الأربعاء 8 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السياسة خلف الأبواب المواربة

السياسة خلف الأبواب المواربة
21 ابريل 2010 20:22
طبعت الأفلام الروائية القصيرة ظلالها وألوانها المتباينة على شاشة الدورة الثالثة لمهرجان الخليج السينمائي الذي أقيم مؤخراً في دبي، ومرد هيمنة الأفلام القصيرة على مناخ المهرجان يعود لتعدد الأصوات والمواهب السينمائية الشابة التي وجدت في الشريط السينمائي القصير مساحة ذهبية من التعبير البصري الجريء والمتعدد المستويات والقابل أيضاً للتأويل والمداولة والبحث في قيمة وقوة هذه الأفلام على المستويين الموضوعي والفني. يضاف إلى ذلك أن التصدي للأفلام الروائية الطويلة دونه الكثير من الصعوبات الإنتاجية والتقنية التي تحتاج لدربة ومران وخبرة في التعامل مع قصص ممتدة ومتسعة يصعب لملمة خيوطها وإكسابها نوعاً من التماسك والوحدة الموضوعية، على الأقل في الوقت الراهن وفي زمن الملامسات الأولى لتجارب شابة وطموحة تسعى لصياغة مشروع حقيقي ومتواصل مع الفيلم الروائي الطويل في منطقة الخليج. ثقافة الصورة ورغم أن هوى المهرجان وبرامجه وخياراته الفنية كانت مفتوحة على عدة مسارب واتجاهات مثل الأفلام الوثائقية والأفلام الطويلة ـ رغم قلة عددها ـ والأفلام المستضافة ومشاركات الطلبة، إلا أن الفيلم الروائي القصير حاز على نصيب وافر من الاهتمام والمتابعة اعتماداً على حجم المشاركة ونوعية الطرح الذي امتلك جرأة عالية في اختراق التابوهات الاجتماعية وتشريح الهموم والأسئلة القابعة وراء الباب الخلفي من السائد والمكرر والشائع في الوسط الإعلامي وفي توازنات الترجمة المباشرة والانطباعية للوقائع اليومية والمشهدية في دول الخليج. 38 فيلماً كانت هي حصيلة المشاركات التي تنافست على جوائز المسابقة الرسمية للفيلم الروائي القصير في هذا الحدث السينمائي السنوي، ولكن السؤال الذي دار في أروقة المهرجان ارتكز على مدى قدرة هذه الأفلام في التمرد على شروط الفيديو والطابع التلفزيوني، وعلى مدى وفائها للمحتوى السينمائي، وما يتمتع به هذا المحتوى من خصوصية التعبير ومن لغة بصرية تتجاوز وبمراحل الشكل التلفزيوني الميمهن على ثقافة الصورة في المنطقة. هذه الأسئلة وغيرها باتت تنطلق من مدارات بحثية وجدل ونقاشات تراكمت خلال الدورتين السابقتين للمهرجان وخلال الدورات الست (لمهرجان أفلام من الإمارات) التي انطلقت شرارتها قبل ثماني سنوات في أبوظبي، وهي نقاشات مطلوبة وملحة لأنها تضطلع وتنبش في مجمل التجربة السينمائية في الخليج، كما أنها نقاشات تتوازى مع طموحات وتطلعات القائمين على هذه المهرجانات لخلق حالة سينمائية فائرة ومتواصلة ومبشرة أيضاً لمستقبل الفن السابع في الوسط الخليجي. ومن خلال نظرة بانورامية للأفلام القصيرة في المهرجان يمكن القول إن التجارب السعودية والعراقية كانت هي المتميزة والأبرز على مستوى الكم والنوع، بينما شهدت الأفلام الإماراتية تراجعاً ملحوظاً فيما يتعلق بالمقاربات القصصية والمخرجات التنفيذية مقارنة بالدورتين السابقتين، الأفلام الكويتية والعمانية بدورها حافظت على منجزها السابق ولكنها لم تفرز أسماء جديدة أو تجارب مدهشة ومتجاوزة للحلقة المكررة من الحكايات الشعبية والعصرية على السواء، الحال نفسه ينطبق على الأفلام البحرينية التي ظلت مواضيعها أسيرة للقالب الرومانسي وللقضايا الاجتماعية المباشرة التي لا تحتمل الرمز أو التلميح الفني، رغم أن هذا التلميح أو هذا الرمز يدخل في صلب وأساس اللغة السينمائية الحافلة بالصور والإشارات الضمنية والمؤثرة في ذات الوقت، بينما استمر الغياب المتواصل للأفلام القطرية واليمنية ولأسباب غامضة وغير مفسرة حتى الآن. وهنا قراءة لأبرز الأفلام الروائية القصيرة في المهرجان والتي حازت جوائز وإشادات فنية من النقاد والضيوف وجمهور المهرجان. القفز نحو الضوء قدم الفيلم السعودي “عايش” الحائز الجائزة الأولى للمسابقة الرسمية نموذجاً قياسياً لشروط الفيلم القصير الناجح والمتماسك، وهي شروط يمكن إلحاقها بفن كتابة القصة القصيرة أيضاً، نظراً للمواصفات الفنية المشتركة التي تتطلب الكثافة والإيجاز ومخاطبة المخيلة البصرية للمشاهد من خلال حوارات مقتضبة تتجنب الشرح والمبالغة والاستطراد السردي الزائد والمقحم على عذرية الصورة. يتحدث فيلم المخرج السعودي عبدالله آل عياف وبلغة بصرية عالية وعارفة أيضاً عن متواليات الحياة الكئيبة والروتينية لحارس المشرحة في إحدى المستشفيات والذي يدعى (عايش) ـ يقوم بدوره الفنان إبراهيم الحساوي ـ حيث يصف لنا الفيلم وفي نصف ساعة لم نشعر خلالها بأي انفلات أو اضطراب في الإيقاع العام للحبكة عن النقلة الوجودية والدرامية الموفقة والموظفة جيداً والتي تحرر هذا الحارس من سيطرة العتمة الروحية التي يعيشها كي يكتشف الجانب المضيء والمتوهج من الحياة، هذا الجانب الذي غفل عنه (عايش) طويلاً بقصد أو من دونه. يبدأ الفيلم على مشهد يصور الروتين الصباحي في منزل عايش الذي يخلو من أي أثر للبهجة، وفي غرفة الموتى التي يحرسها عايش يتواصل السرد البصري الداكن لرجل محاط بالجثث التي فرّت من ضجيج الخارج وصخب العيش واستقرت في برودة الثلاجات المؤقتة قبل موعد الدفن، وفي يوم مختلف ومفاجئ يتم استدعاء عايش كي يحل مكان المشرف على قسم الولادة في المستشفى نظراً لغيابه الطارئ، ومن خلال تواصل حميمي ودافئ يكتشف عايش في وجوه الأطفال الرضع وفي ملامسته لهم ذلك الضوء القابع والمتواري في أعماقه، ضوء يأتي فجأة كي يعيد عايش إلى الحياة مجدداً، وكي يكشف له عن طاقة الأمل والبراءة والخفة التي طمرتها ذاكرة الموت واليأس والنهايات الثقيلة والصامتة، وفي لقطة ختامية موفقة نرى عايش وهو ينطلق بدراجته النارية وخلفه دمية وجدها مرمية في ردهة الأطفال بالمستشفى، انطلاقة كسرت الخوف والخجل، وجاءت أشبه برحلة طهرانية نحو الفرح المنسي ونحو الذات الغاربة والمغبرة، التي اغتسلت مجدداً بنشيد الحياة وتحولات الروح. الحرية المبتورة الفيلم الثاني الذي يمكن الإشارة إليه هنا هو الفيلم الروائي القصير للمخرجة السعودية عهد كامل والذي حمل عنوان “القندرجي”، وعهد كامل اسم نسوي جديد يضاف للمشتغلات بالحقل السينمائي في السعودية، ونذكر هنا المخرجة السعودية هيفاء المنصور التي قدمت عدة أفلام قصيرة تناولت الجانب المسكوت عنه في المجتمعات الشرقية وخصوصاً الجانب المغيب في حياة المرأة السعودية والصعوبات التي تجدها هذه المرأة في التعبير عن ذاتها ومواهبها التي تحجبها الكثير من الأعراف والأحكام المسبقة. يحكي فيلم “القندرجي” الحائز الجائزة الثانية في مسابقة الأفلام القصيرة عن الانكسارات الداخلية لصانع الأحذية بعد خروجه من السجن في ظل التغلغل الأميركي داخل الأراضي العراقية، يقوم بدور القندرجي الممثل المصري عمرو واكد، حيث نراه بعد خروجه من الأسر وهو في حالة عزلة كاملة عن محيطه العائلي والاجتماعي، يصور الفيلم أيضاً الحالات المشهدية المعتمة التي تطرح أسئلتها المؤلمة عن التحولات الجديدة التي ترافق السجين العراقي في المعتقلات العصرية والتي تمارس أبشع طرائق الاستجواب وانتزاع الاعترافات من السجناء، يرصد الفيلم كذلك التشوهات النفسية التي تلاحق هؤلاء السجناء وتحولهم إلى أشباه بشر، وإلى طاقات خاملة ومحاطة بالذعر والكوابيس والاستعادات الجحيمية لحياة مبتورة، لا يمكن ترميمها حتى لو كان الثمن المقابل لها هو الحرية، ذلك أن الحرية في هذا المناخ الانهزامي لا تعني سوى الخنوع الداخلي وفي أكثر حالاته مرارة وبؤساً. الفيلم الحائز جائزة المركز الثالث في فئة الأفلام القصيرة هو فيلم “ثم ماذا” للمخرج العراقي جاسم محمد جاسم والذي قدم من خلال شريطه القصير الذي لا يتعدى زمنه الدقائق الثلاث صورة تأويلية داكنة لوعود السياسيين وأحلام الديمقراطية وحرية الشعوب، ولجأ المخرج لأسلوب التحريك (الأنيماشن) كي يقدم مناخاً كافكاوياً وبامتياز، حيث نرى مجموعة من الشخوص في بزات سوداء وبملامح حلمية غامضة وهي تحاول الخروج من حالة الأسر الجماعي المحيط بها والتي تظل رهناً للإشارة الضوئية العالية التي تحط عليها الغربان ولا يضيء لونها الأخضر أبداً، في إشارة لغياب المشروع السياسي العربي الواضح، وهيمنة الخطابات القديمة والمحبطة والمكررة التي ظللت الشعوب العربية وجعلتها أسيرة لهذا الدوران المهلك في حلقة طموحاتها المفرغة من أية بشارة محتملة في الأفق. ملامسة الحلم وذهبت جائزة التحكيم الخاصة لفيلم “أم عبدالله” للمخرجة العراقية سحر الصواّف التي تناولت في فيلمها الأقرب لأسلوب (الدوكيودراما) الذي يمزج الوثائقي بالروائي حكاية العائلة العراقية التي تقيم في الأردن وتنتظر عودة الأب الذي اختفى طويلاً بعد ذهابه إلى العراق، يصور الفيلم حالات اليأس والأمل التي تنتاب أم عبدالله وأطفالها الخمسة، ونرى الكاميرا وهي تلامس أحلام الطفولة البريئة وسط منزل متواضع تتشكل في وسطه الهوية الضائعة والمشتتة لهؤلاء الأطفال، كما تتشكل فيه ملامح ومواهب هؤلاء الصغار المشتتين بين ذكرى الأب الغائب وتكاليف الواقع المرّ، استغلت المخرجة الرسوم التي أنتجها الأطفال لإضفاء نوع من الديناميكية البصرية الموحية بالأمل وجماليات الطفولة ونشوة الداخل البريء والمنتصر على بؤس الحالة وعنف الأقدار ومأساويتها. أما الأفلام الإماراتية التي عبرت عن نضج فني على مستوى الطرح والتقنية وحازت ثلاث شهادات تقدير في الحفل الختامي للمهرجان فهي على التوالي: “صولو” للمخرج علي الجابري و”حارس الليل” لفاضل المهيري وأخيراً “غيمة شروق” للمخرج أحمد زين، ففي فيلم “صولو” قدم الجابري صورة مختزلة ومكثفة للعازف الذي يجابه عقبات اجتماعية وفنية كبيرة تحول دون التعبير عن موهبته وارتباطه بآلة الساكسفون التي لا تجد رواجاً ولا مرجعية موسيقية أو تراثية تعينها على فرض ذائقة سمعية جديدة في المكان، وفي نهاية الفيلم يقوم الفنان بعزف مقطوعته الموسيقية على مجموعة من العمال الآسيويين الذين يتجاوبون مع عزفه الحزين والمؤلم الذي لامس غربتهم الداخلية دون قصد. في فيلم “حارس الليل” يكشف فاضل المهيري عن بعض الأمراض الاجتماعية السائدة في المجتمع الإماراتي والمتمثلة في اتكالية الطلبة وفي انتشار ظاهرة الخوف من الحسد والاستعانة بالمشعوذين وغيرها من الظواهر التي تحتاج لنبش وتحليل ورصد حتى لو جاء هذا الرصد من خلال فيلم قصير يقول ما يريده بلغة مقتصدة وموحية في الوقت ذاته. في فيلم “غيمة شروق” يعود بنا المخرج أحمد زين إلى ذاكرة الطفولة البعيدة والمتمثلة في اقتناص الفرح المحرّم الذي يرافق الهروب من المدرسة واستغلال هامش الحرية المؤقت هذا من أجل استجلاب المتع الروحانية والبصرية وتشكيل لوحات الطفولة بأطياف الشقاوة وملاحقة اللحظات الذهبية التي تقاوم عنف الزمن وقسوة الوقت.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©