الجمعة 10 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رحلات القنص بين صيد الصقور وصيد الأفكار المبدعة

رحلات القنص بين صيد الصقور وصيد الأفكار المبدعة
6 أغسطس 2009 00:14
رحلات القنص لا تمل كانت رحلة القنص الأولى التي قمت بها مرافقاً للمغفور له بإذنه تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان تشكل بالنسبة لي أكثر الرحلات التي قمت بها إثارة. فلقد أتاحت لي تلك الرحلة أن أعيش خمسة عشر يوما بالقرب من رئيس الدولة.. ألتقي معه كل صباح في خيمة المجلس وأتناول معه ومع مرافقيه طعام الإفطار والذي كان الهريس هو الطبق الرئيسي فيه، بالإضافة طبعاً إلى أنواع أخرى تنتمي إلى التراث الغذائي لأبناء الإمارات مثل الخنفروش والبلاليط والقرص وغير ذلك. كنا نقبل على طعام الإفطار بجدية ونأكل حتى بعد شعورنا بالشبع، وذلك لأننا عرفنا من البداية أن من عادات رحلات القنص ألا تكون هناك وجبة غداء. فحينما يحين موعد الغداء نكون في ذروة الانشغال بالقنص فلا مجال للوقوف والطبخ وتناول الغداء.. لذلك فالوجبة التالية للإفطار هي وجبة العشاء والتي يعدها طباخون مهرة رافقونا طوال الأعوام التي تلت السبعينات ما زلت أذكر منهم اسم الأخ بدري.. والأخ أحمد. يبدأ مجلس الصباح عادة بوصول الشيخ زايد، ثم يأتي الإعلامي محمد عودة ليقرأ عليه مختصرات لأهم الأخبار، ثم يأتي مدير مكتبه ليوقع منه بعض الرسائل والقرارات، وذلك عادة لا يأخذ إلا دقائق معدودة يعود بعدها الشيخ زايد إلى جلاّسه ليسألهم واحداً واحداً عن النشاط والصحة وليحدد معهم الجهات التي سيقنصون فيها هذا اليوم. لا أنسى ذلك الصباح الأول الذي عشت فيه جو رحلة القنص وكيف وجه لي سؤالاً مفاجئاً: أين طيرك يا خليل؟ ضحك جميع من في المجلس.. فهم يعرفون أنني أخاف من حمل الطير. قلت مشيراً إلى رأسي: طيري هنا يا طويل العمر. قال «رحمه الله»: ونعم الطير يا خليل.. الفكر هو طير حقيقي ولكنه بحاجة إلى التدريب مثل الصقر حتى يستطيع أن يصيد لك النجاح .. وهذه الرحلة هي لجعل الفكر صافياً قادراً على صيد الأفكار المبدعة. كان «رحمه الله» يحفظ أسماء الجميع ويتبسط في الحديث مع كل المشاركين معه في رحلة القنص إلى درجة تجعل المشارك في الرحلة يشعر أنه لا فرق بينه وبين الآخرين. الشيخ زايد نفسه قال في معرض حديثه عن رحلات القنص إن أهم ما تحققه الرحلة هو المساواة بين الجميع بين الرؤساء والمرؤوسين. الصيد الرحيم ومنذ الصباح الأول عرفت أبعاد الصورة الإنسانية للشيخ زايد.. فهو يوصي ألا نسرف بالصيد فلسنا في سباق على من يصيد عدداً أكبر من الحبارى.. ومن أقواله إذا أسرفنا في الصيد فإن الحبارى ذلك الطائر الجميل سينقرض.. فلنكن رحماء.. ولتكن القناعة شعارنا. وكان الجميع يضعون صيدهم أمام الشيخ زايد في المساء بعد العودة فيتضح من أسرف في الصيد ومن التزم بالتعليمات. وقد عشت التجربة عندما عثرت جماعة الدكتور مانع على جملة أي حوالي اثنتي عشرة حبارى.. كان المساء قد اقترب وكان يمكن صيدها كلها.. إلا أن الدكتور مانع طلب من جماعته التوقف عن (الهد) والعودة إلى المخيم مكتفياً بالعدد المعقول الذي تمكن وجماعته من صيده. قيادة السيارة في مناطق القنص تحتاج إلى مهارة خاصة نظراً لعدم وجود الطرق.. فالسائق يقود سيارته فوق رمال رخوة قد تسبب التغريز لسيارته.. أو فوق أرض وعرة ليتابع طيره الذي يطارد الحبارى أو ببطء باحثاً في الرمال عن آثار الحبارى. وبما أنني حضري في رأي جماعة الدكتور مانع مثل الشيبة الهاملي وسيف المنصوري وعامر المنصوري وأحمد الظريف وعتيق بن سيفان وسالم بالفار المنصوري ونصيب بن عجلان المنصوري فإنني لا أصلح لقيادة السيارة.. ولذلك اكتفيت بالجلوس إلى جانب عامر المنصوري الذي كانت تسمى سيارته سيارة المطبخ حيث كانت تحمل تيرموسات القهوة والشاي والحليب والتمر والقرص والبثيث والحلوى العمانية. ومن عامر المنصوري تعلمت فن قيادة سيارة اللاندروفر في الرمال وفي المناطق الوعرة والمرتفعات الحادة والمنحدرات التي يمكن أن تؤدي إلى حوادث انقلاب السيارة التي يقودها سائق غير متمرس. من اليوم الأول صنعت لنفسي دوراً فاعلاً ومهماً في الرحلة.. فلم أعد مجرد متطفل أو زائر لا علاقة له بالقنص.. رغم عدم حملي للصقر وعدم قدرتي على أن أكون صقاراً.. وجاء هذا الدور بمحض الصدفة حيث تمكنت من رؤية طائر الحبارى من مسافة بعيدة. ورغم ثقل السنين التي أحملها الآن إلا أن النظر للبعيد مازال قوياً ولو أنه في ذلك الزمان كان حاداً ومميزاً جداً. ولم يكن عامر المنصوري يجهل قدرتي على الرؤية لمسافات بعيدة.. لذلك كان يوقف سيارته على ذروة مرتفع جبلي أحياناً قائلا لي: أَطلِعْ .. وكلمة أطلع عادة يختص بها الصقر الجرناس.. أي الذي سبق أن صاد في الأعوام الماضية.. وعندما يطلع الجرناس يقوم بالنظر إلى جميع الجهات، وعندما يرى طائر الحبارى فإنه ينطلق من يد صاحبه الذي يحمله متجهاً إليه ليصيده ولذلك كان عامر يشبهني بالصقر الذي يطلع.. ولم أكن أخيب ظنه.. وهكذا أصبحت عضوًا فاعلاً في جماعة القنص لا مجرد متفرج لا عمل له. مرّت أيام رحلة القنص الأولى بسرعة غير متوقعة ولم أتعجب.. فالزمان الجميل يمر دائماً مسرعاً.. والزمان الرديء هو الذي يمر ببطء. لم تكن عملية الصيد نفسها هي مصدر الإثارة والمتعة الوحيد بل إن كل لحظة في تلك الأيام حملت الإثارة والمتعة. الجلسة الصباحية مع المغفور له الشيخ زايد والإصغاء إليه وهو يتحدث في شتى الموضوعات كان متعة.. بدء الرحلة بعد تناول الإفطار ومعانقة الطبيعة كان متعة.. معرفة بعض المرافقين للدكتور مانع للاتجاهات وتحديد المواقع بدقة كان متعة.. سيف ونصيب المنصوري كانا خبيرين في تحديد المواقع والاتجاهات إلى درجة يمكن القول إنك لا يمكن أن تضيع مع واحد منهما حتى ولو في الصين. أذكر أننا في أحد الأيام ابتعدنا عن المخيم كثيراً وجاء المساء في موقع اكتشفنا فيه عدداً كبيراً من الحباري فطلب الدكتور مانع من نصيب أن يذهب إلى المخيم ويحضر طعام العشاء. ورغم الظلام الدامس وعدم وجود الطرق فقد قام نصيب بالمهمة وبعد أقل من ثلاث ساعات وصل إلى مكاننا دون أن يحتاج حتى إلى الاتصال اللاسلكي بنا. وكانت أيضاً تجربة جديدة بالنسبة لي أن أنام في العراء فوق الرمال دون خوف من الأفاعي والحيوانات المتوحشة. كان سيف وكان نصيب ولايزالان من أكثر الخبراء معرفة بالاتجاهات وبتحديد المواقع.. تلك الميزة التي حرمت منها إلى درجة أنني لو ابتعدت كيلومترين عن المخيم فلن أستطيع العودة إليه بدون مساعدة أحد. عندما تحولت الحمير إلى حبارى! من الطرائف التي لا يمكن أن تنسى، ذلك اليوم الذي نظرت فيه إلى البعيد لأرى جملة من الحبارى. صاح حميد الشامسي الذي كان يقود سيارتنا: أعلن يا خليل، أخبر الجماعة بما رأيت. أمسكت جهاز اللاسلكي وضغطت هاتفاً: واحد واحد. رد الدكتور مانع: واحد معك أجب. جملة، اثنتا عشرة حبارى أمامنا. زلزل الإعلان مجموعتنا كاملة، وتحولت جميع السيارات إلى جهتنا، وكان المكان مليئاً بالحفر والصخور، وصلت الإثارة الجميع حتى سيارتنا التي يقودها حميد الشامسي أسرعت إلى مكان الحبارى، وكنا بطبيعة الحال الأقرب إلى موقعها. وفجأة، اتضحت الصورة، وبانت الحقيقة، فإذا ما ظننا أنه حبارى لم يكن إلا مجموعة من الحمير مستلقية باسترخاء على الأرض تحرك آذانها الطويلة التي بدت لنا حبارى تتحرك. وبخجل كبير، أمسكت جهاز اللاسلكي، لأعلن: واحد واحد، ما رأيناه لم يكن حبارى، بل مجموعة من الحمير. بالطبع كان الموقف محرجاً، ورغم مرور أكثر من خمسة وعشرين عاما على ذلك الحدث الطريف إلا أن جميع من كانوا مشاركين معنا في ذلك اليوم ما زالوا يتذكرونه، وكلما أعلن أحدهم فيما بعد عن رؤيته لجملة حبارى يطلب منه التأكد حتى لا تكون مثل حبارى خليل
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©