عمر خيرت: أنا أبدع من العدم

في زمن قلت فيه الإبداعات الفنية على صعيد الموسيقى التصويرية، تأتينا أعمال الموسيقار عمر خيرت نضرة خصبة لتذكرنا بجيل العمالقة، وتفتح شهيتنا لتذوق النغمات السيمفونية التي تنساب من بين أنامله وكأنها قصائد مكتوبة بحروف أوركسترالية· ومن منا لا يذكر بصمات عمر خيرت المؤثرة في الموسيقى التصويرية لفيلم ''ليلة القبض على فاطمة''، باكورة أعماله في السينما عام ،1983 مع فاتن حمامة· هذه النجمة التي يكن لها الجميل في انتشاره جماهيريا· وكانت هذه التسجيلات أول موسيقى تصويرية لفيلم تباع منفردة على كاسيت· في آخر زيارة له لأبوظبي حيث شارك في الحفل الافتتاحي لمهرجان ''أنغام من الشرق'' الذي نظمته هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، اقتربنا أكثر من إحساسه الفني وتلمسنا خيوط إبداعه في العزف على البيانو· فهو ليس مؤلفا موسيقيا وحسب، وانما شاعر من نوع آخر ينظم المقطوعات الموسيقية ألحانا يتغنى بها كل من يستمع اليها حتى وإن غابت عنها الكلمة· وبحسب رأيه فان ''التأليف الموسيقي من أصعب الأعمال الفنية لأنه مقتبس من الخيال والعدم ولا يستند الى أي قاعدة· فني يخاطب الروح ولا يخاطب الجسد، وأنا لست ملحنا لأقتبس أفكاري من كلمات الأغنية أو الفكرة العامة للنص الشعري، وانما مخترع أقوم في كل مرة بتقديم اكتشاف من لا شيء''· بيت القصيد أما من أين يأتي بالجديد في كل جملة موسيقية يؤلفها، فهنا برأيه بيت القصيد والتميز: ''هذه نعمة من عند الله وأنا لا أتحين وقتا معينا للعمل، ففي أي لحظة وفي أي مكان قد يأتيني الهام أستقي منه مفردات لمعزوفة ما· كأن يسرح نظري في مشهد طبيعي أو أكون بمفردي في عتمة ليل ساكن فتتجلى أمامي نغمات ودندنات''· وتكون الخطوة التالية أن يقوم بعزف تلك الجمل على البيانو مخافة أن ينساها، أو يسجلها بصوته على جهاز تسجيل صغير يرافقه دائما· وعندما لا يتسنى له هذا أو ذاك، يدون تلك النغمات على شكل نوتة ويبقى على هذه الحال حتى تكتمل المعزوفة· ويذكر الموسيقار خيرت أن أول ما يجب أن يراعيه واضع الموسيقى التصويرية لأي عمل في السينما أو التلفزيون، هو الانطباع الأول الذي يستوحيه من السيناريو حتى قبل أن يتأثر بعملية الإخراج التي تأتي كخطوة لاحقة· أصابع الاتهام ونسأله عن أكثر المخرجين الذين يرتاح للتعامل معهم، فيجيب: ''شريف عرفة ويوسف شاهين لأنهما يقدران الموسيقى ويوليانها أهمية كبرى في أفلامهما، وهذا أقل ما يمكن توفيره للمؤلف الموسيقي كي يقدم ما عنده من إبداع وأفكار''· ويصف شاهين بعملاق الفن بحيث ترك تعاونه معه بصمات لامعة في مسيرته المهنية· ومن ضمن الأعمال التي قدماها سويا وهي الأقرب الى قلبه، الموسيقى التصويرية لفيلم ''سكوت حنصوّر'' وألحان الأغاني التي تضمنها ومنها أغنية ''المصري''· وبدوره يتحدث المؤلف الموسيقي خيرت كسواه من المبدعين، عن الفوضى الحاصلة والتراجع المعيب في الوسط الفني، معتبرا أن الأعمال الهابطة سواء في الغناء أو التمثيل، يجب ألا تنسب الى الفن وانما الى أصحابها لأنهم زائلون هم وأعمالهم· أما بالنسبة لتراجع قيمة الموسيقى التصويرية في السينما والتلفزيون، فيوجه أصابع الاتهام الى المنتجين الذي باتوا يستكثرون الإنفاق على الجيد منها: ''فالتأليف الموسيقي الراقي يحتاج الى نخبة من العازفين والموسيقيين حتى يأتي بالنتيجة المطلوبة· ومن غير العدل أن نلوم المؤلفين بقدر ما يقع اللوم على أصحاب المال''· ويؤكد الموسيقار خيرت المعروف عنه تناوله لمختلف الأنماط الموسيقية، على ضرورة أن يهتم الموسيقيون العرب بمختلف القوالب الموسيقية وألا يقتصر اهتمامهم على الأغنية وحسب كما هو حاصل: ''والمطلوب أن نخاطب العالم عبر موسيقانا مستعملين القوالب الموسيقية العالمية وهي السيمفونية، والافتتاحية، والكونشرتو، والقصيد السيمفوني، والأوبرا، الى جانب قالب الأغنية، فمن غير المنطقي أن تكون الدول العربية أم الحضارات، ويقتصر انتاجنا من الموسيقى على نطاق ضيق''· سيف ذو حدين عاشق البيانو عمر خيرت لم تكن بدايته من الصدفة، فهو سليل بيت ثقافي عريق، عمه أبو بكر خيرت مؤسس ''الكونسرفتوار'' في مصر وأول عميد له، وجدّه المحامي محمود خيرت سكرتير مجلس الشيوخ في ذلك الوقت وصاحب الصالون الأدبي الذي كانت تجتمع فيه أسماء لامعة مثل سيد درويش والمنفلوطي والنحات محمود مختار· وقد ترعرع على خطوات عمه ورافقه في الكثير من حفلاته، الأمر الذي جعل منه ذلك الصبي التواق للموسيقى، لكنه عمل جاداً فيما بعد لكي يثبت نفسه بعيدا عن عباءة عمه، ''وهذا كان بالنسبة لي سيفا ذا حدين، لأنني تعبت في بناء شخصيتي المنفصلة، كي لا يقال أنني اشتهرت بفضل عمي''· ولهذا السبب تأخر انتشار عمر خيرت جماهيريا مقارنة مع أعماله في الأوبرا العالمية، ولم يلمع اسمه كمؤلف موسيقي إلا في الثمانينات عندما بدأ بكتابة الموسيقى التصويرية للأفلام والمسلسلات متأثرا كما يذكر بالمؤلفين العالميين ''جون وليامز'' و''زيمير''· وهو يعتبرهما أفضل مؤلفين على الاطلاق لما يتمتعان به من إحساس عال بطبيعة العمل وظروفه· ''وهنا لا أنكر الفرصة التي قدمتها لي سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة عندما اختارتني لأؤلف لها خلفية موسيقية لمجموعة قصائد كانت تقدمها للإذاعة بصوتها· فهي بمجرد أن استمعت لبعض أعمالي الاوبرالية، أعجبت بجملي الموسيقية وانطلقت معها في عدة أعمال كانت كلها وجه السعد بالنسبة لي· ومن بينها الموسيقى التصويرية لفيلم ''ليلة القبض على فاطمة'' ومسلسل ''ضمير أبلة حكمت'' وفيما بعد ''وجه القمر'' عام ·''2001 وفيما بعد شارك الموسيقار عمر خيرت بموسيقاه التصويرية بما يزيد عن 70 فيلما من بينها اليوم السادس عام ،1984 الخادمة والارهابي عام ،1993 وسواها من الأعمال البارزة· وارتبط اسمه بأنجح المسلسلات التي أنتجها التلفزيون المصري ومنها ''غوايش'' و''البخيل وانا'' و''الهروب'' عام ·1987 وينصح الموسيقار عمر خيرت كل من يريد أن يسير في درب التأليف الموسيقي ''الذي لم يصله إلا قلة''، ألا يلهث وراء المادة ويضعها في أولى اعتباراته، وأن يسعى الى التعلم الأكاديمي ولا يعتمد على الموهبة وحسب· ويقول: ''من لا يتعامل مع الفن بقدسية واحترام متقنا معناه الحقيقي، لن يكرسه التاريخ فنانا''· البداية مع كارلو بداية عمر خيرت الفنية كانت مبكرة فقد دخل عام 1959 الى معهد ''الكونسرفتوار'' مع الدفعة الأولى، حيث درس النظريات الموسيقية والعزف على آلة البيانو على يد الايطالي ''كارلو''· وقدم وقتها ببراعة أعمالا صعبة لـ تشيكوفسكي وبيتهوفن وموتسارت وباخ· ثم أكمل دراسته بالمراسلة في احدى جامعات لندن ليبدأ باكرا بالتأليف الخاص لأوركسترا الباليهات ومنها موسيقى ''باليه النيل'' التي كتبها لفرقة باليه القاهرة عام 1955 و''باليه العرافه'' و''العطور الساحرة'' للفرقة الكنديه سنة 1989 وموسيقى عرض ''بانوراما العبور''· حصاد التعب خلال مسيرته الفنية التي خطها بأصابعه المرنة، نال عمر خيرت الكثير من الجوائز منها جائزة أفضل موسيقى تصويرية عن فيلم ''النعامة والطاووس''· وجائزة من الجمعية المصرية عن فيلم ''الهروب من الخانكة'' وجائزة عن فيلم ''البحث عن توت عنخ أمون'' وسواها· والموسيقى الخاصة لافتتاح الدورة العربية ومدتها ساعة ونصف الساعة، تم تسجيلها في لندن مع عزف الأوركسترا السيمفونية· ويحضر خيرت حاليا الموسيقى التصويرية لفيلم بعنوان ''ديلر'' بطولة أحمد السقا·