الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«باولا».. رحلة عبر الألم

«باولا».. رحلة عبر الألم
12 ابريل 2017 19:10
إعداد واختيار إيمان محمد في ساعات ممتدة من العام 1992 كتبت ايزابيل الليندي نصوصا شفافة، عن طفولتها وعائلتها وتشظيات حياتها، من الفقر والفوضى السياسية ومرارة النفي والطيش في الحب والغراميات غير المحسوبة العواقب. النصوص كانت بمثابة رسائل إلى ابنتها «باولا» التي دخلت في غيبوبة إثر إصابتها بداء «الفرفيرين» الغامض. كانت نية الروائية التشيلية ذائعة الصيت أن تتغلب على الغم الذي حل عليها، وهي ترى ابنتها تذوى وتسقط في الصمت، فكتبت لها قصصا من حياتها «كيلا تكوني ضائعة تماما عندما تستيقظين» كما تقول في الجملة الافتتاحية. وبعد رحيل الابنة أصبحت الرسائل نصا غنيا أقرب للموموغرافيا أو السيرة الشخصية، مكتوبة بنفس الطابع السحري الذي تكتب فيه رواياتها، وتعترف فيها بالكثير من أخطائها مثل خيانتها لزوجها وفوضى بداياتها الصحفية، وتكشف عن الدوافع والخلفيات التي قادتها إلى كتابة رواياتها الرائعة، والتي استمدت معظمها من قصص من حولها وشخصياتهم الاستثنائية. فعلت كل ذلك كتمارين لتسرية النفس وهي تخوض رحلة ألم غيرت منظورها لذاتها والحياة عموما، وانتهت بموت هادئ لـ «باولا» وهو الاسم الذي أطلقته على الكتاب عند نشره. ومنه هذه المقتطفات في ساعات الصمت الطويلة تداهمني الذكريات، وأشعر بأن كل شيء قد جرى لي في اللحظة نفسها، كما لو أن حياتي كلها هي صورة واحدة مبهمة. فالطفلة والفتاة اللتان كنتهما، والمرأة التي صرت إليها، والعجوز التي سأصبحها، كل المراحل هي ماء يندفع من الينبوع المتدفق نفسه. *** ومثلما التهمت أفضل كتب طفولتي وأنا مختبئة في قبو التاتا (جدتها) قرأت «ألف ليلة وليلة» خلسة وأنا في أوج مراهقتي، حين كان جسدي وذهني يتفتحان على أسرار الجنس. لقد تهت داخل الخزانة في حكايات سحرية..لقد كان للحياة والموت طابع لعوب في صفحات الحب تلك، وكانت أوصاف الأطعمة، والمناظر، والقصور، والأسواق، والروائح، والطعوم، والأنسجة من الغنى والتنوع لدرجة أن عالمي لم يعد هو نفسه على الإطلاق. *** الروايات تكتب عن شخصيات مجنونة ووغدة وعن أناس تعذبهم أفكار متسلطة على عقولهم. وعن ضحايا مسننات تروس القدر التي لا ترحم. *** ما لا يمكن غفرانه هو أن الأمهات بالذات هن اللواتي يعززن النظام، ويمنحنه الديمومة بتربيتهن أبناء متعجرفين وبنات مستعبدات، ولو أنهن اتفقن فيما بينهن على عمل ذلك بطريقة أخرى لاستطعن القضاء على تسلط الذكور خلال جيل واحد. *** أعارتني ديليا (مديرة المجلة النسائية التي عملت بها) كمية كبيرة من مؤلفات الكتاب الأمريكيين والأوروبيين وأمرتني بقراءتها حسب التسلسل الأبجدي، لترى إذا ما كنت سأتخلص من غمامات الرومانسية التي سممت عقلي بسبب الإفراط في قراءة الأدب الخيالي، وهكذا رحت اكتشف ببطء طريقة مفصلة للتعبير عن السخط الأصم الذي رافقني دائما. *** كان العمل في المجلة ثم التلفزيون فيما بعد بمثابة صمام أمان للخلاص من الجنون الموروث عن أسلافي، ولولا ذلك لكان الضغط المتراكم قد انفجر وأوصلني مباشرة إلى دار للمجانين. فالأجواء الرصينة والأخلاقية، والعقلية الريفية، وصرامة الأعراف الاجتماعية في تشيلي في ذلك الوقت كانت تلقي بثقلها الخانق. *** كثيرا ما سألت نفسي، مثل آلاف التشيليين الآخرين، عما إذا كنت قد أحسنت صنعا بالهرب من البلاد أثناء الدكتاتورية، وعما إذا كنت محقة في المجازفة بمستقبل ابنيّ وجر زوجي إلى مصير غامض في بلد أجنبي، أو إذا ما كان من الأفضل البقاء والعيش دون مبالاة، لكن ليس لدي أجوبة لهذه الأسئلة. لقد جرت الأمور بطريقة حتمية، كما في المآسي الإغريقية، وكانت الفاجعة ماثلة أمام عيني، ولكني لم أستطع وقف الخطى التي تقود إليها. *** في تلك اللحظة أصبح واضحا أن ابنتي سترجع إلى حضني، وأنني وحدي من سأكون مسؤولة عن حياتها ومن تأخذ القرار في لحظة موتها. نحن الاثنتان وحدنا معا، مثلما كنا يوم ولادتها، أحسست بدفقة من القوة تهز جسدي مثل تيار كهربائي، وأدركت أن كل محن طريق حياتي الطويل لم تكن إلا إعدادا قاسيا من أجل هذه التجربة. *** عندما أنظر إلى الوراء يبدو لي كأنني بطلة قصة درامية، أما الآن بالمقابل، فقد توقف كل شيء، لم يعد هناك ما أرويه، فالحاضر له حدة المأساة الفظة. أغمض عيني فتظهر أمامي صورة ابنتي المؤلمة على كرسيها ذي العجلات، وبصرها المثبت على البحر، ناظرة إلى ما وراء الأفق، إلى حيث يبدأ الموت. *** لقد كنت مشغولة حتى الآن بالنضال ضد المرض لدرجة أنني خدعت نفسي وتصورت أنني قادرة على كسب معركة الجبابرة هذه، لكنني أعرف الآن أن باولا ستمضي، وأن جهودي كلها عبثية، فهي مستنفدة، وهذا ما تكرره لي في الأحلام ليلا، وكذلك حين أذهب لأتمشى في الغابة ويحمل النسيم إلى كلماتها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©