السبت 11 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وقائع اختفائي الغامض!

25 مايو 2008 13:14
aktowfik@hotmail.com بعد أسبوعين من الذهاب إلى المدرسة في الصف الأول الابتدائي، قررت أنه لم يعد في قوس الصبر منزع، وأن السيل قد بلغ الزبى وأي تعبير آخر يروق لك· لقد كرهت المدرسة كالجحيم وصممت على أن هذه نهاية قصتي مع التعليم، لكن ماذا أفعل بالضبط؟ كنت أذهب إلى المدرسة صباحا، فكنت أنادي ابن البواب الصعيدي (سباعي)، وهو شاب نشيط في الثامنة عشرة من عمره، يبرز لي من داخل الغرفة ويلف التلفيعة (الشال) حول عنقه ثم يمسك بيدي قاصدا المدرسة وهو يلهث من البرد، والبخار الأبيض يتصاعد من فمه، ثم يتركني عند الباب مع توصية بألا أفعل كذا أو كذا··· وهكذا يبدأ يوم الجحيم حتى الظهيرة· في ذلك اليوم قررت أن المدرسة انتهت بالنسبة لي· كان الوقت مبكرا تماما وفناء مدرسة الإصلاح الابتدائية المبتل من أمطار البارحة شبه خال من التلاميذ· لا أعرف كيف ولا لماذا قررت أن الوقت قد حان· بخطوات آلية توجهت إلى بناية الإدارة ومشيت حتى غرفة مديرة المدرسة· نظرت من الباب فوجدت الغرفة الرهيبة خالية تماما· إضاءة خافتة أقرب للظلمة ورائحة عطرية خفيفة في الجو· في هدوء اتجهت إلى أكبر مقعد في ''الأنتريه'' (مقعد كبير) الوثير الموجود في ركن الحجرة، وزحفت على ركبتي حتى صرت خلفه ثم تكومت على نفسي في وضع القرفصاء وأرحت ظهري للجدار· كانت الأرض باردة والجدار ثلجياً لكني كنت سعيدا· بعقل طفل في الخامسة كنت أعرف خطتي جيدا· في كل يوم سآتي إلى هنا وأتوارى خلف هذا المقعد إلى أن تحل ساعة الانصراف فأتسلل إلى الخارج وأعود إلى بيتي!· هكذا للأبد وإلى أن أصير رجلاً كبيراً لا يقدر أحد على إرغامه على الذهاب للمدرسة·· هكذا جلست راضياً عن نفسي· ومرت الساعات·· لا أعرف الوقت لكني سمعت صوت الطابور وطقوسه ودقات الطبول و''تحيا الجمهورية العربية المتحدة'' - لا تنس أننا في العام 1967 - ثم سمعت عشرات الأقدام تضرب الأرض متجهة لزنازين التعذيب· ظللت أهنئ نفسي على براعتي، ويبدو أنني نمت قليلاً· صحوت من نومي فأخرجت ''الساندوتش'' من الحقيبة والتهمته، وعدت أجلس تلك الجلسة المتعبة التي لم أتحملها إلا بالعناد والرغبة في ألا تفشل هذه التجربة· مر الوقت، ثم سمعت من يتكلم· هناك من يزيح الستائر ليجعل إضاءة المكتب ساطعة· صوت العاملة العجوز الطيبة تقول للرجل إن مديرة المدرسة قادمة بعد قليل· لم أفهم من الكلام سوى أن المديرة مختفية - ولعلها مختبئة خلف مقعد آخر - وأن هذا الرجل مهم جدا· إنه ينوي الجلوس، إنه يتجه إلى··· إلى······ المقعد الذي تواريت خلفه· آخ!··· هناك تفصيل بسيط هو أن ردفيه عملاقان وأن هذه المقاعد تميل للخلف عندما يجلس عليها رجل بدين· هكذا وجدت نفسي كفأر في مصيدة وقد قطع هذا الرجل الماء والنور عني، ومددت رأسي أنظر له· كان شديد البدانة وقورا متأنقا، وعلى عينه تلك النظارة السوداء التي كانت تدل على الأهمية في ذلك الوقت· لا أعرف من كان وزير التربية والتعليم في ذلك الوقت لكن لا أستبعد أنه كان هذا!· كانت هذه هي اللحظة التي لم أعد أتحمل بعدها فوثبت من خلف المقعد، وطار الرجل مترا في الهواء وهو يصرخ: - ''بسم الله الرحمن الرحيم!''· احتاج إلى دقيقة كي يستوعب الموقف، ودقيقة حتى يفهم أنني طفل في الخامسة· وقف وسألني محاولاً التظاهر باللطف: - ''اسمك إيه؟''· لم أرد، حملت حقيبتي في كبرياء وغادرت المكتب أمام ذهوله· عندما عدت إلى الفصل قوبلت بعاصفة من الدهشة· لقد كانت هذه هي الحصة الخامسة!· الكل يسألني أين كنت فأرد في غموض: - ''سباعي''· لا ضمير لدى الأطفال وهم يجيدون الكذب ويلتذون به، لهذا أرسلت المعلمة خطابا لأمي تشكو فيه المدعو سباعي· وفي البيت استجوبتني أمي مرارا فلم أكن أرد إلا بكلمة واحدة هي: - ''سباعي!''· فيجن جنونها··· لو كان سباعي يتلكأ ويلعب القمار مع أصدقائه فلن يتسبب هذا في تأخيري حتى الحصة الخامسة· الطفل ملاك لا يكذب· إذن أين كنت يا عم سباعي؟· الفتى يدافع عن نفسه ويقسم بأغلظ الأيمان أنه أوصلني إلى الباب في الموعد المناسب· طبعا لم يصدقه أحد· وظلت علامات استفهام مريبة تحيط به، بينما صار توصيلي للمدرسة مهمة أبي أو أختي· بعد أسبوعين تركت أسرة سباعي البناية لتعود إلى الصعيد، ولا أعرف إن كان لهذا علاقة باختطافه لي أم لا· على كل حال عرف الجميع حقيقة القصة فيما بعد وتلقيت علقة لها العجب· في التسعينات من القرن العشرين ساد مفهوم إيذاء الأطفال أو Child abuse في الخارج، وعوقب آباء كثيرون لأنهم عذبوا أولادهم أو تحرشوا بهم جنسيا، وصار بوسع أي طفل أميركي أن يسجن أباه ويجد أباً أفضل لو قال للقاضي إن أباه قبله على خده ثلاث مرات مثلاً· جاء القرن الواحد والعشرون ليكتشف العلماء النفسيون أن معظم هذه القصص ابتكرها الأطفال ولفقوها وبعضهم اعتبرها ذكريات حقيقية وهي ظاهرة (الذاكرة المزيفة) المعروفة· هكذا أعيد الاعتبار لآباء كثيرين ضاعت سمعتهم· تذكرت قصة سباعي المسكين هذا· مشكلته هي أن خصمه الكاذب كان في الخامسة من عمره، والأطفال لا يكذبون أبداً كما تعلم· وما زلت حتى اليوم أتمنى لو وجدته لأقول له: أنا آسف· هذه هي الوقائع الغريبة والمثيرة لذلك الاختفاء الغامض، ولهذا أطالب قراء هذه الجريدة الغراء بأن يحتفظوا بها ولا يخبروا بها أي واحد ممن لم يشتروا هذا العدد·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©