الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رواية الفجائع المتخمة

22 مايو 2008 02:50
ما يجمع بين رواية ''دملان'' للكاتب اليمني حبيب عبدالرب سروري وروايته الأولى ''الملكة المغدورة'' التي كتبها ونشرها بالفرنسية، ثم قام علي محمد زيد بترجمتها لتنشر بالعربية، هو اتخاذهما من مرحلة سبعينيات القرن الماضي في اليمن موضوعا لسرديتهما· مع أن الرواية ''دملان'' تتشعب في المكان والزمان، فلا تقتصر على مدينة عدن، كما الرواية الأولى؛ وتمضي إلى ما بعد السبعينيات، إلى الزمن المعاش الآن· في بداية رواية ''دملان'' يقوم وجدان الشخصية الساردة في الرواية برحلة إلى مملكة دملان مع صديقه وأستاذه نجيب الذي جاء وطرق بابه بعد أن عاش ثماني سنوات منكفئا في غرفته كما لو كان محشورا في ''علبة سردين''· وقبل أن تتكشّف لنا ملامح ''دملان'' نمضي مع السارد في استرجاع طفولته في تنزانيا وحياته في عدن، ومن ثم دراسته في فرنسا وعودته عبر صنعاء إلى عدن، حتى نصل إلى نهاية الرواية (جاءت في 460 صفحة، وصدرت حديثا عن مؤسسة العفيف الثقافية بصنعاء) فنكتشف أن مملكة دملان بكل تفاصيلها المشهدية، على قلّتها، كانت مجرد حلم· وهو حلم بقدر فجائعيته الكابوسية المخيفة المتمثلة بسلطة الملك (تشومولونجا) القهرية في ''دملان'' وبؤس الناس فيها واتكاليتهم وخنوعهم وتخاذلهم، بقدر ما يحمل في أحد جوانبه ملمح أمل في التغيير والخلاص، يتخذ تشكيلا جماليا إلكترونيا تصنعه النساء من النساء الضوء واللون والصوت· مع هذا، فإن مملكة ''دملان'' كحلم مكاني لم يبتعد عن أجواء المكان الذي تدور أكثر مشهدية الرواية حوله وهو اليمن· كما أن حلم الخلاص عبر ثورة للنساء وعودة حفيدة الملكة بلقيس يأتي وكأنه نتيجة حرمان زمني طويل عاشه وجدان وهو يلهث نحو التقرب من المرأة، ولا يكاد يصل حتى إلى ملامسة يدها أو مصافحتها· بين بداية الحلم وخاتمته يسترجع السارد طفولته، حيث ولد في تنزانيا من أبوين يمنيين، وعاش هناك حتى الثامنة من عمره، إذ جاء مع والديه حينها إلى شارع (دغبوس) في عدن· وهناك تعلم وسط أجواء شعاراتية في ظل ما سمي بمرحلة الثورة الوطنية التي ''هبط فيها البدو من الريف إلى المدينة لـ (تثوير) كل شيء كما كانوا يقولون''، حتى أنهم راقبوا موضات اللباس وطرق الحياة: ''زرزر السروال وطوّل بِشعْره ما درينا هو صبي أم صبية! ما نُبا (خنفس) ولا (شارلستون) والجماهير تحمل البندقية!''· و''مكسب وراء مكسب إنجاز وراء إنجاز وأنت يا رجعي با نحرقك بالجاز''· وفي مناخ كهذا وفي ظل مقولات حتمية ''نهاية الرأسمالية وانتصار الاشتراكية'' كان هناك رجل الدين في المقابل وأحاديثه المقتصرة على ''نواقض الوضوء وشروط التيمم''· وهنا نجد أنه إثر انتكاسة عابرة لوالده أدّت إلى عدم قيامه بممارسة مهامه كخطيب مسجد، وجد وجدان طريقه معتليا منبر مسجد دغبوس حائزا على صفة (الإمام)، وهو مازال في الرابعة عشرة من عمره، وهي الصفة التي حاول بعد ذلك، كثيرا، أن يتخلّص منها، لأنها أبعدت عنه اهتمامات فتيات الشارع، وغيّبت اسمه العاطفي (وجدان)· فبعد سنتين عاد أبوه إلى ممارسة مهام إمام المسجد، في الوقت الذي صارت فيه وزارة الأوقاف هي التي تقوم بكتابة وتعميم خطب الجمعة ''بأسلوب ولغة لا يختلفان كثيرا عن أسلوب ولغة تقارير المنظمات القاعدية للتنظيم السياسي الموحّد آنذاك، أو صحيفة 14أكتوبر''· ولم يعد هناك حاجة للتفنن بالأسلوب والذي يعجز أبوه عن أدائه· يدور جزء من مشهدية الرواية في سانت مالو، وبعض مدن فرنسية، حيث ذهب السارد إلى هناك ليدرس الفيزياء بعد أن أكمل الثانوية وأدّى الخدمة العسكرية· وفي هذه المشهدية تبدو رواية ''دملان'' وكأنها تصل ما بدأه توفيق الحكيم في ''عصفور من الشرق''، والطيب صالح في ''موسم الهجرة إلى الشمال'' كونها تعطي مقاربات علائقية حول كثير من جوانب الاختلاف بين المشرق أو العرب أو العالم الثالث وبين الغرب؛ بين اليمن وفرنسا· لكن حبيب عبدالرب سروري في ''دملان'' يذهب بعيدا عن الحكيم وصالح إذ تصبح روايته في متنها السيري الضخم (460 صفحة) سردا للتحولات اليمنية منذ سبعينات القرن العشرين وحتى الآن· فـ ''دملان'' رواية عن الفجائع المتخمة التي عاشتها اليمن خلال العقود الماضية: التسلط القهري للشعارات الثورية الفارغة ومفارقاتها في الواقع، المؤامرات والانقلابات والحروب، عذابات الناس اليومية، بؤسهم وعزلتهم، الفقر والجهل والقات والقبيلة، انتهازية المثقف وسطحية رجل الدين، خواء كل شيء· مع هذا فهي رواية الأشياء الحميمة، هي رواية حب بامتياز، لكنه الحب الذي لا يكاد أن يصل إلاّ إلى الأصابع أو سطح الجسد، حيث لا مشهدية جنسية، حب ووله وصبابات وعشق وشغف وتفان وعبادة وأحلام، تساعد البرمجيات الإلكترونية على خلق بعض شخوصه كثيما ونسرين· فهناك حضور مكثف للمرأة كأن اللذة في السرد، ربما القراءة أيضا، تأتي من رائحة الأنوثة المنبعثة من بين السطور والعبارة والمفردة· يمكن القول أن رواية ''دملان'' بتقنياتها السردية الحديثة هي رواية اليمن الحديث بكل تمفصلاته، ومن زاوية جمالية هي الأكثر عمقا· وهي بهذا المستوى، نستطيع أن نقول أنها تُقرأْ· وأن على اليمنيين، كما يبدو لي، أن يعيدوا قراءتها أكثر من مرّة، ليكتشّفوا أنفسهم وواقعهم، ومن ثم، ربما، ليغادروا عزلة بؤسهم التي دامت طويلا·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©