الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عبد الله العروي.. جَنَتْ عليه الترجمة

عبد الله العروي.. جَنَتْ عليه الترجمة
4 ابريل 2018 04:03
لا جدال في أن استحضار كتاب «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» يضع المرء أمام سؤال كبير يتعلّق بشروط ممارسة التفكير وإنتاج الفكر، سواء داخل مجال محدد (الفلسفة)، أو في إطار حقل من حقول «العلوم الإنسانية». وهو سؤال يستدعي النظر في قدرة النخب على إنتاج فكر «ملائم» قادر على تشخيص الواقع وإبراز مفارقاته، وقادر، في نفس الوقت، على التفاعل مع تطور الأفكار والمفاهيم، كونياً. كيف يمكن الحديث عن تأثير «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» (وقد مرّت على صدوره خمسين سنة وبضعة شهور) في الفكر المغربي أو العربي، في الوقت الذي يصرُّ صاحبه على أن كتابه موضوع «سوء فهم» دائم؟ هل يجوز الاطمئنان إلى «حماس» - وهو حماس مشروع في ذاته - يتعلّق بـ «صدى» مُؤلَّف فكري تأسيسي في بيئة تقاوم، بل وتحرّف «أصداء» الفكر العصري، حتى داخل الأوساط التي «تدعو» إلى تبنّيه واستنباته؟ تحديد المفاهيم يبدو لي أن كل نقاش حول تأثير كتاب «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» من عدمه عليه أن يبدأ من هذا المعطى، الذي يبدو ولا شك «مزعجاً» على أكثر من صعيد. ولعله من قبيل تحصيل الحاصل القول إن العروي في «الأيديولوجيا العربية المعاصرة»، وفي غيرها من مؤلفاته، أظهر قدرة لافتة على السؤال والتفكير، وعلى تجاوز صفة الباحث في تاريخ الأفكار ليكثف مقومات مُفكّر يحركه نزوع نقدي مسكون بقضية الإنجاز التاريخي للمفاهيم. لم يعمل العروي من أجل ذلك على البحث عن «وسطاء» من أجل الفكر حين خصص جهدًا كبيرًا لتاريخ الأفكار العربية، من منطلق استيعاب فعلي للنظريات والمناهج الحديثة، وبنى «إطارًا مفاهيميًا» لِما أسماه «الأيديولوجيا العربية»، وإنما حوَّل النصوص المدروسة إلى مناسبة لإعادة بناء أسئلة الراهن المغربي والعربي من خلال تكسير الحدود بين النص والفكر المتسائل والمجتمع، قياساً إلى تحدّ تاريخي تمثّل في الحداثة. فهو يرى أن المشكلة المطروحة بدقة وبصدق، في الماضي القريب كما اليوم، تبدو له أكثر أهمية من الحلول المقترحة، باعتبار أن اللغة السائدة وتواطآت النخب والمجتمع تنتج مشكلات تزداد استعصاء على الدوام، أو أنها تحصر دور الفكر في الحكم على حقيقة أو صواب المشكلة، أو اجتراح الحلول المناسبة أو غير المناسبة لحلها. أما عنده فالأمر يتعلق، على العكس من ذلك، بضرورة العودة إلى أصل المشكلات وفضح ما هو مزيف فيها، وقياس اتجاه المشكلة من زاوية ما توحي به للفكر وللعمل. مفهوم الجديد التفكير في الجديد في إنتاج العروي يتطلب قلبًا عامًّا للنظر إلى الفكر والوجود والتاريخ والدولة. يتحدد الجديد، كما هو حال الإبداع، بما يحمله من قدرة على إنتاج الفكر والحدث. هناك جديد كلما حصل استيعاب للفكر العصري وقدرة على خلق الحدث، أو حين تتموضع الذات – ومفهوم الذات يحتل موقعًا حاسما في الانشغالات الفكرية للعروي، وبه يبدأ تفكيره في «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» في سياق صياغة مفاهيم. ويصبح الجديد حالة إبداعية تعبر عن موقف ذاتي يتعزز فيه «فكر الفكر»، أي التفكير في عملية القبض على التاريخ الإنساني (وهنا نشعر باقتراب كبير مع فهم «دولوز» للجديد، وإن كان العروي لا يعترف بذلك). وعلى الرغم من انتقاداته الكثيرة للفلاسفة المغاربة والعرب، لدرجة بدا فيها وكأنه «خصم» لهم، إذ يقول: «لقد أعطيت الانطباع، أحيانا، أنني أستبعد الفلسفة باعتبارها حقلا فكريًا. والحال ليس كذلك البتة»، فإن العروي يقرّ بالحاجة إلى الفلسفة والتاريخ في نفس الآن. ويعترف: «إنني مشيْت على رجلين اثنين: التاريخ والفلسفة، كما هو الشأن بالنسبة لمن جمع الفلسفة والتحليل النفسي، العلم والميتافيزيقا، وبشكل أكثر اعتيادا الفلسفة واللاهوت» (1). ولا يتردد في التأكيد على أنه لا يرضى «أبدا بالنتيجة الخام للبحث التاريخي. إنني أحاول، فيما بعد البحث، أن أستشف الأجوبة على أسئلة من طبيعة فلسفية واضحة، بله من طبيعة ميتافيزيقية» (2). والظاهر أنه بعد صدور «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» إلى اليوم، وبالرغم من الاجتهادات الرصينة التي شهدها الفكر العربي طيلة الخمسة عقود الأخيرة، لا يزال هذا الفكر يتأرجح في عملية تعيين الأفكار وتسمية القضايا وتعريف المفاهيم، سواء عمل هذا الفكر على إعادة تنشيطها من داخل التراث العربي الإسلامي أو استمد بعض مناهجها من الغير. ذلك أن مسألة التسمية أو التحديد عامل مقرر في شأن نجاعة الفكر وصدقية عملياته وقوة استنتاجاته. وعندي أن هذا المطلب من أكبر دروس العروي. غير أن هذا الدرس تعرّض، ولا يزال، لسوء فهم مُؤسس. عجز النخب وأوهامها من المؤكّد أن كتابات العروي، بقدر ما تُشخص وتُعري معضلات التحديث في المجتمع المغربي والعربي، لا تكف تؤكد على ما يسعف في استنباته وإدماجه في نسيج الدولة والمجتمع والثقافة. ومنذ أن دشّن مشروعه ب «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» مرورًا بـ «الأصول الاجتماعية والفكرية للوطنية المغربية» وسلسلة «المفاهيم»، إلى «الفلسفة والتاريخ»، وهو مسكون بشروط نهضة المغرب، ومفجوع من تأخره، ومندهش من ضعف نخبه. يقول في «الأيديولوجيا العربية المعاصرة»: «لقد ولدت محاولتنا من تأمل وضع خاص: وضع المغرب اليوم. وما من شخص يتمالك نفسه من إبداء الدهشة إزاء العجز السياسي والعقم الثقافي اللذين تبديهما النخبة المغربية». نص مكتوب، بهذه القوة، في الستينيات. وقد يجتهد أي واحد منا للقول إنه لا يزال يمتلك راهنية مثيرة، لأن المتأمل للوضع المغربي الحالي قد تنتابه الدهشة، كذلك، مما يسود العمل السياسي من عجز، وما يسيطر على الحياة الثقافية من تسطيح. ولا يكف الأستاذ العروي في حديثه عن النخبة والمثقفين عن التعبير عن قدر كبير من المرارة، إذ اعتبر منذ «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» أن «أمرنا لن يصلح إلا بصلاح مفكرينا»، بل ولا يتردد من إعلان استيائه من ضعف الوعي التاريخي برهانات الزمن ومستلزمات التحديث والحداثة. وعبَّر، أكثر من مرة، عن امتعاض من العجز عن فهم المداخل الضرورية للتحديث، واستيعاب الفكر الحديث، حتى ولو تم رفع شعارات الإصلاح أو الثورة أو التحديث أو التأهيل إلخ. وقد استعمل العروي، في حديث مع بعض شباب أقصى اليسار في بداية السبعينيات في مجلة «أنفاس»، لفظة «سوء التفاهم»، لأن خطابه عن التاريخانية، وشروط التحديث لم يتم تلقيه بالشكل المطلوب من طرف مختلف أصناف النخب الثقافية والسياسية. لماذا؟ لأنه يعتبر أنه ضحية «سوء فهم»، تولّد عنه «سوء تفاهم»، وتشوُّش دائم في الوعي بمقتضيات الحداثة. ويعزو العروي هذا الوضع إلى مشكلة فكر، أولا، وإلى معضلة الترجمة والتعريب ثانيا. فهو لا يكف يشتكي مما ألحقه به التراجمة «من ضرر»، لأن الأخطاء الغزيرة التي ارتكبت عملت على ما يسميه بـ «قلب المعنى»، وتحولت الترجمة، كما يقول، إلى «ألغاز لا أجد سبيلا إلى حلّها مع أنّي كتبت الأصل، فكيف استطاع غيري أن يفهمها أو ظنّ أنه فهمها ثم أجاز لنفسه أن يناقش الأفكار التي توهّمها فيها؟» (3) يبدو أننا أمام مشكلة فعلية: إلى أي حد يمكن الإقرار بتأثير «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» على الفكر ومُؤلفُها مُقتنع أشد الاقتناع بأن من يكتب عنها أو يتكلّم في موضوعاتها لا يعمل سوى على اجترار أوهام؟ هل الأمر يعود، كما يقول العروي نفسه، إلى «ميل نفساني إلى الاستخفاف بكل قواعد الكتابة المسؤولة؟». أمّ المسائل يذهب عبد الله العروي إلى اعتبار مسألة التعريب «أم المسائل فيما يتعلّق بموضوع كتابي هذا، أي «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» (4). ولذلك يتساءل، بمرارة واضحة: «كم جهودا ضاعت في تفنيد نظريات نسبت إليه (أي إلى الكتاب) في حين إنها تناقضه». وهو ما أنتج «تأويلات مغرضة» و»أحكاما مجحفة»، كان من نتائجها المزيد من الالتباس والتشوش في الفهم، وإضاعة العمق النظري والسياسي الذي احتواه «الأيديولوجيا العربية المعاصرة». واعترف عبد الله العروي بخصوص مشكلة الترجمة، في حواره المنشور بمجلة الكرمل (1984)، قائلا: «فمثلا أنا أستعمل كلمة السُنّة مقابل Tradition، ولكن للسُنَّة بئرٌ من المعاني. فالقارئ العربي عندما يسمع «السُنَّة» يتصورها في الحال عالَمًا، ولا يمكن أن أمحو هذا العالم من ذهني. هنا الصعوبة... كذلك الأمر مع مسألة العقل، إذ بالنسبة للقارئ العربي التقليدي وحتى غير التقليدي يتضمن العقل مفهومًا أخلاقيا... إننا نضيع وقتنا في تسويد آلاف الصفحات للاتفاق على الكلمات، ولكننا لا نستطيع الاتفاق، لأن كلا من المصري والعراقي وغيرهما يعطي للكلمة ما توحي به ثقافته التقليدية» (5). وفي الوقت الذي يفترض التطور ضرورة السير في اتجاه قطع العلائق مع الجذور نجد باحثين «يريدون أن يستخرجوا من اللغة العربية فلسفة. وأنا ضد هذا الاتجاه، لأن فلسفة اللغة هي فلسفة الماضي، فلسفة الجذور». وفي هذا السياق يلاحظ العروي أن «الكاتب حينما يكتب بالعربية، وتكون كتابته موجّهة للقارئ العربي، فإن هناك أشياء مفهومة لديه ضمنياً، مثل قضية الخلافة والسنّة. ولكن، بالعكس هناك أمور غامضة مثل الحرية والديمقراطية، فهذه أشياء لا بد من تحليلها. أما إذا كتبت بالفرنسية للقارئ الفرنسي أو الأوروبي، فإنه يفهم الديمقراطية لأنه قرأ عن الديمقراطية منذ اليونان. أما الخلافة فلا يعرفها. والمترجم، حينما يجعل جميع المفاهيم في مستوى واحد، أكان يترجم من العربية إلى غيرها أم العكس، فإنه في غالب الأحيان يخطئ، لذلك فإن النقاشات التي تمّت حول كتاب الإيديولوجية العربية المعاصرة مبنية أساسا على الترجمة، وهي ترجمة خاطئة في أغلب الأحيان»(6). هل علينا أن نبدأ من الصفر؟ يتساءل العروي. ويجيب: «هذا صعب جدّا، لذلك فإن الكلام بيننا الآن يدور حول مفاهيم، ولا نتفاهم برغم ذلك». إذا كان الأمر كذلك يبقى سؤال «صدى» الأيديولوجيا العربية المعاصرة إشكالياً في كل الأحوال، خصوصا من جهة المثقفين العرب الذين استقبلوا هذا الكتاب منذ صدوره بطريقة فيها منسوب كبير من «الحماس الأيديولوجي» أكثر مما تضمنت انشغالات معرفية بانية. التاريخ والفلسفة على الرغم من انتقاداته الكثيرة للفلاسفة المغاربة والعرب، لدرجة بدا فيها وكأنه «خصم» لهم، إذ يقول: «لقد أعطيت الانطباع، أحياناً أنني أستبعد الفلسفة باعتبارها حقلاً فكرياً. والحال ليس كذلك البتة»، فإن العروي يقرّ بالحاجة إلى الفلسفة والتاريخ في نفس الوقت. ويعترف: «إنني مشيْت على رجلين اثنتين: التاريخ والفلسفة، كما هو الشأن بالنسبة لمن جمع الفلسفة والتحليل النفسي، العلم والميتافيزيقا، وبشكل أكثر اعتياداً الفلسفة واللاهوت». ........................................ إحالات وهوامش: 1- Abdallah Laroui، Philosophie et histoire، Ed، Les croisées du chemin- Centre culturel du livre، Casablanca، 2017، P.7 2- عبد الله العروي، الأيديولوجيا العربية المعاصرة، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء- بيروت 2017، ص 12. 3- عبد الله العروي، الأيديولوجيا العربية المعاصرة، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء- بيروت، 2017، ص 12. 4- نفسه، ص 12. 5- حوار مع عبد الله العروي، مجلة الكرمل، العدد 11,1084، ص 184. 6- نفسه، ص 185.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©