الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الرواية الأوروبية شحّ الخيال

الرواية الأوروبية شحّ الخيال
4 ابريل 2017 20:56
يحدثنا سالادريغاس في رواياته عن الحب دائماً؛ الحب في الحرب، الحب في السفر عبر الزمن، الحب في التجوال بين الأماكن.. والحب في الإبداع. ولد في برشلونة سنة 1940، صحفي محترف وأشرف طويلاً على ملحق الكتب في صحيفة (الطليعة).. ويعد أحد الأصوات المهمة في الرواية الإسبانية المكتوبة باللغة الكاتالانية. حاز جائزة سان جوردي عن روايته (شمس المساء). ويعتمد سالادريغاس في عمله على تشييد ثيمات هي في أغلبها حكايات بحث شخصي. ففي روايته (أنا إما) يطرح أهم المميزات لجيل كامل من خلال امرأة تتذكر إقامتها في باريس أيام ثورة الطلاب في مايو 1968، وعليها أن تختار بين إمكانية الرحيل أو العودة إلى الحياة اليومية. أما روايته (شمس المساء) فهي قصة حب لأشياء كثيرة في الواقع، ومنها الحب بين تمثال لإلهة إغريقية ورسام كاريكاتير برشلوني.. ودائماً تكمن العبرة في تفاصيل الأعمال وكليتها لا في إيجازها. تعكس شخصيات سالادريغاس صور الكفاح من أجل التغيير ومن أجل العشق. وتواجه عالماً مكتظاً بالمكائد والمنعطفات والعزلة. شخصيات تحاول مواصلة العيش على الرغم من كل التناقضات التي تدفعها إليها انفعالاتها وقلقها. أغلب شخصيات أعماله هي شخصيات معاصرة بكل عمقها، تكافح من أجل إيجاد هويتها الخاصة التي تلاحقها وتفلت منها كالظل. ينتابها الخوف أحياناً، وأحياناً أخرى تعيش وحيدة إلا أنها وفي نهاية الأمر ستجد طريقاً ما، ربما لا يقودها إلى أي اتجاه ولكن هذا لا يهم: الحب، السفر.. أو حتى بكل بساطة، مطاردة هذا الظل الغامض.. من أهم أعماله: (تحليق النيزك)،(مذكرات كلاودي) و(شمس المساء)، وهنا أبرز ما في رؤيته لحال الرواية الأوروبية الآن، بين إشكاليات اللغة وأزمة الفرد وشح الخيال. لا بد لي أن أعترف بأنني ومنذ تفتح مراهقتي كنت أريد وبكل سذاجاتي آنذاك أن أتوجه إلى الكتابة، فقد كنت متأثراً باكتشافي لكبار الكلاسيكيين في الأدب. لم أكن حينها قد قرأت ما قاله كيرل كونولي في كتابه (‏The Unquiet Grave) ?سنة ?1944، ?حيث ?قال: «?في ?أيامنا ?هذه ?على ?الفنان ?أن ?يتعلم ?كيف ?يكتب ?على ?الماء ?وكيف ?ينحت ?على ?الرمل»?. ومن المؤكد أنني ما كنت لأفهم آنذاك الحس التحذيري في هذه العبارة، وفي حالة أنني قد استطعت فهمها، فأيضاً لم أكن لأتخلى عن السعي قدماً في رغبتي. أما الذي كنت أعرفه منذ بداياتي فهو ذلك الذي يشدني ويأخذني إلى: أن عليّ أن أصنع جبهة في الكتابة الروائية، جبهة مما يمتلئ به رأسي في النصف الثاني من القرن العشرين ومن خلال منظور الجنوب الأوروبي. أتحدث عن سذاجاتي، بسبب غرابة ذلك الطموح: أن أصبح روائياً - على الأقل خلال ذلك العمر -. روائي لم يصل بعد لفهم الجنس الكتابي الخيالي.. تدفعه رغبته الشديدة بهوس لقص الحكايات. وحتماً إنها قد كانت حكايات جديدة، من حيث طابعها الفنتازي، لم تكن محكية من قبل، وهي تخفي عذريتها في مكان بعيد في عالم الخيال بانتظار أن تستطيع اكتساب شكلها الخاص، أجل.. من أجل تجسيدها في كلمات. تمرين لهزيمة البياض بعد ذلك، على مدى مرحلة التمرينات الطويلة الشاقة من أجل التغلب على بياض الصفحة المخيف، يبدأ أحدنا بالإدراك أن الخيال أو الخرافة شيء وأن الواقع شيء آخر بالغ الاختلاف. في مرحلتنا وفي رحلتنا وفي أوروبا المتهاوية التي تحتضننا وتشكلنا وفق سعتها الرحبة وتقاليدها الثقافية العريقة، حيث استُنفذت الحكايات منذ زمن طويل، فكل الحكايات الجوهرية على اختلاف وكثرة تنوعاتها قد تم رويها عبر أساليب مختلفة ومن خلال وجهات نظر متباينة أو حتى متعارضة. إن مقاييس الاستعمال وعدم الاستعمال في قارتنا البراغماتية، وإمعان العقل في عملية إعادة تشكيل الحياة عن طريق الروايات، يحول دون إيجاد أي منفذ للسير في جادة الفنتازيا. إن الحكاية الجديدة، على افتراض أنها موجودة، تتنفس من خلال سحر الغابات الإفريقية التي لحد الآن يتم تصويرها واستيحائها وفق رؤية المعرفة المُسبقة، أو يتم تقبيحها مثلما يحدث تجاه تلك التي في قلب أميركا اللاتينية والتي لا يزال العمل جارياً على جعلها لاتينية على الرغم من أنها تنحدر من ثقافات أخرى، بحيث تصل إلى أسماعنا الديكارتية بإيقاع بالغ الحداثة. مشكلة اللغة في رأيي، إنها لحقيقة، أن الفنتازيا والميدان الأسطوري في الأعوام الأخيرة، تتم صياغته ليعبر عن الواقع من قبل مبدعين غير أوروبيين، فيما يقتصر اشتغالنا وملكيتنا على المحافظة على مقاييس ثابتة للغة كعلامة على الهوية. إن الرواية هي دائماً أكثر بُعداً من أي لغة تُكتَب بها، وذلك منذ أزمان لم تكن فيها اللغة هي العنصر الراجح وإنما كانت مجرد أداة يتم توظيفها لخدمة الحكاية التي يراد التعبير عنها، وإن كانت اللغة هي التي تقوم أساساً بالتمييز بين راوي وآخر، بل وحتى التميز بين الأساليب الأدبية القومية، ومع ذلك يحدث بأن تكوّن للغة الروائية حدودها الخاصة، والتي ترسمها بكل وضوح عندما تتعرض لمؤثرات انحطاطها العضوي الخاص، الأمر الذي يجبرها على تأويل - عبر هذا الانحطاط - كل منظومة القيم الثقافية، والتي، بالطبع، ستضم من بينها الرواية نفسها باعتبارها وسيلة فنية. إن تفحص هذه اللغة الخاضعة لعملية مزدوجة من انحطاط ومحاولة تجاوز، يقود إلى تعريف إجمالي للرواية الأوروبية الآن، ويلبسها زياً موحداً يسم حظها بالعجز الجوهري الذي يهدد بإحباط أقل لمحة لمحاولة تجديدية. إننا أمام لغة، بشكل عام، قد فقدت جزءاً كبيراً من قدراتها: مثال ذلك؛ قدرة الوصف الأخاذة للمغامرات المدهشة التي تميزت بها الرواية الملحمية بقوة، حيث فقدت بريق غنائيتها ولم تعد تنفع الآن ولا حتى تجارب الرواية الطبيعية أو زخارف ومبالغات الرواية القوطية. وهكذا فلم يعد من المقبول توظيفها من أجل تصوير المآثر والبطولات القوية لحركات وثورات الجماهير، أو كثافة الأفكار - هذا إذا كان ثمة أفكار كثيفة أصلاً - أو الخيال الأصيل الذي تتم صياغته كوسيلة، ليس من أجل تصحيح الواقع، وإنما من أجل محاولة إدراكه. في المحصلة إن الآلة التي أعددناها هي؛ انطلاقاً مما حدث، من تلخيصات للنتائج كي يفترض بنا أن نتقبل أكبر خراب للواقعية المضادة للشعرية، الواقعية التي تشبه عضلة متصلبة جل اشتغالها الحركي محدد بشكل تعسفي. وبالنتيجة، فإننا نعرف بأن الكلمة في وضعها الحالي لا تسمح لنا بمرونة التشكيل، علماً أنها (الكلمة) ليست كذلك من حيث اختزانها للمقدرة التي ما زال باستطاعتها أن تمنحها الكثير فيما لو سعينا إلى تخليصها من أسرها وإعادة الحرية لها.. تلك الحرية التي كانت تمتلكها في يوم ما. هل هذا ممكن حقيقة؟. أريد، وبكل قواي، أن أؤمن بأن؛ نعم.. إن ذلك ممكن. وعلى أي حال فإن الروائي ما أن يتمكن من الشفاء وتجاوز تلك الغمزات لأكثر الطليعيات راديكالية في أعوام الخمسينيات والستينيات، والتي منيت بالفشل في النهاية، فلن يعود إلى مجرد قص الحكايات طبعاً، لأن الحكايات الوحيدة التي يستمر رويها اليوم هي تلك التي تتيحها اللغة الضيقة التي بمتناوله الآن في عصرنا هذا. لغة فقيرة، غامضة، ملتبسة، مأزومة ومليئة بالدلالات من كل صنف، تخص الحكايات الداخلية المتداخلة للفرد الذي يناقش في عزلته، مرة بعد مرة، معنى وجوده، التهميش الذي يعانيه بحكم وجوده في عالم يبدو له متقدماً بشكل غريب - نقول متقدماً كي لا نقول عدائياً، عالم مفرط بتجاوزه للفرد ويهدده أكثر من أي وقت مضى. وهكذا، فبشكل ما، فإن رواية المغامرة لم تمت من حيث العمق، وإنما قد قامت فقط بتغيير وضع أهدافها من حيث الحيز في الحياة، فقد انتقلت بمكانها من ضوء الشمس إلى عتمة متاهات الإنسان المعاصر، حيث يحاول حدس الروائي أن يسلط عليها بعض الضوء.. هل يتعلق الأمر بالعودة إلى المعسكرات الشتوية بانتظار ظروفاً مناخية أفضل؟ لا أعتقد ذلك.. بل على العكس تماماً. أعتقد بأن الرواية الأوروبية من جهاتها الأساسية الأربع قد اقتربت أكثر إلى الفحص النفسي، الباطني لما تفتقر إليه الحياة، وترد على المهيمنات في زمن مفعم بالحيرة، هذا الزمن الذي يعيش بين أحضانه الروائي كفرد آخر وسط أفراد تائهين. فيحتاج إلى فك ألغاز طبيعة دوافعه الداخلية كي يتغلب على نسيج تركيبي مسخ، ويعرف تماماً أنه لا يستطيع السيطرة عليه، وإنما هو الذي يقع تحت هيمنته الخطيرة. الكاتب والتحولات مسألة أخرى؛ هي الروح النسبية التي تواجه تحدي وضع أعمال فنية من المخيلة بمستوى مرحلة دائمة التحولات دون أن تكون بعيدة بشكل مبتذل عن المجموع الإنساني. على الكاتب أن يكون منتبهاً للتحولات التي تحيط عمله وأن يكون مستعداً للوصول بأي ثمن إلى ضفة ما.. إلى أية أرض بأطراف مجهولة تقدم له غطاءً مضموناً. من المؤكد حسب هذا الاجتهاد ومواصلة المحافظة على سلامة فطرته التجديدية ستعتمد نجاة الفن الروائي وسط هذا القلق والترددات في هذا القرن الجديد. كما عليه أن يتذكر ضرورة تعلم «الكتابة على الماء والنحت على الرمل»، وإن كان من العسير في هذه الظروف التكهن حول استمرارية الرواية أو مصير العمل الأدبي. وربما إن الأمر قد كان هكذا دائماً، ومع ذلك، فمنذ ظهور مذهب الشك (الارتيابية) قد تمت بلورة نواة ما نعرفه بالتقليد. والروائي في عزلته النزيهة ليست الأوهام هي التي تمنحه الحياة، وإنما إخلاصه الحقيقي لأساسيات بعينها: للكلمة، للثقافة ولعصره.. أي إخلاصه لنفسه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©