الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأوروبيون لا يحتكرون «التنوير»

الأوروبيون لا يحتكرون «التنوير»
5 مارس 2014 21:34
لم يكن الجدل حول مسألة التنوير أمراً غائباً عن الثقافة العربية في العصر الحديث، بل بات ذلك الجدل يرقى الآن إلى قرابة القرنين. غير أنه في السنوات الثلاثين الماضية قد خفت بريقه بعض الشيء فطفت على السطح مسائل وقضايا أخرى من طراز مقاومة الأصولية والإرهاب، مسبوقة بسلسلة من الهزائم السياسية والعسكرية وكذلك سؤال الحريات الشخصية والعامة وموقع الفرد وحقوقه بالنسبة للدولة وشكلها في ظلّ أنظمة حكم تسلطية هي الآن تترنح أركانُها، وقد امتازت «سابقا» بأنها شديدة الحساسية تجاه أي ممارسة نقدية كاشفة لغطاء التخلف والفساد. إلا أن سؤال التنوير في المجتمعات العربية عاد إلى الواجهة لفترة قصيرة للغاية خلال النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، فأعيدت ترجمة سؤال: «ما التنوير؟» الذي طرحه الفرنسي إيمانويل كانْت إلى العربية مشارقيا ومغاربيا في وقت متزامن تقريبا، لكن الوضع الذي كانت تمرّ به الثقافة العربية ولا زالت لم يؤد فقط إلى موت السؤال: «ما التنوير؟» عربياً، بل ربما لا مبالغة في القول إن فكرة الجدل والنقاش والحوار حول أمر جوهري يخص الثقافة العربية ومجتمعاتها قد مات أيضا في الثقافة ذاتها. في أية حال ما، من مناسبة لهذا القول واستعادته من رحم اليأس سوى تلك الأطروحة التي قدمها المؤرخ الألماني سيباستيان كونراد في ندوته التي حملت العنوان: «التنوير في التاريخ العالمي»، التي قدمها في جامعة نيويورك ـ أبوظبي في إطار البرنامج الثقافي للجامعة لشهري يناير وفبراير من هذا العام. تناقض يمكن القول إن الندوة التي تثير الغيرة بالفعل، تضمنت أطروحة أساسية مفادها الكشف عن ذلك التناقض في الرواية التاريخية الأوروبية حول بداية عصر التنوير وانتهائه أوروبيا في القرن الثامن عشر، ويبرهن على استمرار الجدل حول التنوير خلال القرنين التاليين، التاسع عشر والعشرين، في جغرافيات سياسية عديدة من العالم من بينها أوروبا ذاتها. في الوقت نفسه، لا يطرح هذا المؤرخ الألماني الشاب مفهوما محددا ونهائيا لعصر التنوير، ربما بسبب تاريخ هذا العصر ذاته الذي جعل منه مفهوما متحولا في الأمكنة التي ظهر فيه الجدل حوله، حيث يتغير هذا المفهوم بتغير الأزمنة التي تمر على المكان ذاته وكذلك بتأثره بجغرافيات سياسية سابقة عليه في طرح هذه النقاشات، سواء أكانت مجاورة أم أثارها ذلك الحضور الباهظ للاستعمار الأوروبي في أزمات اجتماعية كانت تمر بها مجتمعات تلك الأمكنة وخاصة في آسيا القرن التاسع عشر. وقد لا تكون الأفكار التي تأتي لاحقا هي أبرز ما جاء في ندوة سيباستيان كونراد عن «التنوير في التاريخ العالمي» بل هناك المزيد من الأفكار الجديرة بالنقاش ،والتي من الممكن أن تفجر جدلا واسعا حولها، ومن ذلك النوع الذي تجعل المتأمل فيها من هذه المنطلقات أو بناء على هذه الأفكار يعيد النظر في الكثير من المسلمات حول ما بات راسخا بشأن التنوير في الثقافة العربية راهنا، إلى حدّ أن المرء يدعو وعبر منبر «الاتحاد الثقافي» إلى ترجمة كتب هذا المؤرخ وأبحاثه إلى العربية، هو الذي لم يترجم له أي كتاب إلى لغة الضاد سابقا في حين أن كتبه في أوروبا تُطبع معا في غير طبعة بلغات مختلفة بالتزامن مع نسختها باللغة الأم، الألمانية. تبقى الإشارة هنا إلى أنه، ومن خلال الاستخدام اللغوي فقد استخدم كونراد «عصر التنوير» بالمفرد و«عصر الأنوار» بالجمع، إنما بالمعنى نفسه. وكذلك هي الحال مع كلمتي: مفهوم ومصطلح. ما يلي أفكار طرحها كونراد في ندوته وجرت صياغتها باللغة العربية بحيث تكون أمينة لروح الفكرة وأقرب إلى نصها، ويقدمها «الاتحاد الثقافي» أملا بإحياء الجدل حول استعادة الجدل بصدد التنوير عربيا: قصة يُنظر إلى التاريخ الأوروبي الحديث على أنه قصة تُروى، حيث من المفترض أن عصر التنوير قد ظهر من أعماق هذا التاريخ إلى سطحه ثم تطور في القرن الثامن عشر. وذلك على اعتبار أن عصر التنوير هذا قد جلب معه العصر الأوروبي الحديث، ومن بعد ذلك انتقل التنوير إلى العالم. إنه تفسير ذو نزعة مركزية ذاتية أوروبية، وأودّ أن أعارضه: كانت مناقشة عصر التنوير في القرن الثامن عشر وما تلاه ردودا على التحديات التي يواجهها العالم أجمع بصدد العولمة، أي أن هذا الجهد المعرفي المتمثل في أي طرح حول التنوير على بساط البحث، لا يخص أوروبا وحدها، كما أنه لا ينتهي مع نهاية الثورة الفرنسية، بل يمتد إلى القرن التاسع عشر. قد يبدو الأمر غير مثير للاهتمام، غير أن عصر الأنوار ـ برأيي ـ يمتد إلى القرن العشرين أيضا، لذا فمن المستحسن أن نقدم ذلك التعريف المحدد بصرامة لعصر الأنوار بدءا من المثقف الفرنسي إيمانويل كانْت الذي طرح سؤاله الشهير: ما التنوير؟. بالنسبة لكانْت، فإن «التنوير» ظاهرة طبيعية، وهو معركة بين القديم والحديث تحتاج إلى العنف. دعوني أطرح عليكم الملاحظة الآتية: قدم فنان ياباني من القرن التاسع عشر إجابته عن سؤال كانْت على النحو التالي: لوحة تحمل العنوان «صعود الأنوار وصعود التقليد»، صوّر فيها المعركة بين القديم والجديد حيث يظهر كرسيّ ومظلة حديثين يهزمان مظلة كبيرة تقليدية، وقلما حديثا يهزم فرشاة كتابة تقليدية وثمة معركة إلى يمين اللوحة تبدو فيها عربة تُدعى «ريكشا» (وهي إحدى أدوات الحداثة في اليابان) تهزم العربات التقليدية الأخرى، في حين نرى على يمين اللوحة القطار البخاري وهو يتقدم خلال سبعينيات القرن التاسع عشر في اليابان. مسؤولية هل عصر الأنوار عصر هجين؟ لقد فُهم عصر الأنوار الأوروبي في التاريخ العالمي بطرق عديدة: بدأ في أوروبا وانتشر في العالم، أي أنه ظاهرة أوروبية نشأت في أوروبا في حقبة تاريخية تخص أوروبا وحدها، وليست جزءا من التاريخ العالمي. أما الاتجاه الآخر المعارض فيرى عصر الأنوار على أنه ليس هبة من أوروبا بل هو نوع من الهيمنة الثقافية العولمية على العالم. وهذا الأمر بات شاغلا للدراسات ما بعد الكولونيالية الآن. في حين يرى اتجاه أخير أن عصر الأنوار هو الذي أدّى إلى الإمبريالية وكل الممارسات الخاطئة التي سلكتها تجاه شعوب العالم: وفقا لهذا الاتجاه، يمثل عصر الأنوار جوهرا للقمع في العالم باسم القيم التنويرية العليا التي يحملها، وهو ما أفضى ـ برأيي ـ إلى خلق الرايخ الثالث (النزعة العنصرية الهتلرية القائمة على التمييز العرقي وقانون البقاء للأفضل المستمد من الفلسفة الداروينية الاجتماعية التي هي إحدى فلسفات القرن الثامن عشر)، والغولاغ (هو الاسم الذي يُطلق على معسكرات الاعتقال السوفييتية. يرجع تاريخه إلى عام 1918م، أي بعد عام واحد من قيام الثورة ـ الموسوعة الحرة ويكبيديا)، والحربين العالميتين الأولى والثانية. لقد نشرت الإمبريالية قيم الأنوار، غير أنها أزالت نُظم القيم الأخرى، وعلى هذا النحو من المحو القائم على أسس مركزية ذاتية أوروبية، وكانت الإمبريالية واحدة من بين القيم التنويرية. في حين كانت هناك عصور عديدة من الأنوار في العالم: العالم الإسلامي واليابان والصين والهند وسواها من مجتمعات «العالم ما قبل الحديث» والتي لم تكن بانتظار الإمبريالية البريطانية ليتم تفعيل مجتمعاتها. في هذا الصدد، ثمة الكثير من الأبحاث التي تثير الاهتمام، وهي نتاج لقراءات مختلفة تخص التنوير في مجتمعات كانت تتطور، لكن البعض منها لم يكن يجد ممرا إلى الحداثة. تأمّل في صدد مقولتي: فأزعم أن تنوير أوروبا القرن الثامن عشر، ينبغي علينا فهمه بأنه ردّ فعل على التحديات الكبرى التي جابهتها أوروبا في العصر الحديث. لقد فهم الأوروبيون موقعهم من العالم على نحو مختلف، فنظروا إلى الصين على اعتبار أنها المجتمع الأكثر تنوّرا في القرن التاسع عشر والنموذج الأكثر تطورا باتجاه تجاوز الأنظمة الأكثر تسلطا في أوروبا التي كانت، بدورها، تخوض غمار حداثتها. لنتأمل في النُظُم الجديدة للمعرفة التي ظهرت في عصر التنوير، واستمرت مع الإمبريالية: كالأنثروبولوجيا والأدب المقارن وسواهما، حيث كانت هذه النظم وسيلة للتصالح مع الذات، في الوقت الذي أصبحت فيه الكوزموبوليتانية (المواطنة العالمية للأشخاص والأمكنة والبيئات) وسيلة لفهم العالم، وبالتالي لسنا بعيدين عن القول بأن المشهد الأخير من القرن الثامن عشر قد تقدم في ظلّ المنجز المعرفي لهذه النُظُم في العالم. يعني هذا الأمر، أن عصر الأنوار بوصفه تلك النظم المعرفية لم يكن أوروبيا خالصا بل اعتمد على مشاركين آخرين من العالم. كانت النقاشات حول الأنوار، في البعض من الأحيان، بطبيعة الحال، متزامنة كما أدت إلى فهم أعمق لعصر الأنوار. في هذا السياق قدّمت الثورة في هاييتي (وقعت 1790 ـ 1804 وهي ثورة من اجل استرداد حقوق مدنية خاضها العبيد ضد السلطتين الاستعماريتين للفرنسيين والإسبان وجرت في الفترة ذاتها التي حدثت فيها الثورتان الأميركية والفرنسية) تصورا جذريا لعصر الأنوار. بهذا المعنى يمكن القول بأن نقاشات عبر الأطلسي بخصوص الأنوار قد اتخذت منحى آخر. وحقيقة الأمر أن الرؤية الجذرية لهذه الأنوار أدت إلى صياغة لحقوق الإنسان تتجاوز ما كان يصوغه الثوار الفرنسيون في باريس. في هاييتي تحدى «العبيد» تلك الأصولية في الطروحات الثورية الفرنسية. وإن من المثالي (أو الطوباوي) تصديق الزعم الفرنسي بأن الثورة في هاييتي جاءت نتاجا لنقل المعرفة وانتشارها في المستعمرات، وكذلك هي حال الزعم الفرنسي ذاته بتشبيه قائدها (توسان لوفرتير) بقائد ثورة العبيد في العصر الروماني «سبارتاكوس»، ببساطة لأن الثوار الهاييتيين كانوا من الجيل الأول من العبيد الذين جُلبوا من غرب أفريقيا وجَلبوا معهم أفكارهم الدينية التي كانت حافزا لهم على القيام بثورتهم والحقوق التي نهضوا من أجلها. وهذا كله يعني أن عصر الأنوار ارتبط بالعولمة لكنه لم يُصنع من قِبل الأوروبيين وحدهم إنما أسهم في صياغته آخرون أيضا. مزاعم هل يمكن الحديث عن عصر الأنوار؟ وهل هو عصر الأنوار الأوروبي ذاته؟ يبدو التساؤل هنا خاطئا، لأنه يتعامل مع الأنوار بوصفه شيئا من الممكن تحديده لمرة واحدة وإلى الأبد. عصر الأنوار بالنسبة لي وكما أستخدمه ليس مفهوماً تحليلياً. هناك الكثير من المزاعم الأوروبية التي جاءت مع عصر الأنوار. يتحدث الكثيرون عن تحسينات طرأت على حياة الناس، كالتحرر الفردي والاجتماعي وسوى ذلك من مثل الملكية الفردية وإصلاح القانون الجزائي واستخدام الساعة والملابس الداخلية وإتاحة الفرصة أمام الأرامل فيتزوجن ثانية، كلها جاءت مع عصر الأنوار: كلما فتح الواحد منا فمه ليتحدث، فإنما يتحدث عن عصر الأنوار ـ المثقف التنويري الياباني يوكو زاما. ارتبطت العولمة في أوروبا بالمقدرة على تجاوز الاعتبارات الدينية وإنشاء مجتمع علماني. في حين أن المسيحية وحدها هي التي لديها القابلية على فعل ذلك هو أمر مشكوك فيه، بدليل أن النقاشات حول عصر الأنوار قد ظهرت، بقوة، في اليابان التي تعبد الشمس. ولقد انتقل عصر الأنوار إلى العديد من المجتمعات الآسيوية إنما ليس في الوقت نفسه إنما عندما شهدت تلك المجتمعات أزمات داخلية تزامن حدوثها مع التوسع الاستعماري الأوروبي. في الإمبراطورية العثمانية أيضا، ظهر سلطان ذو نزعة تنويرية منذ ثلاثينات وحتى خمسينيات القرن التاسع عشر، سمّاه أحد الصحفيين الفرنسيين بـ «فولتير أمته». وفي النصف الثاني من القرن نفسه أنشأ الشيخ رفاعة الطهطاوي مدرسة لترجمة النصوص الفرنسية المتعلقة بالتنوير الذي بدا مع هذا الشيخ وليس مع حملة نابوليون على مصر. إذن، مرّ تاريخ التنوير في العالم بمرحلة تاريخية أدت إلى أن علينا، نحن الأوروبيين، أن نتصالح مع صيغ متعددة لعصر الأنوار، ظهرت في أوقات متعددة في العالم فاختلف مفهوم كل منها وتغيَّر بتغيُّر الزمن. هناك العديد من الأفكار والمُثُل التي كان مصدرها الفلسفة الداروينية الاجتماعية (فلسفة منسوبة إلى تشارلز داروين (1731 ـ 1820)، علمانية شاملة، وعقلانية مادية تنكر أية مرجعية غير مادية، وتَرُد العالم بأسره إلى مبدأ مادي واحد كامن في المادة وتدور في نطاق الصورة المجازية العضوية والآلية للكون. والآلية الكبرى للحركة في الداروينية هي الصراع والتَقدُّم اللانهائي وهو صفة من صفات الوجود الإنساني (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية للراحل الكبير عبدالوهاب المسيري)، اتحدت مع الفكرة الأوروبية عن الأنوار فكانت الإمبريالية هي إحدى النتائج الناجمة عن عصر الأنوار الأوروبي. في الوقت نفسه لم يرتبط هذا المفهوم بآسيا: «الأنوار ليس مقياسا عالميا ولا يُنظَر إليه بوصفه ملكية أوروبية» تقول صحيفة كورية، «إنما هو طريقة عالمية في التفكير، وطريقة للتصالح مع التقدم الذي يحدث في العالم» تضيف الصحيفة. بالمقابل، ثمة العديد من المعلقين والمثقفين الذين يتحدثون عن الأنوار باعتبارها اتفاقية التجارة الحرة، وهذا لم يحدث الآن فقط، بل إن عصر الأنوار، بحسب أولئك المثقفين، كان يسعى منذ القرن التاسع عشر إلى إدخال الرأسمالية إلى نظام عالمي متكامل يخضع للسيطرة الأوروبية. من عادة خطاب عصر الأنوار الأوروبي أن يتوجه إلى الطبقات الاجتماعية الدنيا في المجتمع مثلما إلى الطبقات العليا التي ترى في التنوير قيمةً فُضلى تمتلكها هي وينبغي نشرها في العالم، أي السيطرة على هذا العالم. يكتب المثقف الأميركي فوكوياما صاحب أطروحة «نهاية التاريخ» (تلك الأطروحة التي عادت فخذلته): «بلدنا لا يستطيع تنوير جيراننا، علينا القيام بما تقوم به القوى المتنورة. فإن نكون متنورين يعني أن تتوفر لدينا المقدرة على الاستعمار». مصدر ما الذي يعنيه ما سبق؟ يصير العالم مفهوما أكثر، فقد تحوّل عصر الأنوار الأوروبي بوصفه مصطلحا يخصّ الفرد في مقابل الدولة إلى مجرد وصف لمجتمع الدولة ذاتها في السياق العالمي. ظلّ عصر الأنوار، في القرن التاسع عشر، مصدرا يغذّي تلك النقاشات القائمة حوله في آسيا. وهنا فإننا نتحدث عن الانغلاق أمام الانفتاح، في حين أن «الكونفوشيوسية» جعلت خطاب التنوير بالمجمل مستساغا. وهناك الكثير من الأمثلة على ذلك: الفيلسوف المثالي الفرنسي جان جاك روسو، وُجد في الصين أيضا، بمعنى أن الصينيين كانوا موجودين دائما، على الرغم من أن المصطلح كان قليل الاستخدام في الصين واليابان آنذاك. إن «المفاهيم» المتعددة للتنوير في القرن التاسع عشر قد أُشير إليها كثيرا بأشكال مختلفة. إذ إن اليابان بانتصارها على الصين كانت بالنسبة للأخيرة وعدا بالحداثة من دون الحاجة إلى عصر الأنوار الأوروبي وإمبرياليته. كما أن العثمانية التركية كانت معجبة بالتجربة اليابانية وحاولت تقليدها. لقد فتحت اليابان عيون الصينيين على الشمس وأنوارها، فأنشأت الصين مدرسة للترجمة قدمّت أكثر من ألف كتاب جلبت معها مصطلحات الحداثة: كالعمالة (الطبقة العاملة) والرأسمالية والإمبريالية، وهي المصطلحات التي وصلت إلى الصين عن طريق اليابان وليس عن طريق الاستعمار. إذن، التنوير في الصين يشير إلى اليابان وليس إلى أوروبا وحدها. أيضا، وعدت اليابان بطريق مختصرة للتنوير. كان هناك كتاب صعب بالفرنسية عن عصر الأنوار يقابله، بالنسبة للصينيين، كتاب سهل باليابانية في الموضوع ذاته. بالتالي لم يكن عصر الأنوار في الصين نصا مسرحيا فرنسيا أُعيد عرضه على خشبات المسارح بل كان نتاج تفاعل بين أفكار تنويرية ومثقفين تنويريين من جهة والشعب من جهة آخرىن حيث جرى ذلك على نطاق واسع فتعامل معه الصينيون على أنه أمر يحدث مع الصينيين أنفسهم ويحدث لهم أيضا. هناك تدفقات للأفكار حول عصر الأنوار، وفقا لتاريخ هذا العصر، جيئة وذهابا، لكن ما يحدث هو أن الإشارة تتم إلى باريس، مثلا، أكثر مما يُشار شانغهاي أو طوكيو، وكذلك أكثر من هاييتي، تلك القوة الأبرز في تاريخ عصر الأنوار في القرن التاسع عشر التي أجبرت الجمعية الفرنسية على الاعتراف بحقوق الهاييتيين. مع ذلك لست معنيا، في أفق التحليل الخاص بتاريخ هذا العصر، بقياس عدد الأفكار ومن أي اتجاه جاءت أكثر، بل ما يعنيني هو استخدام هذه الأفكار وتاريخ ممارستها بوصف ذلك جانبا من جوانب التاريخ العالمي لعصر الأنوار ذاته. وأخيرا، أخلص إلى أنه قد جرى ويجري طرح الكثير من الأسئلة عن أصول عصر الأنوار: أصل العقل، وأصل القانون، وأصل اللغة، وهي اعتبارات أساسية لدى مفكري عصر الأنوار الأوروبيين. إنهم يطرحون هذه الأسئلة حتى باتت هاجسا، في حين ينبغي تجاوز ذلك إلى مناقشة التحولات في مفهوم عصر الأنوار والممارسات التي رافقت هذه التحولات، وخاصة فيما تلا القرن الثامن عشر. إذ إن لـ«عصر الأنوار» تاريخا خاصا به وهو قادر على تغيير فهمنا للتنوير عبر العديد من الطرق: إنه محاولة للتصالح مع التحديات العالمية. لم يكن عصر الأنوار من صنيع المثقفين والمصلحين التنويريين الفرنسيين والأوروبيون وحدهم، بل أسهم فيه مثقفون ومصلحون آخرون من جغرافيات سياسية عديدة من العالم. علينا أن نعيد التفكير في المدة الزمنية لعصر الأنوار فنوسع من قُطر دائرة تاريخ هذا العصر بوصفه رواية عالمية، وهو ما دعا إليه مفكرون كثيرون من العالم ويدعون إليه الآن.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©