروائي إزاء العالم الغربي؟ هؤلاء الساردون يظهرون تارة بضمير المتكلم (3 ساردين)، ويظهرون تارة بضمير الغائب (5 ساردين)، هنا لا بد أن نتساءل: لماذا يسرد “يوسف الابن وداود زوج أميرة الرجل المتدين، ولقمان الطبيب زوج ليلى وهو أبو سلمى” بضمير المتكلم. وهنا أقول لا أحد يستطيع أن يؤكد دواعي تفرد السرد باتجاه ضمير المتكلم لهؤلاء الثلاثة وضمير الغائب لخمسة أشخاص يضطلعون بالفصول الخمسة الأخرى وهم “درويش ورامي صديق درويش وعدنان المحاسب ابن أخت درويش، ورباب طالبة درويش، وأخيراً سلمى حفيدة درويش وابنة ليلى من لقمان”. إذ نرى أن تغليب ضمير الغائب هنا ما هو إلا دليل على انسحاق ضمير المتكلم وتضاؤله في المجتمع الغربي الذهاب إلى الموت يتساوى جميع الشخوص بالاهتمام بالماضي، بسرده ولم يترك أحدهم ماضيه مجهولاً، وبذلك نجد أن الروائي أدخل روايته في إشكالية نمطية حينما أوجد هذا التشابه في طريقة تفكير شخوصه سردياً ولم يخلق تفاوتاً بينهم، بل لم يقدم أحداً منهم في حالة تفاؤلية مطلقاً، فهم شخوص مأزومون يعيشون إشكاليات نفسية واجتماعية وتاريخية، إذ هم ـ بحسب “لوكاتش” ـ يمثلون أزمة الشخصية الإشكالية البرجوازية، وبحسب هيغل فإن البطل في التعليم الرأسمالي يبدأ ماجناً عربيداً ثم لا يلبث أن ينتهي إلى أحد أمرين فإما الامتثال للآلية الاجتماعية وإما الوحدة والعزلة”. وأنا كقارئ كنت أتمنى أن يظل أحدهم مرتبطاً بالحاضر فقط، ولا يعنيه ماضيه، حتى أولئك الذين يؤمنون بأميركا لم يستطيعوا أن يتخلوا عن شرقيتهم التي تحتفي بالماضي فسقطوا في النمطية، هذه الشخصيات النمطية ـ كما قلت ـ مرسومة بالتشابه. إذ أن الشخصية الوحيدة التي لا ماضي لها في السرد هي “ليلى” التي لا فصل لها وهي الأكثر وعياً بالاختيار من الجميع والتي اختارت مصر فرجعت إليها. يبدو لقاء عدنان (صاحب الفصل 6) ورباب العمري (صاحبة الفصل 7) في الطريق إلى بيت درويش حيث لم يصلا إليه، يبدو لقاؤهما صدفة في المطار أقرب لأن يكون “فيلماً شرقياً” حقاً، إذ لا مبرر لأن يقحم الروائي نفسه في تمثل هذا اللقاء الذي لا يبدو عفوياً، بل يتضح أنه قد صنع بشكل قسري يلفت الانتباه إلى عدم توقعه على مستوى سير الأحداث. في الفصل الثامن والأخير “منتصف الليل في محطة بن” والخاص بسلمى التي تعيش ليلة مرعبة، حيث لم تجد الطريق إلى بيت جدها درويش وهي المحتفى بها، هل تموت سلمى؟ ذلك سؤال يطرحه نص روائي مفتوح النهاية على احتمالات يخترعها القارئ، حيث جرحت سلمى بأثر ضربة تعرضت لها من شباب أميركان ينوون اغتصابها. افتراضات النص فهل ماتت أم لا؟ ذلك ما لم تقله الرواية. هنا نقف أمام افتراضين، أولهما أن سلمى لم تمت، وثانيهما أنها ماتت، فإذا افترضنا أنها ماتت فإن ذلك يلغي فرضية الشخوص السبعة في الفصول السبعة المتوجهين إلى حفل الجد درويش لتوديعه الوداع الأخير. وإذا كانت الرواية قائمة على موت واحد/ وداع واحد حيث لم تمت سلمى لأصبح شكل الرواية قائماً على هذه الفرضية. لعب الروائي على مفهوم تعميق الهوية ورفضها، عبر “رامي” المؤمن بالهوية وزوجته وبناته المؤمنات بالجنسانية ولعب على مفهوم الحب والكره في علاقة عدنان بوالده وتمثل العقدة الأوديبية في تلك العلاقة حيث العدائية المستعرة بينهما وتصالحه الدائم مع أمه التي تذهب به دائماً إلى بيت خالها درويش حيث كان معجبا به. كما لعب على مساحة واسعة من الصراع الغربي/ الشرقي، وأعتقد أنه قد أرهق روايته بكل هذه الإشكاليات المعاصرة والتاريخية، كما أنه أرهق الرواية بعدد هائل من الشخوص الذين تجاوزوا العشرين شخصاً والذين لم يرتبط بعضهم بالآخر بروابط اجتماعية، فهل سجلت الرواية قراءة لبنية اجتماعية، بالطبع كلا، إذ لم يقف وراء الرواية بناء اجتماعي يمكن أن نقرأ مشاكله وتداعيات علاقاته وحركته التاريخية في زمن معين ومكان محدد. ظل المكان غائباً، حيث لا ملامح له، ولا يمكن تمثله، إذ هو افتراضي لم يحدد الروائي شكله بشكل دقيق لأنه ليس مكاناً واحداً بل هو 7 أماكن.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©