الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من أجنحة جبران إلى دفاتر باموك واسمه الأحمر

من أجنحة جبران إلى دفاتر باموك واسمه الأحمر
28 مايو 2008 02:56
كم قرأت من كتب؟ سؤال عبثي طبعاً··· لكن أيّ العناوين ترسّخت في الذاكرة ؟ سؤال من الممكن الإجابة عنه، ناهيك عن أوّل كتاب ذاك الذي يحتل من الوجدان مكانة الحب العذري الأول، تلك الموجة الأولى التي دغدغت تربة خيالي البكر مازلت أذكر هسيسها في الوجدان· ''الأجنحة المتكسّرة'' ذلك الكتاب لجبران خليل جبران قد استجاب لرغبة ما عصفت بطفولتي تستلّها من سذاجتها الجميلة لتلقي بها في حيرة مبكرة! كان وراء كل ذلك نهمي للقراءة الذي نما حيث كانت طبيعة علاقتي بالأهل تعمّق إحساسي بالوحدة· وكأنّما أدرك والدي ـ رحمه الله ـ عزوفي عن مشاركة بنات الجيران واللعب بالدمى الخشبية البائسة ونتائج الدراسة الحسنة أنني أميل للقراءة فعوّضني في اغترابي الروحي المبكّر بكتب يشتريها من السوق الأسبوعية للقرية، حيث تباع بين أوراق وكنانيش مختلفة كأكداس الخضار، كان يجلب منها ما ظلّ متماسك الأوراق دون انتقاء، فقد كان رحمه الله أمّيا· ظللت أعود إلى ذلك الكتاب في كلّ مرّة بفضول أشدّ شحذا وبفهم متدرج نحو وعي مغاير بدأ يضع في عمق الوجدان لبنة الخيال الإبداعي الذي ألهب خاطري لاحقاً في ما كتبت من نصوص البدايات، كنت أنفر من ضيق فسحة الواقع آنذاك في وجوه استفاق الوعي على حضورها وحكاياها ومآسيها أحيانا حدّ الملل وحيث إن لا متعة في حكايا الصبايا تربك دواخلي فأعود لحاقا بمتعة تتأرجح ثمارها المشتهاة، متعة ممزوجة بالحيرة والتوثب لصياغة قول عسير ضبابي مغاير يحلّق بعيداً بعيداً خارج أفق ضاق بأجنحتي المتوثّبة· نافذة على لبنان ''الأجنحة المتكسرة'' كان النصّ الحافز الذي دفعني في ما بعد للبحث عن مؤلفاته، ومتابعة سيرته والاقتراب من قرية ''بشري'' وغابات الأرز الشهيرة، لقد فتح لي جبران آنذاك نافذة على لبنان وأعلامه وكذلك مناخ عصره وأسباب اختياره للعيش في المهجر ومن ثمّ انفتحت لي عالم المعاناة الإنسانية داخل الوطن وخارجه· عندما تشكّ لحظة في قدرة الكلمة التي تذبح من الوريد إلى الوريد أو تغوص في اللحم الحي مثل نصل تأكّد أنّ هناك كتابا ما مضطرم بالثورة التي لا تهمد سيدحر الشك ويعيد لمفهوم الإرباك سلطانه على مياه التلقي الرّاكدة· إذا أدت أن أستعيد في زخم القراءات المتراكم مع امتداد الوعي والتجربة وانتقاءات الذائقة والمزاج، تطفو من آخر القراءات رواية ''اسمي أحمر'' حيث مضيت أستطلع الرسوم الخلفية للوحة التي يرسمها أورهان باموك ذلك الكاتب التركي الذي هوجم داخل الوطن لكشفه جراح الوطن، وصالحه الوطن إقرارا بأنّه ضمير أمّته، إنّه أورهان باموك نوبليّ آداب سنة ·2006 تحتوي هذه الطبعة للرواية المترجمة على ستمائة وخمس صفحات من الحجم المتوسط· والنص يحتوي على تسعة وخمسين فصلا تناوبت فيها أصوات مختلفة ومتعدّدة لشخوص رئيسية وثانوية عاقلة وغير عاقلة ناصية الحكي فجاءت مهرجاناً لأصوات متعددة، تبدأ الرواية بإعلان جريمة قتل من طرف القتيل نفسه، أنا ميّت، ينطلق الفصل الأوّل وفي معرض المنولوج يقول الميّت الملقى في قاع جب: ''باختصار أنا المدعو ين الناشين والأساتذة ظريف فأندي متّ ولكنني لم أدفن لهذا السبب لم تستطع روحي ترك جسدي'' من المنطلق، يرسم لنا ظريف أفندي بالصوت اللون الخلفي للمشهد: تركيا في زمن السلاطين العثمانيين حيث عرف الفن المرئي الإسلامي معماراً وهندسة ورسماً ونقشاً ازدهاراً في تاريخ الفن الإنساني كما عرف عصر المنمنمة، من الصفحات الأولى يستثير صاحب ''اسمي أحمر'' قرّاءه، بدأ ذلك بالعنوان إعلانا جهرا إلى ما توحي به عبارة ''أحمر'' بما تحويه من اعتراض وثورة وخروج عن الخط الأخضر والقول المقبول والفكر المنضوي والإشارة المنكسرة والخروج عن المألوف والإرباك والإشعار بالخطر وبشأن هذا العنوان يقول المترجم في مقدمته قولا قد لا يقنع القارئ: ''يستمدّ عنوانها من اللون الأحمر الأكثر استخداماً في الرسم الإسلامي'' (!) سرّ باموك لقد استطاع باموك بصياغة مشهد من اعترافات قرّة (شخصية مهمة في الرواية) أن يضع قارئه في المشهد، لا ليطمئن بل ليبحث عن سرّ الحكايات المتعاقبة كحبّات المسبحة في عالم النقاّشين، وربّما اتّضحت للقارئ خيوط جريمة المنطلق، مقتل ظريف أفندي وهو يصغي إلى بوح النقّاش، غير مهم من يكون، المهم ما يفضي به في تداعياته عند مقهى في حارة من حواري استنبول منصتا إلى أحد المدّاحين، فيهمس إليك أنّه أحذق النقاشين، أمهرهم، ولا مجال لقبول المنافسة: ''لا أقول هذا لأتفاخر أمامكم بل أقوله لكي تفهموني، تصبح الغيرة في حياة النقاش مع الزّمن أداة لا يستغني عنها مثل الألوان في حياته''· هو الفنّ المزدوج بتركيبة إنسان يقنّن حياته والغيرة في الفنّ، هي ذروة العشق الشيطاني للفنّ ما الذي فعله الموسيقار الإيطالي سالييري بأماديوس موزارت؟ قد يؤدي عشق الفنّ والغيرة الشديدة وحمّى المنافسة إلى القتل، حيث لا جدال إلاّ الإلغاء الأعنف من أجل التفرّد في العشق الأعظم، لقد نسي قرّة وجه حبيبته ولكنه لا ينس منافسة في سجال الفنّ· يقول قرّة بطل الرواية أو بالأحرى أورهان باموك الباحث عن قوّة الرّسم في الحكاية وسلطان الحكاية في النقش على لسان النقاش ''يحفر رسم المعلم الكبر بهزاد في نفسي خوفا حقيقيا لا يقلّ عن خوف الحكاية نفسها''· يمضي خلف النقاشين وحكايات النقاشين في بلاطات السلطان وأزقة استنبول راسماً خطوطا باللون الأحمر البارز في المنمنمة العامة العملاقة استنبول زمن ''لا أحد يثق بأحد كل شخص يتوقع سفالة من الآخر في كلّ لحظة ويقول في موضع آخر''· كأنّ أزقّة المدينة الضيّقة والمخيفة تنار بضوء رائع ينبعث من قلب ندف الثلج، وأحيانا أعتقد أنني أرى بين الخرابات والأشجار أشباحاً جعلت استنبول منبوذة على مدى مئات السنين وأحيانا ينبعث من البيوت أنين التعساء، أو سعالهم غير المنقطع، أو صوت شدّ أنوفهم أو بكائهم وصراخهم في أحلامهم أو محاولة إمساك الأزواج بخناق بعضهم بعضا بجانب أولادهم الباكين· ضفاف الحكاية يمضي أورهان في رسم المبتغى بين ضفاف الحكاية من خلال تداعيات شخوصه فتتضّح نقطة هامة تشي بها مضامين الحكاية وهي هاجس الهوية بين الثبات والتأثّر حيث نلمس تأثّر كبير النقاشين بما شاهد من خصائص الفنّ الإيطالي والمدرسة الانطباعية وفن البورتري والجداريات والمصممة من الخيال عكس المنمنمة التي تساير الحكاية والملحمة والسيرة يقول أحد النقاشين ''الرّسم هو أن تزهر الحكاية بالألوان، لا أحد يستطيع التفكير بالرّسم دون حكاية''· في روايته ''اسمي أحمر'' أفرد الكاتب مجالا للحيوان وللجماد حتّى تعبّر أو بالأحرى يعبّروا ضمن خطاب الشخوص الآدمية، كأن يعتلي كلب أو حصان سدّة الحكاية، أو أن تحدّثنا شجرة أو قطعة نقد قائلة ''أنا ذهبية سلطانية عثمانية عياري اثنان وعشرون···'' كما نجده يفرد للموت صوتا في البوليفوني العجيبة يقول الكاتب بشأن ذلك في سياق الحوار الذي أجرته معه مجلة ''باريس ـ ريفيو'': ''··· بعض الموضوعات تتطلّب ـ أيضا ـ تجديدات في شكل معيّن أو في خطط السّرد، أحيانا للمقال تكون قد شاهدت شيئا أو قرأت شيئا، أو كنت في السينما أو قرأت مقالا في جريدة ثمّ تفكّر، سأجعل البطاطا أو الشجرة تتكلّم بمجرّد أن تأتيك الفكرة تبدأ في التفكير في تناسق الرواية واستمراريتها وتشعر بشعور جميل، فلم يفعل أحد هذا من قبل''· ''اسمي أحمر'' رواية بالألوان التي لا يمتلك تركيبتها إلاّ الخارجون عن السّرب والكتابة الخارجة عن السرب في أعمال أورهان باموك بوّأته لمقروئيّة عالمية فضلا عمّا حقّقته أعماله المترجمة إلى كثير من اللغات العالمية مبيعات مرتفعة وجعلت جائزة نوبل للآداب تحطّ في خريف عام 2006 عند بابه· ü كاتبة تونسية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©