السبت 4 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«طيران الإمارات» والخور ومارتن أميس

«طيران الإمارات» والخور ومارتن أميس
21 ابريل 2010 20:25
أنتَ لا تصيد الأماكن، وإنما هي التي تصيد.. هكذا طابت لي الجلسة في “المقهى” المطل على الخور من فندق كونتننتال دبي “فيستفال سيتي” خلال الأيام الأربعة التي قضيتها هناك مشاركاً في مهرجان طيران الإمارات للآداب (2010). كنتُ أستيقظ وأنزل إلى حيث تقام ندوات المهرجان ومعرض الكتب المُرافق. أتجول هناك ومن ثم أدلف عند الثانية عشرة ظهراً إلى ذلك “المقهى” وأجلس على طاولة نعتت لاحقاً بـ”طاولة أحمد راشد”. على تلك الطاولة أجلسُ لأتأمل الخور، إذ قبل عشرين عاماً فحسب، كان الخور يوشك على التلاشي في رمال الصحراء بعد جسر القرهود مباشرة. وأتذكر تحديداً بأن أحد الأصدقاء كان يرصغ قاربه قريباً من هذه المنطقة التي أضعُ فيها جسدي الآن، وكنا في بعض المساءات نأتي ونفك القارب من رصغه ونبحر نحو الخليج لاصطياد السمك، وتذوق هواء البحر الغامر. أما الآن فالخور يبتعد عن القرهود، متجهاً إلى أعالي الراشدية ومن هناك يبدو بأنه يستدير حتى يدخل بر دبي، ويتنزه هناك قرب الجافلية، أو سيذهب ليرى ما الذي يحدثُ في جميرا. برج خليفة يشق فراغ السماء أمامي، أما قريب من مرمى عَيني، على الضفة الأخرى من الخور، فعلى ما يبدو ورشة “لوشر” أو صنع أو إصلاح السفن الخشبية، في حين على يميني تستدير قاعدة تحطُ عليها طائرات الهليكوبتر. بينما في التحت تماماً من ذلك “المقهى” ممر يوصل إلى “المول” المرتبط بمجموعة من الفنادق. يمشي في الممر العشاق، والعائلات، والسياح. فدبي “دار الحي” فعلاً، أو ما زالت رغم كل الأقاويل، ففي هذا الفندق رأيت ما لم أره من قبل، وهي الطوابير التي تنتظر الدخول إلى المطعم، سواء للإفطار أو الغداء، وتخف عند العشاء، فالليل على ما يبدو يغمر الجميع باتساع الظلام. ولا أعرف لماذا تُسمى هذه المنطقة بهذا الاسم الأجنبي: “فيستفال سيتي”، فهذه المنطقة من الخور كان لها اسم محلي على الأرجح، كما ينبغي أن يسترعي هذا الغيورين على اللغة العربية في البلد، والذين لطالما اعترضوا على أخطاء لغوية في تسمية البقالات. أحياناً أقطع جلستي في ذلك “المقهى” وأقوم للغداء ومن ثم أنام قليلاً، وعندما أستيقظ من تلك القيلولة أنزلُ إلى حيث المهرجان. طوابير أيضاً من الناس تنتظر توقيع هذا الكاتب الأجنبي أو تلك، أما الكتّاب العرب فنادراً ما نجد أحداً يلتفت إليهم، مهما كانت أهميتهم. مهملون، الكتاب العرب مهملون، مهملون في أحد أوطانهم، في مدينة من مدنهم الجديدة والشابة والطالعة. لماذا هم مهملون؟ من متى؟ هل مهملون تاريخياً، السلطات، الاستعمار، الشرق، الغرب...؟ بل هم يهملون أنفسهم، يقول صوت آخر، يشجعون الجميع على إهمالهم. انظروا لتذاكر الطعام الرخيصة التي أعطيت لنا نحن الكتّاب العرب؟ يقول أحدهم غاضباً، يرد عليه آخر: هذه التذاكر أعطيت لكل المدعوين، ولكن، يرد الأول، حتى أحد لم يقل لنا الحمد لله على السلامة، لم يسألنا أحد من أين جئتم، ولماذا، ثم قل لي: ألم يأت هؤلاء الكتّاب والفنانين الأجانب بعقود. أنا سمعت بأن الكاتب الأجنبي الفلاني وقعّت معه الجهة المنظمة عقداً بمبلغ وقدره. هل وقع معك أحد عقداً؟ هل قال لك أحد ما مقابل مشاركتك في هذا المهرجان العظيم غير تذكرة السفر، وتذاكر الطعام الرخيصة، وغرفة الفندق الفارهة؟ هل جئنا الى هنا من أجل غرفة فارهة؟ هل يعتقدون مثلاً بأنه ليس لدينا بيوت، ولا أشغال ولا ارتباطات؟ الآخر أيضاً لا ينوي السكوت، فيرد: ولكن دُعيت وقبلت الدعوة دون أن تسألهم كل هذه الأسئلة. لقد وافقت أنت على المشاركة بهذه الطريقة، فلماذا تحتج الآن؟ ثم هل ذهبت الى المنظمين وقلت لهم ما تقوله لنا الآن؟ هُنا يستقيم النقاش على تلك الطاولة المرتجة من الغضب: أنا أقترح أن نذهب، أن نشكل وفداً مختاراً بعناية. الكوب بين يدي يرتجف عندما يسمع كلمة اللجان. ودع نفسك لهذا النقاش الذي يستطرد على الطاولة، خاصة حين فتح الأستاذ فاه وقال: ـ يا جماعة الخير، هذا المهرجان ذا ميل انجلو ـ سكسوني، إنه فعالية تعتمد أساساً على الجالية البريطانية في دبي، ومن خلالها تتابع بعض الأنشطة الثقافية والأدبية والفنية التي تحدث في العالم المفترض (وهذا غير الافتراضي كما تلاحظون) للامبراطورية البريطانية البائدة. مغنون من الهند، مثقفة من أستراليا، كاتب من أيرلندا، وهكذا. وما الكتّاب العرب في مثل هكذا فعالية إلا زينة، أو بكلمات أدق جواب على سؤال: كيف تحدث فعالية من هذا النوع في مدينة عربية بلا دعوة كاتب عربي؟ وبالتالي فإن وجود كتّاب عرب من الإمارات في هذا المهرجان ما هو إلا زينة الزينة، زخرفتها، حواشيها، سقطها. ـ ماذا يقصد هذا الأستاذ بالسقط؟ هل رآنا سقط...؟ سأعترض. ولكن كوبي يسبقني، ويلهي فمي بالسباحة في سطحه الأبيض المتلألأ . ما يُميت الكتّاب العرب ليس إنهم مهملون فحسب، وإنما إحساسهم المتفاقم بالإهمال، ما يُميت الكتّاب العرب كتابتهم التي لا يعرفون الى أي حتف ستقودهم، وقارئهم المجهول ذاك، والذي لا يعرفون أين يعثرون عليه، أو... “تعددت الأسباب والموت واحد”، بهذا يمكن للمرء أن ينقذ نفسيته من نقاشات المثقفين التي تقضي على السهرات وتملأ المنافض. ولقد استمتعت فعلاً خلال تلك الأيام برفقة عذبة، خاصة مع الصديق الروائي عبده خال الذي لم أره منذ عقود، وصديقي الشاعر والمترجم والزميل سامر أبو هواش. إذ وبعد أن أقوم بجولاتي القصيرة في أروقة “المهرجان”، أعود إلى طاولتي أتأمل الخور، خاصة النوارس التي تحيط بقاعدة هبوط الطائرات، وكيف تطير عندما تهبط طائرة، وكيف تعود عندما تختفي تلك الطائرة عن الوجود. ومنذ اليوم الأول أشار لي أحد الأصدقاء بأن ذلك الجالس هناك من أهم الروائيين الآن في الغرب. ما اسمه؟ هكذا سألت، فقيل لي: مارتن أميس، وهو بريطاني، ومن أهم أعماله الروائية: “أوراق راشيل” و”الأطفال الموتى”، ويكتب في أهم الصحف البريطانية و... إلخ. في الأيام التي تلت قمت ألاحظ ذلك الشخص.. وأكتشف بأنه في أكثر ساعات “المقهى” لا يبقى جالساً إلا أنا وهو. أنا أتأمل الخور أو أقرأ أو أكتب أو يزورني الأصدقاء، وهو يقرأ أو يزوره الأصدقاء أو الصحفيون الذين يبحثون عنه بلهفة كما يبدو، وهو يجيد التعامل معهم. ومع الساعات الطويلة التي جلسناها، قمت أحسُ بعواطف “الجيرة”، حتى ولو كانت هذه “الجيرة” على طاولات “مقهى”، فنحن في الأخير نستنشق هواء الفضاء نفسه. حقاً نحن لا نتكلم مع بعضنا البعض، ولم نتعرف، ولكننا “نتجاور” في هذا المقهى لكي يفكر كل واحد منا بـ”روايته” الخاصة. ولكن وقبل اليوم الأخير من المهرجان جاءني إلى المقهى أحد الأصدقاء ومعه كمبيوتره الشخصي. جلس وبدأ في البحث. عن ماذا تبحث؟ سألته، قال: عن مارتن أميس، “جاري”، قلت، قال: أجل، ولكنه إلى الآن لم يأت إلى المقهى، ولم يسمع الصديق قولي هذا واستغرق في البحث، ثم وبعد دقائق قال: أوف. قلت له: ماذا؟ قال: اسمع ماذا يقول “جارك”؟. ماذا يقول؟ قال: في مقابلة تلفزيونية له مع الـ”بي.بي.سي” ادعى أنه “متفوق أخلاقياً” على الدول الإسلامية التي لم تتطور إلى مستوى العالم الغربي، وفي مقابلة أخرى أجريت معه عام 2006 قال: “هناك حاجة مُلحة للقول إن على المجتمع المسلم أن يعاني لكي يرتب أموره الداخلية. علينا أن نمنعهم من السفر. وأن نرحلهم.. وأن نفتش عن طريق التعرية في مطاراتنا الأشخاص الذين يبدون من الشرق الأوسط.. وعلينا أن نمارس التمييز ضدهم.. حتى يتأذى المجتمع المسلم برمته ويبدأ بممارسة الشدة مع أطفاله”. أوف. عواطف “الجيرة”، بالنسبة لي تأذت تماماً، أما المثقفون العرب فواصلوا القول: كيف لدبي، وهي مدينة عربية ـ إسلامية طبعاً، أن تدعو كاتباً عنصرياً فجَّاً كهذا. في اليوم الأخير تجاورنا أنا ومارتن ولساعات طويلة في “المقهى”. وكنت أتساءل طوال الوقت، خاصة حتى يغصُ “المقهى” بالرواد وأغلبهم عرب ومسلمون: ألا يخشى هذا من “أعدائه” المتوهمين، والذين يطالب بممارسة العنصرية ضدهم وتعريتهم في المطارات؟، ألا يخشى من “تفجير” ضحكاتهم في وجهه؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©