الإثنين 6 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ضحكة الديك

ضحكة الديك
11 يونيو 2009 02:57
1- كلما سمعت ضحكته حاولت جاهدة أن أبعد الفكرة عن رأسي، لكن صوت قهقهته يخترق رأسي، فأرفع وجهي عن الورقة لأنظر إليه محاولة إخفاء دهشتي تحت غلالة ابتسامة صغيرة. أتأمل وجه رئيس القسم الأسمر، يبدو بشكل كمثري. وعيناه صغيرتان كنقطتين في صفحة وجهه، فيما انساب أنفه الطويل مرتاحا، ليلتقي بشفة غليظة تنام بهدوء فوق الشفة الأخرى، في وجه يبدو صافيا. وقد تربع العقال فوق رأسه بإحكام، وهو يقهقه راجا رأسه وكرسيه، كأنهما الصدى لهذه القهقهة العجيبة ودون خوف من سقوط عقاله. ضحكته شبيهة بـ... هل أستطيع أن أقول ضحكة الديك. نعم أقول لنفسي ذلك عشرات المرات، وأخفي ضحكتي أحيانا، لكني لا أجرؤ على قول ذلك أمام الآخرين. 2 حين كنت صغيرة قلت: ـ هذه المرأة تشبه السلحفاة. استهجنت عمتي ذلك قائلة: ـ لا يجوز أن تقولي هذا، لأنه حرام. وحين شبهت أحد الممثلين بشخصية كارتونية على هيئة ضفدع قالت لي: ـ استغفري ربك. مرّت سنوات طويلة على هذين الموقفين اللذين أحجما صفة تشبيه الناس بالحيوانات عندي. فأصبحت هذه التشبيهات تدور في داخلي. 3 تلك المرأة الشبيهة بالسلحفاة تشبه هذا الرجل الديك. فتلك الأولى لم ترها عمتي دون برقع، وقد رفعت عنها غطاء رأسها. كان وجهها أشبه بسلحفاة عجوز، وقد تلاشت المسافة بين وجهها وصدرها. وحتى صندوق السلحفاة الذي تحمله على ظهرها، ليحميها كان في داخل هذه السيدة في صورة وسواس لا ينقطع حول أي أذى محتمل قد يصيب أبناءها. لكن الرجل الديك كما صرت أسميه بيني وبين نفسي يضحك مثل الديك تماما. فهل تشبيهه بالديك يحمل أمرا آخر أبعد من ضحكته؟ لست أدري قد يكون مختالا فخورا مثل الديك المتباهي بألوانه المتعددة، هل لأنه يرأس قسما كله من البنات؟ كالديك الذي يجمع من حوله الدجاج؟ رغم أنه ليس أكثر كفاءة مني ولا من بعض الموظفات ولا أقدم منهن، لكنه الديك الوحيد بيننا، وهي ميزة جعلته رئيسا للقسم، ولم يترق إلا لهذا. ترى لماذا أشبه رئيس القسم بالديك؟ أم أن شكله يوحي بديك له عرف ملون ولحية؟ أم أن ترقيته ليكون رئيسا علينا لن تتكرر كبيضة الديك، لا تحدث إلا مرة واحدة في حياة الديك؟ 4 أتأمل وجهه الكمثري، وبصدق أنتظر ضحكة الديك، التي قد تزيح شيئا ولو قليلا من ثقل هذا الاجتماع. وبين فينة وأخرى أتأمل محاور اجتماع القسم، وأستمع للآراء التي تطرح، محاولة إبعاد هذه الفكرة التي تسيطر على ذهني، لكن الملل يعبث بيدي فأخربش وأرسم على الورقة البيضاء حبة الكمثرى والديك، وأكتب كلمة الديك بالخطوط التي أتقنها. 5 أطرقت أفكر بذنوبي الصغيرة في تشبيه الآخرين بالحيوانات، وصوت رئيس القسم يتسرب إلى مسامعي، لم أكن أفقه كثيرا مما يقوله، كأني كنت أنظر في داخلي لأحرث أغوار نفسي، وأتساءل لماذا أشبه الناس بالحيوانات؟ وهل هذا ميراث قديم من أجداد سكنوا الصحراء، فشبهوا الآخرين بما رأوا من بيئتهم؟ وهل من الطبيعي أن تتبادر هذه الأمور إلى ذهني لكن علي ذوقا أن لا أتفوه بها أمام الآخرين؟ أم أن الأمر أبسط من ذلك فأنا حساسة جدا تجاه الذنوب الصغيرة نتيجة تربية عمتي الصارمة التي جعلت النار أمامي عيني على أي خطأ ارتكبه، ونسيت أن الله غفور رحيم. نبضات قلبي تتسارع وريقي ينشف. وأنا أتأمل ذاتي تحت أنظار الآخرين، وإن لم يسمعوا شيئا، فلابد أنهم رأوا آثار ذلك على وجهي. 6 قبل نهاية الاجتماع صاح رئيس القسم قائلا: ـ ها.. لم نسمع رأيك اليوم. استيقظت من خربشاتي، كمن قذف به في البحر فجأة. وشعرت أن الوقت يمر بطيئا بي، وكأن دهرا عبر في بصمت، والأعين ما تزال معلقة بي. فاستنجدت بلساني الذي غدا خشبة جافة ملقاة في صحراء حلقي من شدّة هول المفاجأة! تلجلجت في بداية كلامي، كان الصوت يبدو خارجا من صندوق مغلق لا من حنجرتي: ـ أعتقد أننا يجب أن نطور القسم وفق رؤية واضحة وخطة متكاملة. الآن أتذكر هذه الجملة فحسب، فقد كنت أبعد عن ذهني صورة الديك، وأحاول أن أركز أفكاري، في حين تتطاير من ذاكرتي لشفتي كلمات كثيرة مثل الواقعية وجائزة الجودة والنتائج والأسباب، والحلول الترقيعية وغير ذلك. بعدما انتهيت من كلامي هز رأسه الكمثري قائلا: ـ كلامك صحيح، لذا أكلفك بكتابة هذه الرؤية والخطة مع من تختارين لمساعدتك، وحاولي أن تستفيدي مما قيل في الاجتماع. وبعد لحظات انتهى كل شيء، تنفست الصعداء مرتاحة لمرور الاجتماع على خير، ثم مرت بي بعض الموظفات فأخفيت الورقة حتى لا يرين خربشاتي، نظرت إلي إحدى الموظفات القديمات نظرة اشتممت منها الضيق والرغبة في استفزازي، ثم رفعت كتفها مبدية لامبالاتها بي، وقد مطت شفتيها في استهزاء لا يذكرني إلا بأشهر حماة في السينما المصرية ماري منيب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©