السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الديكتاتورية العربية... نهاية مرحلة

10 مارس 2012
في التاريخ وفي مختلف الأزمان قد توجد أنظمة سياسية تتحول إلى حالة عداء تجاه مجتمعها وأمتها. عرف عن نيرون مثلاً الذي حكم روما في عام 62 قبل الميلاد بأنه أحرق روما مدينته كما يقال لتوسيع مزرعة واستلاب قطع أرض. وقد تساءل الفلاسفة والأدباء عن الأسباب التي قد تدعو زعيماً لحرق بلده وتساءل آخرون عن الأسباب التي قد تدعو آخر للتنازل طوعاً إذا شعر بأن شعبه لا يتقبله. فالقادة الذين يتركون مسرح التاريخ ويغادرونه غير عابئين بما تركوا وراءهم عرف عنهم انسجامهم مع إنسانيتهم قبل موقعهم وسلطتهم. كان الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول أحد هؤلاء، إذ ترك السلطة لمجرد أن الشعب لم يعطه النسبة التي أرادها ليستمر. ومن بين العرب من تنحى في السابق كالرئيس السوداني سوار الذهب لمصلحة الديمقراطية، كما تنحى الرئيس السوري شكري القوتلي لمصلحة الوحدة السورية- المصرية. وهذا النمط من القادة غير المتعطشين للسلطة وللسيطرة يترك بصمته عبر الأزمان ويتذكره الناس في وقت بلائهم كتعبير عن قيم العدالة. وقد عرف التاريخ أيضاً نسبة أكبر من القادة الذين يحركهم جنوح للسيطرة والنفوذ لا يحدّه ثمن أو قانون. وهذا النوع من الزعماء يرى نفسه فوق الشعب وصانعه الأول كما قال القذافي عن شعبه: «من أنتم؟» وهو قد يشعر بالتفوق والتعالي تجاه الناس ليصفهم بعبارات (جراثيم، تطهير، جرذان) وهذا النوع قلما يقرأ ويتعمق، أو يعرف التاريخ ولا يستوعب الظواهر الإنسانية والاجتماعية وعلاقة كل ذلك به وبنظامه. والنظام السياسي الذي يدور في فلك زعيم لا يفهم إلا منطق القوة كوسيلة للإدارة يتحول مع الوقت إلى أحد أكثر الأنظمة عرضة للمفاجآت والانهيارات. وهذه الأنظمة، على رغم قوتها البادية، تعيش عجزاً عن القدرة على استشفاف القادم وكل ما يخبئه الزمن. فالنظام في هذه الحالة مصاب بمرضين، الأول هو مرض العمى لكثير مما قد يقع حوله، والثاني هو مرض الاستخفاف بالمجتمع والناس والتغيرات التي تطرأ عليهم. لقد اعتقد شاه إيران، على سبيل المثال، في زمن الثورة عام 1979 أن الشعب معه وإذا به ضده. إذ اقتنع الشاه حتى الساعات الأخيرة بإمكانية البقاء. وكان معزولاً للغاية عن الواقع ويعيش في عالم من نسج خياله ولم يفهم كيف انقلب المجتمع ضده. أما تشاوشيسكو الزعيم الروماني فهو الآخر نسج عالماً من صنع خياله فانتهى به الحال إلى الإعدام على يد شاب من قواته التي يفترض أن تدين بالولاء له ولتاريخه. ولو ذكرنا ميلوسوفيتش الذي سبب حروباً عدة وانتهى معتقلاً في المحكمة الدولية لفهمنا كيف ينتهي الأمر بزعماء من قمة القوة إلى قمة التآكل. وكذلك القذافي الذي عاش في عزلة شاملة وفي عالم افتراضي لا علاقة له بالواقع المحيط به. وقد نقل هذه المشكلة إلى أولاده وانتهى الأمر بكارثة مدوية. وحتى مبارك ظل للحظة متقدمة أثناء الثورة المصرية يعتقد أن ما يقع في مصر من ثورة هو من صناعة فئة قليلة من جماعات الإسلام السياسي وشبان «الفيسبوك»، وأنه يجرى التعامل معهم لإخراجهم من الميدان. ولم يختلف البقية، فالأسد لا يزال يعتقد حتى الآن أن ما يقع في سوريا "مؤامرة" بينما هو يعيش في عزلة شاملة تجاه نشره الموت في كل مكان وقتله للبراءة في سوريا. إن فقدان الصلة بالواقع صفة تلازم الأنظمة الديكتاتورية، وعندما تقتل وتوزع الموت نجدها تمارس ما اعتادت على ممارسته عبر عقود. ولكن في لحظة تاريخية معينة يصبح الفتك والقتل محاولة فاشلة لإنقاذ نظام انتهى زمنه، وواقع لم يعد المجتمع يقبل التعايش معه. لا يرى مثل هؤلاء الزعماء غير ذواتهم. إذ تدفعهم أخطاؤهم إلى التعمق في محاربة الظواهر الإيجابية في مجتمعاتهم، وعندما يكتشفون كم يثير هذا من ردود فعل حولهم نجدهم يقمعون الحريات بقوة لأنها تثير التساؤلات وتخلق الوعي. القذافي مثلاً لم يكن ليتقبل وجود شخصية ليبية واحدة في كل ليبيا يشار إليها بالإيجاب حتى لو كان لاعب كرة قدم. والزعيم، في مثل تلك الحالات، يرى أن كل ما هو مختلف وجديد ومتغير وديمقراطي ومستقل قد يخصم من سلطته ومن دوره ويذكر الناس بما وصل إليه وضعهم على يده. ومع الوقت تصبح تلك الأنظمة في خندق يزداد عمقاً، فكلما قهرت مجتمعاتها وفتكت بها ازداد عمق الخندق. إن الديكتاتورية التي نشاهدها اليوم في سوريا وشاهدنا سلوكياتها في قمع الثورات والانتفاضات نتجت عن تاريخ طويل من التراجع العربي في مجال العلم والنقد والتساؤل والحرية وبناء الإنسان. فلكي تنجح ديكتاتورية تحتاج إلى ثقافة مجتمعية تتقبلها وتؤمن بالزعيم صانع "المعجزات"! فكلما كان المجتمع ضعيفاً مشتتاً لا يثق بنفسه وبقدراته، كان من السهل فرض الديكتاتورية عليه. ويتطلب نشوء الديكتاتورية مجتمعات تندر فيها المؤسسات الوطنية، ويسهل عبرها بناء الولاء لزعماء وليس لأوطان. د. شفيق ناظم الغبرا أكاديمي كويتي ينشر بترتيب مع مشروع "منبر الحرية"
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©