الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ريتا باييس: الثِّـقة كلمة السرّ في علاقة المحرّر والكاتب

ريتا باييس: الثِّـقة كلمة السرّ في علاقة المحرّر والكاتب
3 مايو 2017 21:42
حينما أخبرني صديقي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي، أنه بصدد تنظيم رحلة نوعية للبرتغال، بالتعاون مع دار كتاب ومؤسسة ساراماغو الثقافية، أوضح لي أنه ستتاح الفرصة لأول مرة للمشاركين فيها من كُتّاب وأدباء شباب أن يناقشوا روايتين لخوسيه ساراماغو الحائز جائزة نوبل في الآداب (1998) مع محررة رواياته «ريتا باييس»، وسيكتشفون معها عادات الأديب العالمي وتقنياته في كتابة الرواية، وكيف كان ينسج تفاصيل هذه الأعمال التي احتلت مكانها ضمن روائع الأدب الروائي. ما لفتني بشدة هو دلالة تنظيم زيارة لمحررة نصوص ساراماغو في لشبونة، إنها ليست شخصية عادية أبداً، إنها تُعامل في سياق ثقافة ترسخت فيها مهنة «المحرر الأدبي» للنصوص الإبداعية، مهنة أصبح لها تقاليدها وأطرها، ومعروفة مهامّها والغرض منها، للدرجة التي صار يُشار فيها إلى أسماء هؤلاء المحررين، خاصة ممن عملوا على نصوص كبار الكتاب، كنجوم حقيقيين، حتى وإنْ كانت درجة اشتهارهم أقل (بطبيعة الحال) من أسماء الكتاب والروائيين الذين اشتغلوا على نصوصهم. وجدتني، وأنا أقرأ عن هذه الزيارة، أتخيل لو أنني كنت مشاركاً في هذه الرحلة وقابلت محررة ساراماغو، فما هي الأسئلة التي يمكنني أن أتوجه بها إليها، خاصة أننا هنا في ثقافتنا العربية نكاد لا نعرف شيئاً عن هذه «المهنة»، وإنْ كنا نملأ العالم صراخاً عن افتقادنا إياها، خاصة في السنوات العشر الأخيرة. وفوراً وجدتني أعدّ هذه الأسئلة، وأطلب من عبد الوهاب الحمادي أن يتفضل - مشكوراً - بتوجيهها للأستاذة «ريتا باييس»، وأن يؤكد لها حين طرح مثل هذه الأسئلة بأن ثقافة التحرير الأدبي ليست شائعة في العالم العربي، وأن مهنة المحرر الأدبي بمعنى من المعاني تعتبر جديدة على تقاليد الكتابة الأدبية في الثقافة العربية، أو على الأقل ليست ذات ذيوع وانتشار كبير مثلما هي الحال في أوروبا وأميركا اللاتينية، وغيرها من بلدان العالم. وبالتالي، كان غرضي من هذه الأسئلة هو الكشف عن المناطق والمساحات الشاسعة التي يغيب فيها تصور واضح ومحدد لهذه المهنة، وعن طبيعة التكوين المناسب والملائم لمن يقوم بها أو يتصدى لها، عن المؤهلات الضرورية التي ينبغي أن تتوافر بشكل كامل وغير منقوص كي يتسنى إطلاق كلمة «محرر أدبي» على من يقوم بهذه الوظيفة. كان من المهم أن أسألها أيضاً عن أن تكشف بالتفصيل عن طبيعة العلاقة بين المحرر والكاتب الذي يقوم بتحرير أعماله، وقصدت أن أطلب منها إجابة تفصيلية، لأن هذه النقطة تحديداً محل خلاف وجدل مفزع، فإذا كنا نتحدث عن غياب ثقافة «المحرر الأدبي» فيمن يتصدى لهذه المهمة، فيصح أيضاً أن نتحدث عن غياب ثقافة «التحرير» برمّتها عن الكتاب والمبدعين! فأغلب كتابنا «المحترفين» لا يؤمنون بهذا الموضوع، ويتعاملون معه بجفاءٍ وتعالٍ كبيرين، بعضهم لا يعرفه أصلاً ولا يسمع به، وبالتالي فهو غائب بالكلية عن دائرة تعاملاته وخبراته الأدبية والعامة على السواء! وبعضهم ينظر إلى التحرير الأدبي بتوجس وشك وريبة، على اعتبار أن أية ملاحظة أو تعديل أو تصرف في المتن الأخير الذي كتبه يعني «تغييراً غير مقبول» في النص الذي سهر عليه الليالي، ولا يقبل أن يقوم أحد مهما كان بإبداء الملاحظات أو اقتراح تعديلات حتى لو كانت الغاية النهائية والمثلى هي إخراج نصه بأحسن صورة ممكنة ومتماسكة تحقق له ولنصه على السواء أقصى ما يطمح إليه من نجاح وانتشار. من بين الأسئلة الأخرى التي كنت حريصاً على توجيهها لمحررة كتب ساراماغو، كيف كان الكاتب الكبير يتعامل مع ملاحظات محررته، وكيف كان يستجيب لها، وما حصاد هذه التجربة المثيرة بعد سنوات طويلة من العمل والخبرة؟ وهل كان متفهماً بشكل كامل لطبيعة عملها وضرورات دورها؟ في ضوء تجربتها مع ساراماغو، إذا حدث خلاف بين المحرر والكاتب وتعارضت وجهتي النظر بصورة استحال فيها الوصول إلى نقطة التقاء.. فكيف يتم حسم الأمر؟ وأرجو القارئ الكريم أن يلحظ جيداً ويتوقف بروية واهتمام عن من أتحدث! عن جوزيه ساراماغو الحاصل على نوبل في الآداب، والأهم من نوبل صاحب الروائع التي خلدت اسمه مثل «قصة حصار لشبونة»، و«العمى»، و«البصيرة»، و«كل الأسماء»، و«الإنجيل يرويه المسيح»، وغيرها من الكتب والروايات التي تحتل مكانها تحت شمس الرواية العالمية، يعني ببساطة نتحدث عن واحد من أهم كتاب الرواية في تاريخها دون مبالغة، كما نتحدث عن تجربة فرضت نفسها على خارطة الأدب العالمي في كل الدنيا، عاصرتها وخبرت تفاصيلها محررته «ريتا باييس»، وكانت شاهد عيان قريباً، بل ملازماً للكاتب البرتغالي الأشهر في كل مراحله المهمة والخطيرة حتى وفاته.. هنا نص الحوار: * ما هي برأيك مؤهلات المحرر الأدبي الجيد، وما هي الطبيعة المثلى لعلاقته مع الكاتب الذي يقوم بتحرير أعماله؟ ** تتنوع المعايير، تبعاً لمستوى جودة النص، بمعنى الفكرة الإبداعية والحبكة (إذا ما كنا نتعامل مع رواية)، والقواعد اللغوية، والألفاظ المستخدمة، وأسلوب الكتابة، والقدرة الجدلية، والاتساق والتناغم بين العمل برمته. وتقوم العلاقة المثالية (بين الكاتب والمحرر) على الثقة المتبادلة، والدخول في حوار مفتوح حول الخلافات المحتملة ومناقشة أية شكوك أو مواضع هشة بالعمل يراها المحرر. إذا كنا نتعامل مع كاتب مخضرم، فإنه يجب أخذ (رغبته/‏ رغبتها) في الاعتبار، لكن مع محاولة إيجاد إجابة مقبولة على جميع الأسئلة المطروحة. * كيف كان حصاد التجربة مع ساراماغو؟ وهل كان متفهماً لدورك وعملك؟ ** انطوت تجربتي مع جوزيه ساراماغو على قدر كبير من التحدي والثراء، وحملت كذلك مكافآتها. وخلال تعاملي معه، لم أتردد قط حيال طرح الأسئلة، ولم يرفض هو من جانبه قط الرد على أسئلتي. وخلال تعاملي معه، تعلمت الكثير بخصوص الأدب والاحترام والحياة والكتاب، واعتبرت هذا كله تكميلاً لدرجتي الأكاديمية. كما أننا وثقنا ببعضنا البعض بشدة. ولم أقدم على تغيير أية كلمة قبل السؤال بشأنها أولاً، وسعيت دوماً لفهم شخصية الكاتب وأفكاره. وعملت على دراسة اختياراته لألفاظه وأسلوبه في الكتابة والسمات الخاصة المميزة له وميوله، حتى أصبحت أعلم عن ظهر قلب ما إذا كانت فاصلة موجودة بمكانها الصائب. أما هو من جانبه، فقد تفهم عملي وصعوباته، ولم أتلق منه قط أية تعليق غير لطيف. «العمى» هو الأصعب * ما النص الذي نُشر لساراماغو، وحاز شهرة كبيرة، وكان يحمل أكبر جهدٍ لك في تحريره؟ ** بمجرد أن أصبحتُ المحررة الخاصة به، لم يعد قرار النشر يخصني (وإنما كنت أطرح رأيي فقط بهذا الخصوص عندما كان يسألني الناشر، الأمر الذي حدث معظم الوقت). أما العمل الأكثر إيلاماً بالنسبة لي عندما توليتُ تصحيحه (ولن أقول الأصعب، لأنني لا أتذكر أية أعمال سهلة)، بسبب موضوعه، فكان روايته «العمى». * إذا وقع خلاف بين المحرر والكاتب.. كيف يتم حسم الأمر وفقاً لتجربتك مع ساراماغو؟ ** كان ساراماغو طيلة الوقت تقريباً على صواب، لكن هذا لا ينفي وقوع بضعة خلافات ثبت خلالها صحة رأيي، وقد تفهم هو الأمر وسمح بإجراء الـ «تعديل» المطلوب على نحو بسيط وبالغ الهدوء. قواعد * هل هناك قواعد عامة للتحرير الأدبي أم أنها يجب أن تختلف مع كل كاتب ومع كل نص؟ (هل تتدخل الثقافة والذائقة في تحديد مسار كهذا.. أيضاً مسألة الانكباب أو العكوف على تحرير كتب كاتب واحد بعينه.. التخصص في هذا المجال ميزة أم عيب)؟ ** لكل دار نشر قواعدها، تبعاً للقواعد السائدة على مستوى البلاد، ولكل مصحح كذلك قواعده. إلا أنه إذا تعمد الكاتب كسر بعض هذه القواعد، أو كانت لديه رؤية خاصة حيال تفسيرها، بجانب أن النص أحياناً يتطلب استخدامها على نحو مختلف، فإننا هنا نرضخ لإرادة المؤلف، إذا ما اتضح أن هذا الكسر للقواعد يوائم هدفه أو النتيجة النهائية. ودائماً ما يتعلق الأمر بفهمنا لما نقرأه. * أيهما أكثر فائدة للمحرر: قراءة الروايات أم قراءة نقد الروايات أم متابعة أذواق الجمهور والقراء في صيرورتها وتغيرها؟ ** من واقع تجربتي، أعتقد أن كلاً من الناشر والمحرر يجب أن يقرآ روايات كثيرة وكتابات نقدية رصينة ومراجعات أدبية منتظمة، وأن يكونا كذلك مطلعين على أحدث التوجهات الأدبية والتيارات السائدة في الكتابة على تنوع أشكالها ومدارسها، لأن أيّاً من هذه العناصر يضيف على نحو هائل في معرفتنا لما يدور حولنا فيما يتعلق بهذه الأمور، وكل منهما يكمل الآخر. ويجب على المرء أن يولي اهتماماً لكل تفصيل عندما يكون عمل أدبي هو الهدف. حدود التدخل * كيف ترين حدود العلاقة في تدخل المحرر في النص تطبيقاً على تجربتك مع ساراماغو؟ ** يجب أن يبقى المحرر (المصحح) على مسافة بينه والنص، ذلك أن فهم واستيعاب النص والشعور بما هو مكتوب أمرٌ يختلف عن التنازل عن متعة الكتابة. ولا يمكن للمرء القيام بهذا. وتسمح المسافة برصد الأخطاء والحشو والمقتطفات أو الجمل أو الفقرات غير المنطقية وعلامات الترقيم الخاطئة. * «المحرر قارئ محترف وليس كاتباً محترفاً».. هل يحلم المحرر بالفعل أن يكون كاتباً.. وهل يمكنه فعلاً أن يفسد عمل الكاتب؟ ** من خلال تجربتي، ليس من أحلام المحرر (أو المصحح كما تحب أن تستخدمه ريتا باييس) أن يصبح كاتباً. شخصياً، تلبي القراءة كامل طموحاتي. وجميعنا نعلم أن امتهان الكتابة لا يكفي لتحقيقه مجرد الرغبة. أو على الأقل، أنا أعي هذا. فيما يتعلق بالإضرار بنص ما، نعم، من السهل للغاية القيام بهذا. إذا لم تكن مهنياً، ولم تهتم بما تفعله، وإذا رغبت في إجراء «تصحيح» خاطئ لكلمات المؤلف، وإذا لم تطرح أسئلة، وإذا أبقيت شكوكك لنفسك بدلاً من أن تشرح في تعليقك على كلمات الكاتب ما تعتبره مناسباً، وإذا لم تحترم الكاتب، بمعنى أن تحترم كتابته فنعم، سيصبح بمقدورك حينها الإضرار بالنص وتحويل كتاب جيد إلى آخر سخيف وممل. أنا فخورة بعملي، كمحررة ومصححة للنصوص، طموحي أن أقوم بهذا العمل على أكمل وجه، ولا أشعر بأنني إزاء رغبة مكبوتة أو معلنة في أن أقوم بعمل آخر غيره!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©