الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رفاعة الطهطاوي أول معترض على نهب الآثار

رفاعة الطهطاوي أول معترض على نهب الآثار
5 مايو 2010 20:18
“الرحلة الكبرى للمسلة” كتاب للروائي الفرنسي روبرت سوليه وله مجموعة من الروايات المتميزة، من بينها “الطربوش” التي ترجمت إلى العربية في دمشق، وتحكي تجربته أو سيرته في القاهرة، حيث ولد عام 1949 بحي مصر الجديدة وانتقل إلى فرنسا عام 1964 للدراسة الجامعية ولم يعد إلى مصر الا زائرا. يتناول سوليه في كتابه رحلة مسلة رمسيس الثاني من موقعها الأصلي أمام معبد الاقصر حتى باريس وإقامتها في ميدان الكونكورد عام 1836 فقد تكفل العمال والمهندسون المصريون بسحبها من موقعها حيث نقلت بالنيل إلى القاهرة، وتم تحريكها بعد ذلك إلى الإسكندرية ونقلت بالجهد اليدوي، ومن الإسكندرية في سفينة بالبحر حيث وصلت إلى فرنسا، لتصبح أقدم أثر في باريس، فقد تم نحتها من جرانيت أسوان الوردي في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. والفرنسيون منذ زمن بعيد لديهم هوس بالمسلات أو الأعمال الحجرية وهذا الهوس هو جانب من الولع الفرنسي بمصر القديمة، وخلال القرن التاسع عشر كان هناك العديد من المشاريع الهندسية في فرنسا المستوحاة من المسلات، وكانت هناك فكرة لإقامة مسلة في ميدان قوس الباستيل وأخرى في ميدان النصر، وجرى التفكير في وضع اثنتين في ميدان الكونكورد.. وظهرت بنايات كثيرة في فرنسا على شكل المسلات، في المدن والحدائق والمقابر وتقاطعات الغابات، ولم تستخدم المسلات كأشكال زخرفية فقط بل كانت علامات لتحديد الطرق أو لتخليد ذكرى معينة. فقد اقيمت إحداها في حديقة موتسيري وهناك أخرى في غابة كريس في مقاطعة السوم مقامة عبر تقاطع ثلاثة طرق، بحيث تمثل نجمة ذات ست حواف، وهناك هرم في غابة قانسان اطلق عليه “مسلة لويس الخامس عشر”. وكان هناك خلط كبير في فرنسا بين الهرم والمسلة، وربما جاء ذلك من ان الشكل بينهما متقارب، فإذا رسم إنسان الهرم رفيعا صار مسلة ولو رسم المسلة غليظة نوعا ما صارت أقرب إلى أن تكون هرما.. لكن المسلة تتميز بنقاء خطوطها الهندسية. بين روما وباريس المسلات موجودة في روما قبل باريس، اقتلعت من مواقعها في مصر زمن القياصرة الذين احتلوا مصر وحكموها، وقد اسقط البرابرة في روما بعض هذه المسلات وبعضها أسقطته الزلازل، ولكنها رفعت وأقيمت بعد ذلك في عصر النهضة، وإحداها في ميدان “سان بيير” بعد ان حفرت عليها صلبان وزخارف مختلفة أبعدتها كثيرا عن وظيفتها الأصلية. والمثير للضحك ان المؤلف يصف وجود المسلات في روما بأنها أقيمت في المنفى، بينما يعتبر وجودها في باريس شيئا آخر تماما، فهي موضع اعتزاز له وللفرنسيين عموما، ويعبر عن أساه لأن الأسطول الانجليزي دمر الاسطول الفرنسي في معركة أبي قير البحرية عام 1897، فلولا ذلك لكان نابليون بونابرت قد عاد من مصر ببعض هذه النصب التذكارية، وتنسب لبونابرت مقولة: “إن المسلات وعامود الإسكندرية سوف تتبعني إلى عاصمة أوروبا الثقافية ليبلغوها أنني كنت في المكان الذي سبق أن تواجد فيه الاسكندر وقيصر”، ولم يتحقق لنابليون ما حلم به، لكنه حين أصبح امبراطورا لفرنسا أمر بإقامة مسلة مهمة في باريس وبدأ 17 مهندسا العمل، لكن حين انهارت امبراطورية نابليون لم يكن قد أقيم منها غير القاعدة وانتهى الأمر بأن وضع عليها تمثال لهنري الرابع. وفي حكم أسرة لويس تمنت فرنسا الحصول على “إبرتي كليوباترا” (مسلتان) الموجودتين في مدينة الاسكندرية، وأوشكت القوات البريطانية التي أخرجت جيش فرنسا من مصر عام 1801 أن تحصل على إحدى هاتين المسلتين، وبدأ الجنود الاستعداد لرفعها إلى أسطولهم، لكن القيادة البحرية البريطانية كانت لديها شواغل أخرى. وبمجيء محمد علي إلى حكم مصر، لم يكن لديه مانع من إهداء مسلة إلى فرنسا وأخرى إلى بريطانيا، فقد كان بحاجة إلى المساندة السياسية منهما ضد السلطان العثماني، وفضلا عن ذلك فإن محمد علي “لم يكن مهتما بالأحجار القديمة الملقاة على أرض البلد، ولم يكن يرى في تلك الآثار سوى إنها مادة للبناء أو مجرد سلاح سياسي”. وبدأ نقل المسلة إلى فرنسا كهدية من محمد علي ويرصد سوليه ان هناك في فرنسا صوتا ارتفع معترضا، ففي مجلة “الفنان” تم الاهتمام بالهمجية في تخريب الآثار، معتبرة ان الأفضل هو ان يبقى الأثر في موقعه ليدرس في مكانه وليس نقله الى مكان آخر، وقالت المجلة ان هذا الأثر “نهب من حضارة انطفأت وكان على الحضارة الحديثة أن تحترمها باعتبارها إحدى المنابع التي أوجدتها”. وأضافت المجلة أن لا شيء يبرر الذهاب “لسرقة بعض البقايا من المجد القديم من بلد خربه الزمن والحروب”. رد الفعل المصري والسؤال المطروح: أي رد فعل في مصر على نقل المسلة؟ ويلاحظ سوليه عدة أمور من بينها أنه لم تكن في مصر صحافة آنذاك كي تعلق أو تبدي رأيا، كما لم يكن هناك برلمانا وكان الحاكم محمد علي وحده، ولم يكن هناك أحد على استعداد لمخالفة أوامره، وفضلا عن ذلك فإن المسلة كانت تنتمي إلى “عالم ملحد قبل الاسلام مرفوض أو مجهول، وقبل ان تصبح مصر مسلمة أبدى الأقباط رغبتهم في القطيعة مع ذلك العالم، فحولوا معابدهم إلى كنائس ومحوا نقوشهم”. لكن هناك صوتا مصريا ارتفع محتجا ومعترضا على نقل الآثار المصرية إلى الخارج، هو صوت الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، الذي جرى نقل المسلة إلى فرنسا وقت وجوده بها، فكتب في رحلته “تخليص الابريز” يقول: “إن الفرنجة المنبهرين بغرابة تلك المسلات قاموا بنقل اثنتين منها إلى بلدهم إحداهما إلى روما في وقت سابق، والأخرى إلى باريس في وقتنا الحالي بناء على الكرم الفائض لولي النعم. وحسب رأيي، فيما ان مصر قد تبنت الحضارة والتعليم حسب نموذج بلاد أوروبا فهي جديرة أكثر بالاحتفاظ بزينتها والأعمال التي أورثها لها أسلافها وسلبها رويدا رويدا ما هو الا طريقة تشبه سلب البعض مصوغات غيرهم”. واعتبر الطهطاوي ما يحدث “عملية نهب واضحة لا يلزم لها أي اثبات”. وطالب الطهطاوي كل مصري يجد شيئا قديما أو أثريا ان يقدمه ليوضع في فناء مدرسة الألسن التي أسسها هو، وكان ذلك النواة الأولى للمتحف المصري، ويؤدي نداء الطهطاوي إلى إصدار مرسوم من الوالي نشرته الجريدة الرسمية “الوقائع” في 15 أغسطس 1835 للحفاظ على الآثار المصرية. وعرض سوليه كتابه بأسلوب سهل به بعض أساليب السرد الروائية، مما خفف من جفاف المادة العلمية وثقلها وتعاملت المترجمة د. زينب الكردي مع النص الفرنسي بأسلوب المترجم المحترف تماما، لذا فإنها اعتمدت في نقلها لنصوص الطهطاوي على النص الفرنسي الذي أخذه سوليه عن ترجمة د. أنور لوقا لكتاب الطهطاوي، ولو انها رجعت إلى النص العربي مباشرة لكان أجدى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©