الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خوف وعنف وشخوص ضائعة تبحث عن مرفأ

خوف وعنف وشخوص ضائعة تبحث عن مرفأ
11 يونيو 2009 02:48
الشقيقان والفتاة التي خطفاها في الكوخ «الرهيب» الإنجليزي بدا مهرجان اسطنبول السينمائي هذا العام مختلفا، فلياليه جاءت في أجواء خانقة تعصف بالعالم من جراء أزمة اقتصادية طاحنة، وركود عظيم لم تنج منه تركيا. وبطبيعة الحال جاءت العديد من العروض تعكس تلك الأجواء من خلال معالجات شتى تراوحت بين التشاؤم المفرط، والعنف الجانح وأخيرا شرائط راحت تغوص في النفس البشرية لعلها تجد بعض السلوى في فهم ما يعتمل على سطح الإنسانية من ظواهر عجيبة قد تدفع البشر إما إلى الجنون أو إلى الانتحار. «بونتي مول» Poontypool قصة حقيقية كتبها توني بيرجز وهو نفسه سيشارك في صياغة سيناريو الفيلم الكندي المسمى بنفس الاسم، وقام بإخراجه أحد أشهر مخرجي السينما الكندية Bruce McDonald، وهو أيضا اسم مكان يفترض أن الإيمان يسكنه فالكنيسة العريقة (تم التصوير في كنيسة Victoria – Royce Presbiteryen بترونتو) عنوانه، لكن الحاصل فيه صار في اتجاه مخيف قاتل، فثمة فيروس عجيب قيل أنه مسلط على الناطقين باللغة الإنجليزية يجتاح مقر محطة راديو المحلية والتي تبث من بدروم الكنيسة نفسها، تتلقى معلومات من المصادر المعنية والمذيع ينقلها بدوره للجمهور ومنه يستقبل مكالمات تتحول إلى صراخ ثم إلى حشرجة وكائنات بشرية وكأنها خرجت توا من قبورها والثلوج تتساقط، الفوضى تجتاح المكان، ومهندسة الصوت تصاب بالهلع ثم في نوبات هستيرية تدق برأسها الحائط، ثم الزجاج الفاصل بينها وبين كابينة البث، الدماء تنطلق كالنافورة، ما هذا بحق السماء؟ الناس تأكل بعضها البعض، والكابوس مستمر، والتحذيرات أن الفيروس في طريقه كي يكتسح العالم، وكان من المثير أن يأتي عرض الفيلم في ربيع العام الحالي قبل أسابيع من وباء أنفلونزا الخنازير. في سياق العبث ذاته والرؤى اليائسة من صلاح العباد يأتي كوخ الاستجمام وبالأحرى كوخ الموت الإنجليزي The Cottage والذي أخرجه Paul Andrew Williams ليصب في تلك الدائرة الجهنمية من القتل الممنهج، فالقصة في ظاهرها تبدو عملية خطف، لكن في بقعة قريبة من الكوخ ستنجلي عوالم مخيفة تقوم دون أن يطلب منها أحد بالانتقام من الخاطفين والمخطوفة جميعا وبصورة عنيفة تقشعر لها الأبدان. وعندما تبحث عن تفسير يأيتك سريعا في كلمات ذات مغزى تتلخص في أن ثمة أمورا مذهلة تعيش فينا ونحن لا ندري مداها نلهث ونتخبط لوضع نهاية لداء يتربص بنا ولكن دون جدوى! عذابات لا تنتهي بعيدا عن هذا الصخب الدامي قدم لنا المهرجان صخبا آخر ولكنه هنا يدور في دواخل شخصيات مفعمة بالحيوية ولكنها كسيحة مقهورة إما بفعل عوامل لا دخل لهم بها أو نتيجة وقوعهم أسرى لطموحاتهم الغريبة، هذا ما نجده بجلاء في الشريط النمساوي المعنون Revanche والذي رشح في فبراير الماضي لجائزة الأوسكار كأحسن فيلم أجنبي عرض بالولايات المتحدة الأميركية وهي الجائزة التي ذهبت للياباني «الرحيل». فمن خلال المشاهد التي صاغها المخرج Gotz Splelmann نرى في فيينا الحالمة عاصمة فولفجانج أماديوس موتسارت حيوات محبطة غارقة في الوحل حتى النخاع تحاول بشتى الطرق الخروج من مأزقها، لكنها تكتشف وقد أضافت عذابا آخر إلى عذاباتها. ودون أن يكون هناك اتفاق يأتي الحل في الفيلم الفرنسي الإيطالي المشترك ريكي Ricky والذي أخرجهFrancois Ozon متجسدا في الطفل الأسطوري بجناحين، طائر يأتي كوميض ويذهب تدركه سماء الرحمة، ومن جديد تحمل الأم في أحشائها جنينا آخر وكلها ثقة في مرفأ قريب لها ولأسرتها الصغيرة. الغريب والمجهول في فيلم «بحيرة» Un lake وعلى الرغم من جنسيته الفرنسية إلا أن مخرجه Philippe Grandrieux وهو نفسه كاتب السيناريو لم يشأ أن يحصر أحداثه في مدينة بعينها، معتقدا أن تفاصيلها يمكن أن تحدث في أي مكان، فقط هي بحيرة تحوطها جبال تكسوها الثلوج، وغابات كثيفة الأشجار، فعلى ضفافها تعيش أسرة الأب والأم كفيفين وأبناء ثلاثة، ابن شاب مهمته قطع الأشجار، شديد النقاء ولكنه يعاني داء الصرع، وشابة تنتظر فارس أحلامها وطفل لم يتعد السادسة من عمره.. حياتهم رتيبة تسير في منوال واحد. النهار موغل في ظلام يكاد يكون مثل الليل، فضوء الشمس ضنين طوال زمن الفيلم لا نشعر به. وفجأة يأتي الغريب الذي ظل بدوره يبحث عن ضالته ومن أجلها طاف بلدانا ومدنا لكن ما كان يبحث عنه لم يكن بعيدا عن زيورخ مدينته التي يعيش فيها، وأخيرا وجدها ساكنة على ضفاف البحيرة التي لا نراها، إنها الفتاة التي تتوق إلى الخلاص وها هي تجده متمثلا في فارسها الغريب، عالم يبدو غامضا ولكنه مليء بالشجن والرغبة في مقاومة المجهول. بعيدا عن تلك البحيرة الأوروبية، سينقلنا المهرجان إلى بحيرة أخرى بالمكسيك من خلال فيلم Lake Tahoe من إخراجFernando Eimbcke الطريف أننا أيضا لا نشاهد تلك البحيرة وإنما نشعر برتابة وسكون مياهها على شخوص هذا العمل السينمائي البسيط في سرده الجميل بلغته البصرية، فها هي الأم قابعة دائما مع هواجسها، وأب غائب في عمله وصبية تلهو مع نفسها وفتى أراد أن يهرب فلم يفلح. ورغم اكتشافه بأنه ليس الوحيد إلا أنه تواق كي يعيش وسط أسرة متماسكة. نفس الأمر سيتكرر مع اختلاف التفاصيل في الفيلم الكوري الأميركي المشترك Treeless Mountain وأخرجته So Yong Kim فالأم كان عليها أن تبحث عن الأب تاركة طفلتيها مع خالتهم الغارقة في خمورها المتخمة بالديون فما كان منها لتتركهم بدورها للجد والجدة، لكن المذهل هو أن الطفلتين ستظلان تنتظران الأم على أمل عودة الأسرة من جديد. «الرحيل» الياباني نأتي إلى الفيلم الياباني «الرحيل» Departures وأحداثه التي تعتبر أحد تجليات الأزمة الاقتصادية التي تعصف بأركان البلاد في سابقة لم تحدث منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. فبطل الفيلم «دياجو كوباي ساهي» (أدى الدور ماساهيرو موتوكي Masahiro Motoki) عازف التشيللو الموهوب سيبدأ في البحث عن وظيفة جديدة بعد أن حل الاوركسترا الذي كان يعمل به ولن يطول به البحث فسرعان ما سيجدها لتكون المفاجأة التي ستغير حياته رأسا على عقب فعمله مرافقة من يودعون الحياة أي حانوتي! وهكذا اتجه يسلك عالم مصاحبة جثامين الموتى بالطبع كانت البداية مرعبة بيد أنها افتقدته توازنه، لكن لم يكن هناك مفر والأهم بديلا عن العائد المجزي من تلك الوظيفة، ودون أن يدري ستتكشف أمامه أسرار الخوف وتنقشع تدريجيا رهبة الموت يقابلها معان شديدة الإنسانية سترتسم على الوجوه الساكنة التي عليه أن يرتبط بها ويتلاحم معها مثلما كان يفعل مع أنغام برامز وفرانز ليست ويوهان أستبسيان باخ وغيرهم، وها هو أخيرا وأثناء العمل يعيش بكل كيانه مع أصدقائه الموتى رموز عالمه الصامت. إنه يعزف ولكن بطريقة مختلفة بإحساس غارق في الخصوصية وسط استحسان وانبهار أهل من يعدهم للحياة الآخر وذلك لدقته المتناهية في إجراء الطقوس المعقدة علي الأجساد المسجاة أمامه إلى أن يجهزهم ويضعهم بكل صبر داخل توابيتهم كل واحد حسب مقدرته المالية تمهيدا لحرقهم في الأفران المعدة لذلك! ويالها من مشاهد صاغها باقتدار المخرج Yojiro Takia الذي أعطى لنا شريطا سينمائيا مفعما بالروعة والجمال، فرغم موضوعه يابانيا خالصا إلا المعالجة الذكية أطلقته من اسر المحلية ليصبح أنشودة كونية لا تعرف جنسية معينة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©