السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نوافذ ومرايا تبحث عن المتخيل في الواقع

8 مايو 2008 03:43
يبدو أن مصطلحات توصيف العمل الحكائي ملتبسة منذ ظهور النص السردي الذي يعنى بعرض حكاية ما، فما بين القصة والقصة القصيرة والرواية تحديدات لم يتفق عليها، مثلما حصل في توصيف ثنائيات الشكل والموضوع أو المبنى أو المتن، أو المبنى والمعنى· فهل كان الطول والقصر دافعاً للتوصيف أم أن الدراما وتشابكاتها دافع آخر أم أن تعدد الرؤية أو اختزالها الدافع من وراء ذلك، أم أن حبكة النص وتشعباتها أو ضغطها في زاوية ضيقة كان سبباً لهذا التوصيف؟ وعليه لابد لنا أن ندخل في وضع الحدود الفاصلة إذا افترضنا إمكان وضع قواعد للتفريق بين هذه الفنون للتفريق مجدداً بين القصة والقصة القصيرة·· وأخيراً القصة القصيرة جداً· الدكتور علي بن تميم أفرد حقلاً في كتابه ''النقاد ونجيب محفوظ'' طرح من خلاله استخدامات النقاد العرب في توصيفهم لأعمال نجيب محفوظ بين من أطلق عليها قصة وآخرين أسموها بالروايات، حتى أنه أراد القول استناداً الى مقولاتهم التوصيفية بأن القصة ''مصطلح يستخدم ليصف عملاً يقدم حوادث معاصرة، فالعمل الواقعي بهذا المعنى هو قصة، وتستخدم الرواية لوصف عمل يعتمد على التاريخ، وهذا ما يبرر التسمية عند أحمد عباس صالح الذي جعل الرواية مصطلحاً يستخدم لوصف أعمال محفوظ التاريخية، وجعل القصة لأعماله الواقعية''· في هذا الإطار يطرح الدكتور علي بن تميم استخدامات هذين المصطلحين عند نقاد بلاد الشام في نفس فترة حركة النقد المصري حيث استخدموا مصطلح الرواية لتعني النوع السردي المعاصر الذي يتوجه العرب ويهتم بقضاياهم أو النوع السردي الذي يعتمد على التاريخ''· ولكي نفهم هذه الإشكالية لابد أن نعود الى توصيف جورج لوكاتش عندما اعتبر الرواية ''ملحمة البرجوازية'' أي أن الرواية تجلت بظهور طبقة استطاعت أن تنشئ لها فناً مثل كل مفاهيمها حتى أن أعظم الأعمال الروائية العالمية ما هي إلا نتاج لهذه الطبقة الوليدة· ولكن هذا التفريق يمكن لنا أن نتقبل إمكانية التنظير الحاصل فيه لدواعي الفصل بين مصطلحين يدلان على فنين مختلفين بنائياً، إلا أننا كيف يمكن أن نفرق بين القصة والقصة القصيرة، فما بالك لو أدخلنا فناً جديداً في مبناه وتركيباته وهو القصة القصيرة جداً أو ما أطلق عليه بالأقصوصة· أتذكر جيداً أن القاص المصري يوسف إدريس كان يعمد في أغلب أعماله القصصية القصيرة أن يدخل نصاً قصصياً قصيراً جداً في منتصف كل مجموعة قصصية·· وكأنه النهر الذي يفصل ضفتين· وقد يتذكر الكثيرون قصصاً قصيرة جداً مثل ''المرتبة المقعرة'' و''العصفور والسلك'' التي هي من روائع إدريس قد أتت في منتصف مجموعتين له تماماً· ولو تأملنا ذلك بدقة لوجدنا أن هذه القصص القصيرة جداً التي يزرعها إدريس في المنتصف ما هي إلا مواقف مؤدلجة لا بالمعنى السياسي، بل بالمفهوم الفكري ليوسف إدريس أولاً ولأنها الفن الذي يفجر طاقة الإبداع في أقل الكلمات والأكثر تعبيرية في ضغط الفكرة والدلالة، هذا ناهيك عن تجلي سمة التخيل الذي لا يمت للواقع بصفة إلا من خلال دلالة هذا النمط من القص· أي لنقل إن القصة القصيرة جداً عند يوسف إدريس ما هي إلا نتاج رؤيوي، تخيلي محض، أما الواقعية فلا نجدها إلا على ضفتي ذلك النهر الذي احتلته تلك القصص القصيرة جداً· لم أتطرق الى هذا الموضوع إلا لأنني وجدت ما يستحق أن أشير إليه وأنا أقرأ مجموعة قصصية بعنوان ''وجه أرملة فاتنة'' للقاصة فاطمة المزروعي والصادرة عن مشروع ''قلم'' الذي أطلقته هيئة أبوظبي للثقافة والتراث مؤخراً· مجموعة ''وجه أرملة فاتنة'' قدمت 19 قصة بينها 4 قصص قصيرة جداً هي ''ثلاث رؤى مختلفة'' و''صورة قبيحة'' و''وجه امرأة فاتنة'' و''رؤيا''· خواتيم متفجرة والغريب حقاً أن قصتها القصيرة ''وجه امرأة فاتنة'' قد تسيدت المجموعة فارتفعت لتكون عنواناً للمجموعة كلها أي للكتاب، بما يعني أن هذه القصة، دلالياً أقرب الى ذات القاصة· ولكن ما السبب في ذلك ؟ منذ البدء لابد أن نقر بأن القصة القصيرة جداً تعتمد على عنصرين وهما التفجر في خواتيمها وانحراف الحكاية عند وصولها الى الذروة نحو مسار لم يكن متوقعاً، يدهش القاص أولاً والمتلقي فيما بعد، مما يجعل التساؤلات محيرة بالألم المفهوم الأرسطس لمؤثرات الدراما· ''وجه امرأة فاتنة'' حكاية امرأة جميلة لديها طفلتان وتعيش في شقة بعمارة ما، إلا أن هناك من يراقبها· يراقب جمالها الأخاذ، وللغرابة أن هذا المراقب هو امرأة تنظر الى جمال ''ربما لا يوجد'' لدى الساردة/ المراقبة نفسها'' تقول ''ها هي تعود الى شقتها في نهاية الدوام، قلبي ترتفع دقاته وشياطين الأفكار تعربد في رأسي، سوف تلاقي زوجي في الطريق ويحتك طرف صدرها بجسده، أسمع صوت خلخلة المفاتيح'' (ص 73) ثم تقول ''ولكنني أتفاجأ بها واقفة، ومعها طفلتاها، تحاول فتح باب شقتها وعلى وجهها نظرة دهشة، مستغربة من تصرفي'' (ص 73) وبعد أن تشتد المراقبة يتضح أن هناك شاباً في الثانوية يسكن البناية المجاورة قد أقام مع تلك المرأة الفاتنة علاقة ما· وكل ذلك يأتي للساردة المراقبة عبر شباك يطل عليهما معاً حين يلتقيان ويشيع الخبر ويتجاوز ساكني العمارة من النساء، ويتجمعن عن الساردة المراقبة ليراقبن معها المشهد الذي لم يتضح للأخريات· حيث ''أصبحت جاراتي يعلمن بأمر النافذة، شهر آخر وزاد التجمع حول نافذتي، أصبحنا سبع نساء، نراقب نافذة الشاب، نتناول الشاي، نثرثر'' (ص 74) وبالطبع كان كل شيء قد بدا واضحاً في كلمات بدأ يتقاذفها الناس كالسياط تحرق جسد الأرملة الفاتنة، ولكن كل هذا انتهى فجأة برحيل الأرملة ''وهي تجرجر طفلتيها وفي يدها حقيبة سوداء كبيرة وهي تطلق سباباً عالياً'' (ص 75)· وكلنا يتوقع أن تنتهي الحكاية هكذا إلا أن فاطمة المزروعي ولبراعة في هاجسها بهذا الفن لا يرضيها هذا المشهد العادي فتضيف سطراً واحداً يقلب القصة كلية وليحولها الى مسار آخر لم نكن نتوقعه مما جعلها معجبة حقاً بهذا النص، بل أثارت دهشة المتلقي عندما تقول على لسان الساردة/ المراقبة بعد رحيل الأرملة ''تركت رأسي على المقعد، ارتشفت القهوة في عصبية، وبطرف عيني لمحت ظل الجسدين المتعانقين'' (ص 75)· لا أريد أن أخوض في تفسيرات المكون النفسي للساردة، في قلقها في تهشم ذاتها في اختلاق العداء مع من هي أكثر جمالاً بفتنتها، مع من هي أكثر ألماً بفقد زوجها، مع من هي أكثر مشقة مع طفلتين في مواجهة حياة مليئة بالوحشة والخوف، إلا أن الساردة المراقبة لم تتحسس كل ذلك إلا عندما اكتشفت براءة الأرملة الفاتنة التي ألصقت بها التهم بينما كان الفتى الشاب طالب الثانوية قد احتضن فتاة ما بعد رحيل الأم وطفلتيها فانكشف ذلك ساردة المراقبة· فاطمة المزروعي حولت الألم المجهول الآن عند الساردة/ المراقبة الى الألم المعلوم الآن عند المتلقي· الوهم والواقع النافذة كانت أداة قصة ''وجه امرأة فاتنة'' وهي في الآن نفسه أداة القصة القصيرة ''رؤيا'' التي تبتدئ بالنافذة فتقول ''كنت أراقبها من خلال نافذتي'' ولكن السارد يتحول هنا من ضمير المؤلف في قصة ''وجه امرأة فاتنة'' الى ضمير المذكر في قصة ''رؤيا''·· العناصر الأخرى ثابتة، رجل يراقب عبر النافذة شبح جسدٍ لامرأة وثمة كرسي هزاز شبيه بكرسي الساردة/ المراقبة· وعنصر المراقبة يتمفصل في القصتين، والزمن ليل عادة، وضوء خفيف يتراءى خلف الزجاج في القصتين، امرأة ربما يتلصص عليها الكثيرون في البنايات الأخرى المجاورة، يستفيض السارد/ المراقب هنا في رصد حركات المرأة التي تستثيره وهو يحدق بها من قريب ربما·· إلا أنه وفي لحظة توهج الألم يغلق نافذته·· وينتهي النص بعاديته وبمألوفيته، إلا أن ما يكسر أفق التوقع، ويتوهج به النص كلة حينما تنتهي الحكاية القصيرة تلك بكلمتين تحولان مسار النص السابق بمجمله إلى طريق آخر، إلى حبكة جديدة ملخصها عندما يقول السارد/ المراقب كل ذلك حصل ''وأنا في السرير''· وكأن ''رؤيا'' بعنوانها المضلل قد شرحت في جملة ''وأنا في السرير'' بما يعني أن كل الحكاية التي رويت لك هي رؤيا متخيلة· وهنا لابد أن نفهم أن قصة ''وجه امرأة فاتنة'' ابتدأت بالوهم وانتهت بالواقع بينما في قصة ''رؤيا'' ابتدأت بالواقع وانتهت بالوهم· فهي بذلك معكوس القصة الأولى القصيرة لدى فاطمة المزروعي· ·· والمرايا أيضاً تشتغل المرايا والنوافذ بشكل مؤثر في قصص فاطمة المزروعي ففي قصة ''صورة قبيحة'' يروي رجل علاقته بالمرأة وفي القصتين السابقتين يظل بظلالها امرأة أو رجلاً حبيسين للنوافذ والزجاج·· هنا في ''صورة قبيحة'' رصد لحركة رجل منضبط الوقت وهو يذهب إلى عمله إلا أنه بدأ ينفلت من وقته فيتحسب ما سوف تؤول إليه حالته اللامنضبطة أمام مدير دائرته· فتقول المزروعي بضمير الغائب واصفة الرجل ''توقف سيارتك في ذلك المكان الذي هجرته منذ فترة طويلة، وتمر أمامك غيمة، تتجاوز بك روحك وعقلك، وجهها المدور ينظر إليك من شباك غرفتها''· وينتهي النص من حيث ابتدأ، إذ تدهشك نهايته التي هي بدايته حيث المرأة لا بمعناها الواقعي بل هي الذات والذات الأخرى التي بدأت تتشكل في داخل الشخصية كالمرآة·· وكل شيء حول الشخصية لا تأثير له، حتى هاتفه المحمول الذي أخذ يرن ولم ينظر إليه لأنه لا يعني له شيئاً إلا اذا افترضنا أنه اتصال من الشخصية الأخرى في ذاته يريد أن يكلمه ولكنه بدأ يتجاهله· نسأل هنا ما الذي يجعل فاطمة المزروعي مشدودة في قصصها القصيرة جداً هذه إلى الشبابيك، والغرف المغلقة، والرؤى المتخيلة ؟ هل هو عالم المدينة الذي بدأ يفضح مشاعرنا، هل هو اختراق أو تعر فاضح للخصوصية التي لم تعد منغلقة، هل أن عالمنا لم يعد عالمنا نحن، إنها في مجملها صور قبيحة تريد المزروعي أن تفضحها في عالم بدأ الإنسان يفقد خصوصيته فيه· في ''ثلاث رؤى حالمة'' ثلاث قصص قصيرة جداً وهي: الرؤيا الأولى: الجريدة الرؤيا الثانية: المرآة الرؤيا الثالثة: انعكاس مشهد النافذة في الأولى والمرآة في الثانية والانعكاس في الثالثة، ثلاثة مفاصل تعيد تركيبها فاطمة المزروعي في الجريدة والمرآة وانعكاس مشهد· العناصر تبقى كما هي مكررة في عالم المزروعي، إلا أن غلبة المشهدية السينمائية في هذه القصص القصيرة هي الغالبة، إذ بدا في كل قصة عالم حالم من اللامبالاة في الأولى ومن الأمل المفقود في الثانية ومن الخوف والانسحاق في القصة الثالثة، وهنا لابد من تأمل أن الرؤى الثلاث قد أكملت الواحدة الأخرى في مصائر مجهولة شكلتها فاطمة المزروعي باتقان في التأمل بما يوازي طبيعة الرؤى الحالمة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©