السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

طفل الأنابيب

طفل الأنابيب
3 أغسطس 2009 01:31
كم كرهت في نفسي تلك الصفة التي لا تليق أبداً بالرجال، تلك الصفة التي لازمتني لفترة طويلة من حياتي، كنت متيقناً بان هذه الصفة لا تليق إلا بالفتيات الصغيرات، هذه الحقيقة تعتصر قلبي بألم مر، تخيلوا!! دمائي تصعد كلها لرأسي، أذناي تصطبغان باللون الأحمر، وجهي يحتقن، جسدي كله يتوتر، كل ذلك يحدث لي عندما يتحدث معي أحد، أو حتى بمجرد أن ينظر إلي شخص ما، الكلمات تحتبس في حلقي ولا تخرج بسهولة، وأجد صعوبة في أخذ النفس، والعرق يبدأ بالتصبب من جسمي كله، هذا يحدث لي عندما أكون مضطراً لمواجهة الناس والتحدث إليهم، وفي محاولة التعبير عن وجهة نظري أمام الآخرين، كياني كله ينقلب، يملؤني الارتباك وعدم الاتزان، فيا لها من صفة كريهة خربت علي أجمل سنين عمري، هل عرفتم ما هي تلك الصفة؟ نعم.. إنها الخجل. كان لدي شعور غريب بان الناس كلهم متفرغون لمراقبتي، وهم يحاولون السخرية من كل حركة أقوم بها، ومن شكلي وملابسي، وهم يتحدثون عني طوال الوقت، لذلك فإنني كنت في حالة تدقيق شديد لملابسي وهيئتي، ومراقبة شديدة لكل خطوة أخطوها، ولكن للأسف مع كل الحذر والمراقبة أشعر بأن الجميع ينظر إلي وكأنني قادم من كوكب آخر، حتى زملائي في المدرسة، لم استطع التواصل معهم، مع أنهم أطفال مثلي، كنت أشعر بالإحراج والارتباك إذا حاول أحدهم التحدث معي، أو كسب صداقتي، كنت أيضاً في موضع استغراب كبير في المدرسين، حيث إنني لم استطع يوماً الإجابة عن أي سؤال يوجه إلى أثناء الدرس، أما على الورق، فقد كنت أحقق أعلى الدرجات. كنت أحسد البكم، لأنهم غير مضطرين للتحدث مع الناس، والكل يعذرهم ويتعاطف معهم، أما أنا، فإن الكل كان يلومني ويطالبني بالتغيير وكأنني قادر على ذلك التغيير، وكأنني أنا المسؤول الأول عن تكوين شخصيتي. طفولة منعزلة عشت طفولتي لوحدي، فلم يكن لدي أخوة وأخوات، كان والداي يخافان علي من نسمات الهواء، لأنهما رزقا بي بعد خمسة عشر عاماً من الزواج والانتظار الصعب، وقد جئت بعد عمليات فاشلة متعددة لطفل الأنابيب، وقد دفعا مبالغ ضخمة لتلك العمليات التي كانت في طور التجربة، فلم ييأسا، حتى تحققت معجزتهما وجئت أخيراً إلى هذه الدنيا عن طريق الأنابيب. كان ذلك الشيء يؤلمني ويؤذيني، خصوصاً عندما كان أولاد عمي ينادونني بطفل الأنابيب، كنت أموت قهراً، وأنا أعتبرها صفة سيئة أو شتيمة، حتى سألت أمي يوماً عن معناها، فأخبرتني بتلك الحقيقة التي لم يتقبلها عقلي الصغير، فشعرت بأنني مختلف عن غيري، وإنني أقل من كل الأولاد، لأنهم ليسوا أطفال أنابيب، أما أنا، فإنني محكوم بهذه الصفة إلى الأبد. كلما كبرت، كبرت معي تلك العقدة، وذلك الإحساس بالنقص، فكنت بداخلي ألوم والدي لأنه رضي بان يكون أبنه من أطفال الأنابيب، وألومه لأنه كان يحب أمي ويسمع كلامها لتلك الدرجة. عشت وحيداً في بيت كبير أنا والخادمة والقطة، فوالدي مشغول بتجارته وأعماله، ووالدتي مشغولة بعملها كمديرة مدرسة، ولها نشاطات نسائية متعددة، في ظل انشغالهما نسيا وجودي وحاجتي لحنانهما، كانا يعتقدان بان توفير الألعاب غالية الثمن، وجميع الاحتياجات التي يحلم بها كل الأطفال في العالم، هي كافية لينمو صغيرهما مدللاً يحسده الآخرون!! وكانا يبالغان في إبعادي عن الاختلاط بباقي الأطفال خوفاً علي من أي سوء أو أذى قد يصيبني نتيجة اللعب الخشن مع الأولاد في مثل سني، فكانا يخوفاني من أي حركة أو نشاط أو أي شيء يمكن أن يؤذيني، فصرت أخاف أن أفعل أي شيء لاعتقادي بأنني سأواجه أخطاراً كبيرة وعظيمة لو تحركت أي حركة غير محسوبة وغير مدروسة!! هذا الخوف هو الذي جعلني قليل الخبرة وقليل التجربة ولا أثق بأحد، ولأنني لم اختلط بالناس كثيراً صرت أخشاهم وأحس بأنهم مخيفون يلاحقونني في جميع تصرفاتي. الشعور بالوحدة إنه شعور مؤلم، أن يعيش الإنسان وحيداً، تخيلوا كيف كنت أبكي والخوف يقتلني في الليل والأحلام والكوابيس المرعبة تلاحقني، فحتى الأحلام كانت كلها تدور حول محور واحد!! هو الخروج من المنزل والمشي بين الناس وأنا بداخل الأنبوب، مما يجعلني أواجه الأخطار من كل مكان، فتارة أتدحرج وأسقط من مكان مرتفع، وتارة يخرج إلي وحش فيكسر أنبوبي ويهاجمني ويمزقني، وتارة يجتمع علي الأولاد فيضربوني بقسوة، وتارة أخرى تدهسني إحدى السيارات وتفرمني إلى أجزاء صغيرة، كرهت النوم بسبب كل تلك الأحلام المرعبة، كنت أحسد الأولاد في المدرسة والذين يتكلمون بجرأة ويواجهون الآخرين ويلعبون ويتصارعون فيما بينهم، أنا الوحيد الذي لم اشترك بأي شيء مما يقوم به باقي الأولاد في المدرسة، كل ذلك بسبب عقدي الكثيرة. نمو العقد كبرت وكبرت معي تلك العقد، صرت شاباً وسيماً الفت نظر الفتيات، وبدلاً من أن أفرح لهذا الشيء، صرت أعاني كثيراً من نظراتهن التي تكاد تسقطني أرضاً لشدة إحراجي، فترتعش يداي ويرتعد جسمي كله، فأصبح في وضع لا أحسد عليه، أتممت دراستي الجامعية وعملت بوظيفة ممتازة، وبقي الحال كما هو عليه!! فكل زميلة تحاول التحدث إلي تجدني أشد إحراجاً منها فتتركني وتنصرف، فكر والداي بتزويجي، وكنت خائفاً جداً من أن لا أكون رجلاً كاملاً فرفضت ذلك بشدة، وعشت حياتي كما تعودت وحيداً بلا شريك أو أنيس، صديقي الوحيد هو قطي العجوز الكسول، كنت أحدثه بطلاقة وجرأة، وأنا أعلم بشكل أكيد انه الوحيد الذي يتفهمني ويحس بي، فقد عاش معي سنين طويلة لم يتركني ولم ينشغل بأعماله ومسؤولياته عني وكان يستمع إلي باستمرار. قرار سريع أصيبت والدتي بمرض، فقررت تزويجي لأنها تخشى أن يصيبها مكروه قبل أن ترى وحيدها مستقراً في حياته، أذعنت للأمر وأنا كاره، فاختارت لي فتاة من عائلة معروفة وتم الزواج بسرعة، كان شرطي الوحيد هو عدم دخولي صالة العرس، وبلا حفلة للرجال، أذعنوا لرأيي وقاموا بحفلة عرس للسيدات فقط، بعدها زفوا عروسي إلي، فجاءت الفتاة وفي رأسها أحلام كبيرة عن فارسها الوسيم الذي سيحملها على حصانه الأبيض وينطلق بها إلى أجواء السعادة والحب، فلم تجد سوى شاباً خجولاً منكمشاً لا يدري ما يفعل. مرت الأيام والفتاة تنتظر من عريسها المبادرة، فطال انتظارها دون جدوى، لذلك قررت أن تكسر الحواجز التي بيني وبينها وصارت تتحدث إلي بلطف، حاولت أن تدخل إلى عالمي بحذر شديد وحيطة، بعد جهد وصبر استطاعت أن تكسب ثقتي وصرت أرتاح إليها وأتحدث معها، وشيئاً فشيئاً أقنعتني بالذهاب إلى طبيب نفسي للمعالجة، فذهبت معها وكنت في غاية الخوف والإحراج، ولكني بعد أن تحدثت مع الطبيب عن حالتي وما أحس به، وبعد جلسات عديدة استطعت أن أتغير شيئاً فشيئاً حتى تخلصت من تلك العقد بشكل كبير وصرت أتحدث مع الآخرين بدون حرج، وتسرب الخجل والخوف مني وبشكل تدريجي. علاقة عقيمة ظلت علاقتي بزوجتي علاقة صداقة فقط، ولم تتعداها لمفهوم الزواج، فلم أحس يوماً بأن زوجتي هي أكثر من أخت أو صديقة، ولم أفكر بها كزوجة أبداً بالرغم من كل ما بذلته من أجلي!! وقد صبرت الفتاة على هذا الحال وهي تعتقد بأنني سأتغير مع الوقت من ناحيتها، لم يحدث ذلك، وإنما حدث ما هو غير متوقع مني، ففي إحدى رحلات العمل التقيت بإحدى الزميلات من قسم آخر، لا أدري ما حدث لي بالضبط، عندما التقت عيني بعينها، شعرت بشعور غريب لم أشعر به من قبل، وأحسست كأنني ولدت من جديد، هي أيضاً أحست بنفس الشعور وصرنا نتحدث خلال الرحلة وكأننا نعرف بعضنا منذ زمن طويل، صارحتها بكل تفاصيل حياتي، فتفهمتها وتقبلت كل شيء بإعجاب وتقدير، وحدثتني هي عن تجربتها الأولى الفاشلة في زواجها الذي ترك لها جرحاً أليماً وطفلة صغيرة لا ذنب لها سوى أن والدها إنسان فاشل، لا يعرف من الحياة سوى الخمر والمجون، تفهم كل منا ظروف الآخر، ولكن المشكلة هي.. كيف أواجه زوجتي؟ وهي تحبني كثيراً وقد ضحت لأجلي ووقفت إلى جانبي في محنتي!! ولكن ماذا سأفعل لها وأنا لا أجد بداخلي أي ميل إليها فلا استطيع أن أتقبلها كزوجة!! الصراحة المرة قررت مصارحتها، فهي التي عودتني على الجرأة والقدرة على التعبير عما بداخلي، فأخذت تبكي وتتوسل بأن لا أطلقها لأنها تحبني كثيراً، وإنها مستعدة لتقبل وجود زوجة أخرى في حياتي!! صارحت والدي فغضبا مني غضباً شديداً، وثارت ثائرتهما، فقامت زوجتي بتخفيف الأمر، وأقنعتهما بأنها موافقة على هذا الزواج، وهي غير معترضة، كانت تتكلم وفي صوتها غصة كأنها ستختنق وعيناها مليئتان بالدموع، أحسست بها وبحبها العظيم لي، فقررت أن لا أنسى لها هذا الموقف، وأن أحافظ على احترامي الشديد لها، وتقديري العظيم لمواقفها، وكنت أتمنى أن يمتلكني نفس الشعور الذي أحسه تجاه الأخرى فلا أخسرها بهذا الشكل، ولكن الأمر ليس بيدي!! عدت إلى حبيبتي وأنا أزف لها خبر الموافقة العائلية التي حدثت نتيجة موقف زوجتي وإقناعها لوالدي بأمر زواجي منها!! فوجئت بأن وجهها تغير وسكتت فترة ثم قالت: آسفة لا أريد أن أمر بتجربة فاشلة جديدة، فأنا لا أحب أن أعيش مع رجل في حياته امرأة أخرى غيري!! ثم تركتني وانصرفت!! لا أدري لم قارنت في هذه اللحظة بين موقف زوجتي النبيل وبين موقف حبيبتي الأناني!! عدت إلى بيتي وفي ذهني أن أبدأ من جديد معتمداً على نفسي، فزوجتي علمتني الثقة والاعتماد على النفس وترك الخوف والخجل وأنا سأعلم نفسي الحب والعطاء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©