الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكتاب.. يَشْحَذ الفِكْرَة ويُحسن العِشرَة

الكتاب.. يَشْحَذ الفِكْرَة ويُحسن العِشرَة
16 مارس 2011 19:25
الكتب كنوز المعرفة، وتجارب الحياة الإنسانية عبر السنين، فيها علم الماضين ورؤاهم واستشرافهم صوب المستقبل. وقد أطنب المؤرخون في تبيان مزايا الكتب وفضلها ومنافعها على الجميع. حتى نجد الخطيب البغدادي قد أفرد في مُصنفه “تقيد العلم” قسماً خاصاً للإشارة لفضل الكتب، وما قيل فيها، ويقع في ستة فصول، منها ما رواه الصحابي الجليل سعيد بن جبير رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى للآية 83 من سورة الكهف: “وكانَ تحتهُ كنزٌ لهُما”. فقد اختلف في تأويل ذلك الكنز، فقال بعضهم: كانت صُحفاً فيها علم مدفون، قال: ما كان ذلك ذهباً ولا فضة، قال: صُحفاً وعلماً وعلق الحسن بن صالح بقوله: وأي كنز أفضلُ من العلم. يقول البغدادي صاحب “تقييد العِلم” بأنّ الكتاب قد يُفضل صاحبه، ويرجح على واضعه بأمور، منها: إنّ الكتاب يُقرأ في كلّ مكان، ويظهر ما فيه على كلّ لسان، وموجود في كلّ زمان، مع تقارب الأعصار، وبُعد ما بين الأمصار، وذلك أمرٌ مستحيل في واضع الكتاب، والمنازع بالمسألة والجواب، و يذهب العالِم، وتبقى كُتُبه، ويفنَى العَالِم، ويبقى أثَرَه. ويضيف البغدادي في هذا المقام قائلاً: “ولولا مارَسَمَت لنا الأوائل في كتبها، وخلدت من فنون حكمها، ودونت من أنواع سيرها، حتى شاهدنا بذلك ما غاب عنا، وأدركنا ما بَعُدَ مِنّا، وجمعنا إلى كثيرهم قليلنا، وإلى جليلهم يسيرنا، وعرفنا ما لم نكن نعرفه إلاّ بهم، وبلغنا الأمد الأقصى بقريب رسُومهم، إذا لحَسَرَ طُلاّبُ الحِكمة، وانقطعَ سببهم عن المعرفة، ولو ألجينا إلى مدى قوتنا، ومبلغ ما تقدر على حفظه خواطرنا، وتركنا مع منتهى تجارتنا، لما أدركته حواسنا، وشاهدته نفوسنا، لقلّت المعرفة، وقصرت الهمّة، وضعفت المُنّة، وماتت الخواطر، وتبلّد العقل، ونقصّ العلم، فكان ما دونوه في كتبهم أكثر نفعاً، وما تكلفوه من ذلك أحسن موقعاً، ويجب الاقتفاء لآثارهم، والاستضاءة بأنوارهم، فإنّ المرء مع مَن أحبّ، ولهُ أجر ما احتسب”. الجاحظ والكتاب وقال الأديب الجاحظ في “البيان والتبيين”: الكتاب وعاء مُلئ عِلْماً، وظرف حُشِي ظَرفاً، وبُسْتَان يُحْمَلُ في رُدْن، ورَوْضَةٌ تقلَّب في حِجر، ينطق عن الموتى، ويُتَرْجِمُ كلامَ الأحياء. وقال: من صنَف كتاباً فقد استهدف؛ فإنْ أحسن فقد استعطف، وإن أساء فقد استقذف. وقال: لا أعلم جاراً أبرّ، ولا خليطاً أنْصَف، ولا رفيقاً أطوع، ولا مُعَلماً أخضع، ولا صاحباً أظْهَر كفاية، وأقل جناية، ولا أقل إملالاً وإبراماً، ولا أقل خلافاً وإجراماً، ولا أقل غِيبةً، ولا أبعد من عضيهِة، ولا أكثر أعجوبة وتصَرّفاً، ولا أقل صَلَفاً وتكلفاً، ولا أبعد من مِرَاء، ولا أترك لشِغْب، ولا أزهد في جِدال، ولا أكف عن قتال، مِنْ كتاب. ولا أعلم قريناً أحْسَن مُواتاة، ولا أعجل مكافأة، ولا أحْضر مَعْونة، ولا أقل مَؤُونة، ولا شجرة أطولَ عمراً، ولا أجمع أمراً، ولا أطيب ثمرة، ولا أقْرب مُجْتَنى، ولا أسرع إدراكاً في كل أوَانٍ، ولا أوجد في غير أبان، مِنْ كتاب. ولا أعلم نتاجاً في حداثة سنّه، وقرب ميلاده، ورِخَص ثمنه، وإمكان وجوده، يجمع من التدابير الحسنة، والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة، ومحمود الأخبار عن القرون الماضية، والبلاد المُتَراخِية، والأمثال السائرة، والأمم البائدة ما يَجْمع الكتاب. وروى الحُصري القيرواني في “زهر الآداب وثمار الألباب” روايات عديدة عن الكتاب ومحبته عن الخلفاء والأدباء منها قوله: دخل الخليفة العباسي هارون الرشيد على ولده المأمون، وهو يَنْظر في كتاب، فقال: ما هذا؟ فقال: كتاب يَشْحَذ الفِكْرَة، ويُحسن العِشرة. فقال: الحمدُ للّه الذي رزَقنِي مَنْ يرى بعَيْن قلبه أكْثَر مما يرى بعين جسمه. وقيل لبعض العلماء: ما بَلَغ من سرورك بأدبك وكُتُبك؟ فقال: هي إن خَلَوْت لذتي، وإن اهتممتُ سَلْوَتي، وإن قلتَ: إنَ زهْرَ البستان، ونوْر الجِنان، يَجْلُوانِ الأبصار، ويمْتِعانِ بحسنهما الألحاظ؛ فإنَ بستانَ الكتب يَجْلُو العقل، ويَشْحَذُ الذّهن، ويُحيي القلب، ويقوَي القريحة، ويُعِينُ الطبيعة، ويَبْعثُ نتائج العقول، ويستثِير دفائنَ القلوب، ويُمتِعُ في الْخَلْوةِ، ويُؤْنِسُ في الوَحْشَة، ويُضْحِكُ بنوادره، وَيُسرُ بغرائبه، ويفيد ولا يَستفيد، ويُعْطي ولا يأخذ، وتَصِلُ لذته إلى القلب، من غير سآمة تدْرِكُك، ولا مشقّةٍ تَعْرِض لك. وقال أبو الطيب المتنبي: تركنا لأطراف القَنَا كلّ لذّة فليسَ لنا إلاّ بهن لِعابُ نُصرِّفه للطعن فوق سوابحٍ د انقصفت فيهنّ منهُ كِعَابُ أعزُّ مكانٍ في الدُّنا سَرْجُ سابِحٍ وخيرُ جليسٍ في الزّمانِ كتابُ فقر في الكتب أضاف القيرواني فِقَر في أهمية ووصف الكتاب قائلاً: إنفاق الفضّة على كُتب الآداب، يُخلفك عليه ذَهَبَ الألباب. إنّ هذه الآداب شَوَارد، فاجعلُوا الكتبَ لها أزِمّة. كتاب الرجل عُنوان عقله، ولسانُ فضله. وقال ابن المعتز: مَن قرأ سَطْراً من كتاب قد خطّ عليه فقد خان كاتِبه؛ لأن الخطّ يُحْرز ما تحته. ولبعض الكتاب: إعجام الخطّ يمنع من استعجامه، وشَكْله يؤمن من إشكاله. كأن هذا الكاتب نَحَا إلى قول أبي تمام: ترى الحادث المستعجم الخطبِ معجماً لديه، ومشكولاً إذا كان مُشكلا وقال ابن المعتز يصف كتاباً: وذي نكَت مُوشّى نمقتهُ وحاكته الأناملُ أيّ حَوْكِ بشكل يرفع الإشكالَ عنهُ كأنّ سطوره أغصان شَوْكِ وهذه جملة من ألفاظ أهل العصر في صفة الكتب وتهاديها، وما يتعلّق بأسمائها ومعانيها عنده كقولهم: حضرة مولاي تَجَلُّ عن أنْ يُهْدى إليها غيرُ الكتب، التي لا يترفّع عنها كبير، ولا يَمْتَنع منها خطير، وقد فكّرت فيما أنفذت به مقيماً للرَّسْم في جملة الخدَم، وحافِظاً للاسم في غمارِ الْحَشم، فلم أجِدْ إلاَّ الرّقَّ الذي سبق ملْكه له، والمال الذي مَنَحه وخَوَّله، فعدَلْتُ إلى الأدَب الذي تَنْفُقُ سوقُه بباب سيِّدنا ولا تكْسد، وتهب ريحُه بجانبه ولا تَرْكُد، وأنفذت كتابي هذا راجياً أن أشَرَّف بقبوله، ويوقّع إليَّ بحصوله؛ ولمَا وجب على ذوي الاختصاص لسيدنا إهداء ما جرت العادةُ بتسابق الأولياء إلى الاجتهاد في إهدائه، وجب العدولُ في إقامة رسم الخدمة إلى إتباع ما صدر عنه من الرخصة فيما تسهُلُ كلفته، وتجلّ عند ذوي الألباب قيمتُه، وتحلو ثمرتُه: وهو علْمٌ يُقْتَنى، وأدبٌ يُجْتَنى. كذلك عرض محمّد رجب السامرّائي في “رحلة الكتاب في الحضارة الإنسانية” لأنموذجات أخرى عن ذلك الحرص الذي أبداه محبي الكتب التي أسرتهم، ومنهم موسى بن عقبة الذي قال: وضع عندنا كُرَيْب حِمْل بعير من كتب ابن عباس، فكان علي بن عبدالله بن عباس، إذا أراد الكتاب كتب إليه: ابعث إليَّ بصحيفة كذا وكذا، فينسخها ويبعث بها. وقال بعض أهل العلم في ذلك المقام: ينبغي للمرء أن يدخر أنواع العلوم، وإن لم تكن له بمعلوم، وأن يستكثر منها، ولا يعتقد الغِنَى عنها، فإنّه إن استغنى عنها في حال، احتاج إليها في حال، وإن سئمها في وقت، ارتاح إليها في وقت، وإن شُغِلَ عنها في يوم، فرغ لها في يوم، وألاّ يسرع ويعجل، فربما عجّل المرء على نفسه بإخراج كتاب عن يده، ثم رامهُ فتعذّر عليه مرامه، وابتغى إليه وصولاً، فلم يجد إليه سبيلاً، فأتبعه ذلك وأنصبه، وأقلقه طويلاً وأرّقه. واختتم السامرّائي قائلاً: يذكر أن ّ رجلاً اشترى كتاباً، فقيل له: اشتريت ما ليس من علمك؟ فقال: اشتريتُ ما ليس من علمي ليصير من علمي. كما يروى أنّ رجلاً كان يشتري كلّ كتاب يراه، فقيل له: إنّك لتشتري مالا تحتاج إليه، فقال: ربّما احتجتُ إلى ما لا يحتاج إليه. قيل في وصف الكتب ببلاغة جميلة: كتاب كَتَبَ لي أماناً من الدَّهر، وهنَّاني في أيام العمر. كتاب أوجب من الاعتداد فوق الأعداد، وأودع بياض الوداد سواد الفؤاد. كتاب النظر فيه نعيم مقيم، والظفرُ به فتح عظيم. كتاب ارتحت لعيانه، واهتززت لعُنوانه. كتاب هو من الكتب المَيَامين، التي تأْتي من قبل اليمين. كتاب عددته من حجول العُمرِ وغُرَره، واعتَدَدته من فُرَص العيش وغُرَره. كتابٌ هو أنفس طالع، وأكرم متطلع، وأحْسن واقع، وأجلُّ متوقع. كتابٌ لو قُرئ على الحجارةِ لانْفجرَت، أو على الكواكب لانتثَرت. كتاب كِدتُ أُبْليه طيًّاً ونشراً، وقبّلتهُ ألفاً، ويَدَ حامله عشراً. كتاب نسيتُ لحسنه الرَوْضَ والزّهر؛ وغفرتُ للزمان ما تقدّم من ذنبه وما تأخر. كتابٌ أمْلَيْته هِزّة المجدِ على بنانكَ، ونطقَ به لسانُ الفَضلِ عن لسانك. أنا ألتقطُ من كلِّ حَرفٍ تُديرُه أنامُلك تُحفة، وآخُذ من كل سطرٍ تتجشَّمُ تخطيطَه نزهة. إذا قرأت من خطك حَرْفاً، وجدتُ على قلبي خِفًّاً، وإذا تأمّلت من كلامك لفظاً، ازددت من أُنْسي حظاً. كتاب كتبَ لي أماناً من الزمان، وتوقيعٌ وقعَ مِنِّي مَوْقِعَ الماء من العطشان. كتاب هو تَعِلَّةُ المسافر، وأُنْسَةُ المستوحش، وزبدة الوصال، وعُقْلة المستوفز. كتاب هو رُقية القلب السليم، وغرة العيش البهيم، كتاب هو سَمَرٌ بلا سَهَر، وصَفْوٌ بلا كدَر. كتاب تمتَّعت منه بالنعيم الأبيض، والعيش الأخضر، واستلمته استلام الحجر الأسود، ووكلتُ طرفي من سُطُورِهِ بوشْي مُهلَّل، وتاج مُكَلَّل، وأَوْدَعْتُ سمعي من محاسنه من أنساني سماعَ الأغاني من مطربات الغواني. نشأت سَحَابة من لفظك، غَيْمُها نِعمةٌ سابغَة، وغيْثها حِكْمَةٌ بالغهٌ، سقَتْ رَوْضة القلب، وقد أجهدتها يَدُ الْجَدْبِ؛ فاهتزت وَرَبَتْ، واكتست ما اكتسَبَتْ. كتابٌ حسبته ساقطاً إليّ من السماء، اهتزازاً لمطلعه، وابتهاجاً بحسْنِ موقعه، تناولتُه كما يُتناول الكتابُ المرقومُ، وفضضْتُهُ كما يَفضُ الرَّحيق المختوم. كتاب كالمشتري شَرُفَ به المسير، وقميص يوسفَ جاء به البشير. كتاب هو من الحسن، رَوضة حَزن، بل جَنةُ عَدْنٍ، وفي شرح النفس وبَسْطِ الأنس برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب. قد أهديت إليّ محاسنَ الدنيا مجموعةً في ورقه، ومباهج الحلى والحلل محصورة في طبقه. كتابّ ألصقْتُه بالقَلْبِ والكبد، وشممته شمَّ الولد. ورَدَ منك المسْكُ ذكياً، والزهرُ جَنِيًّاً، والماء مريّاً، والعيش هنيًّاً، والسحر بابليًّاً. كتاب مَطلعهُ أهِلّة الأعياد، وموقعه موقع نَيْل المراد. كتاب وجدته قصيرَ العمر، كليالي الوصال بعد الهجْر، لم أبدأ به حتى استكمل، وقارَبَ الآَخِر منه الأوّل. كتاب منتقض الأطراف، منقطع الأكتاف، أبتَرُ الجوارح، مضطرب الجوانح، كتاب كأنه توقيع متحرَز، أو تعريض مُتبرز. كاد يلتقي طَرَفاهُ، ويتقارب مُفْتتحه ومُنتهاهُ. كتاب التقَتْ طرفاه صِغَراً، واجتمعت حاشيتاه قِصراً. ما أظنني ابتدأْتُهُ حتى ختمته، ولا استفتحته حتى أتممته، ولا لمحته حتى استوفيته، ولا نشرته حتى طويته، وأحسبنْي لو لم أجوّد ضبطه، ولم أُلْزم يَديَّ حفظَهُ، لطار حتى يختلط بالجوّ، فلا أَرَى منه إلاَّ هباءً منثوراً، وهواءً منشوراً. كتاب حسبته يطيرُ من يدي لخفّته، ويلطف عن حِسّي لقلّته، وعجبتُ كيف لم تحمله الرياحُ قبل وصوله إليّ، وكيف لم يختلط بالهواء عند وصوله لديّ. كتاب قصَّ الاقتصارُ أجنحته، فلم يَدَع له قوادم وَلا خوَافِي، وأخذ الاختصار جثِّته، فلم يبق ألفاظاً ولا معاني. طلعَ كتابُكَ كإيماء بطَرْفٍ، أو وَحْيٍ بَكَفّ.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©