الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ماذا تبقى من شعر محمود البريكان؟

2 مارس 2011 18:34
“انظر مشدودا إلى الموت إلى الحياة محترقا وحالما بالموت والحياة “ من قصيدة هواجس عيسى بن ازرق في الذكرى التاسعة لرحيل الشاعر محمود البريكان، يحق لنا أن نتساءل عن مصير نتاجه الإبداعي الذي ضاع واختفى بعد مقتله في اليوم الأخير من شهر شباط عام 2002 ونهايته المأساوية غير المتوقعة. فمن هو المسؤول عن البحث عن هذا النتاج الضائع؟ وكيف يمكن تفعيله بالاتجاه الذي يضع تجربة هذا الشاعر في مكانها الحقيقي بعيدا عن الآراء والقراءات التي درست تجربته على وفق حياته الخاصة: عزلته عن المجتمع والناس وهمجية مقتله البشعة! ويكتب القاص محمد خضير “انتظر البريكان الموت، ولم يكن مستعدا بما فيه الكفاية لمواجهته، فقد كان أوهى من يقاوم صخرة ثقيلة جهمة الملامح، تدحرجت في الخفاء وسحقته على سفح الوجود الأملس”. لقد رحل البريكان وفي نفسه الكثير مما يريد قوله عن الحياة وبهجتها وعن الظلام الذي يفرضه الإنسان على نفسه بالتعسف والعنف والمغالاة في إقصاء الآخرين ممن يخالفونه الرأي والاتجاه فقد كان البريكان. “يحلل تاريخ القتل والتعذيب وكل فنون إيذاء الإنسان تحليلا شعريا متمرسا، كان فيما يبدو بعد مصرعه يجهز تاريخ شعرنا العراقي بوصية ثمينة تتعلق بدفاع الشاعر الحديث عن العدالة التي لا تتجزأ” كما يقول الشاعر عبد الرحمن طهمازي. لقد كان الانتظار الممض وحرقة التساؤل عن مصير هذا الكون، هي الأسئلة المؤرقة التي أرهقته وزادت من عزلته، وهي ـ ربما ـ كانت سببا في موته المأساوي وموته كشاعر كبير أيضا. فلم يكن البريكان الشاعر سوى ذات منفتحة ومتسائلة على فضاءات كونية لا قرار لها، تنظر باتجاه المديات والآفاق الكبرى، دون أن ترمش له عين باتجاه الحاضر الموبوء بكل أشكال الدناءة والمأساة والحزن الأبدي، كان نظره شاخصا باتجاه المصائر الكبرى، ولم يلتفت إلى مصيره الشخصي المتمثل بحياته الخاصة التي كانت عرضة للضياع في أي وقت بسبب وحدته وعزلته عما يحيط به، إضافة إلى عدم حرصه على نشر نتاجاته الإبداعية وقت تأليفها لتكون شاهدا إبداعيا له ولمدينة البصرة التي ولد وعاش فيها كل حياته وكذلك للزمن الذي نشرت فيها. لقد كان يفضل التريث في الكتابة والنشر، في حين كانت أحاديثه الخاصة مع أصدقائه تشي بتفوق نتاجاته الشعرية على مجايليه، لكنه لم يعزز ذلك بالنشر، الأمر الذي جعل شعره محط تساؤل في مدى جدته وأصالة الإبداع فيه، لأنه نشر في معظمه في وقت متأخر نسبة إلى زمن بدايات هذا الشاعر في أربعينيات القرن العشرين أو نسبة لزمن الكتابة، مما خلق فجوة بين ما تحقق فعلا في الساحة الشعرية العراقية والعربية من تطور في الأشكال الشعرية وبين ما قدمه الشاعر البريكان من قصائد باعتبارها رهانا شعريا على إبداعه وتجاوزه أو تخطيه لخريطة الشعر وريادته له. وقد جاءت القراءات النقدية للمنشور من شعره في اغلبها متحمسة لهذه التجربة على وفق علاقة هذا الشعر بشخصية الشاعر: عزلته وعزوفه عن النشر ومن ثم موته بطريقة وحشية بل همجية إضافة إلى أن المنشور من هذا الشعر كان يحفل بالتساؤلات عن معنى الحياة وجوهر الوجود الإنساني وعلاقته بالموت واللاجدوى والعبث كما ورد في مطولاته الشعرية: حارس الفنار، ليلة الأشباح، هواجس عيسى بن ازرق، البدوي الملثم وغيرها. إن التساؤل عن مصير شعر محمود البريكان الضائع والبحث الجدي عنه يمثل من وجهة نظرنا بحثا عن خزانة شعرية خاصة بمدينة الإبداع ـ البصرة ـ وتتويجا لقامة شعرية من أبنائها وهو مشروع ينبغي أن يحظى بدعم حقيقي من قبل محافظة البصرة والاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، إضافة إلى دراسة المنشور من هذا النتاج لإيضاح مكانته في الشعر العراقي والعربي الذي يمثل اليوم مشروعا كبيرا يحتاج إلى جهود النقاد العراقيين بشكل خاص. لقد كان الشاعر البريكان على الرغم من عزلته الإبداعية صوتا مهما في الدفاع عن حياة الإنسان وكان نداء مخلصا من اجل معانقة الحياة والإيمان بها وقد كتب عن (الواجب الأول) للمفكرين عام 1962 (مجلة الفكر الحي): “في عصور التحول، حين تظهر القيم القديمة والنزعات المنحلة في صور جديدة وتحت أقنعة متعددة، يظل الواجب الأول للمفكرين هو البحث عن الحقيقة وكشفها عبر الاختلاطات المضللة والمظاهر الخادعة” وهو ضد الذين “يطلقون الأحكام ويتخذون المواقف عن تعصب أو مداهنة أو رغبة أو رهبة دائرين مع الريح”، وكأن أفكاره تتخطى الزمن الذي كتبت فيه (1962) لتكشف واقعا حيا نعيشه الآن بكل (اختلاطاته المضللة).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©