الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

معرفة

معرفة
7 يونيو 2009 00:51
درجت العادة حين كنَّا صغاراً أن نتباهى بما كنَّا نعرفه، كنَّا نتسابق لرفع أيدينا عالياً، ساعين للإجابة على أي سؤال يطرحه الأستاذ، خلف ذاك السباق المحموم كانت تكمن رغبتنا الجامحة في إشعار من لا يعرفنا بأنَّنا نعرف. قيل لنا يومها إنَّ المعرفة سلاح، وقيل إنَّها وجع يتباهى بحمله القادرون وحدهم، وأتخمت مسامعنا مقولات شتى تمنح المعرفة مكانة متقدمة في سلم القيم السائدة، أوالمرَّوج لها، إلى أن صقلت وعينا آية كريمة اختزلت الإقناع فلم تترك متسعاً لمزيد: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون..) كانت المعرفة هدفاً يُرجى، وشرفاً يطمح إلى نيله كثيرون، وكانت أيضاً ميزة تضفي على العارف مسوغات الريادة والتفوق.. ثمَّ كان على أيام أن تمضي، وعلى تجارب شتى أن تحطَّ رحالها في المفاصل الحيوية لأعمارنا المتشظية، كان علينا أن نكبر، ويكبر معنا الاعتزاز بالوجع، حتى ندرك أنَّ ما عَلِمناه وتعلمناه لا يطابق الواقع بالضرورة، وأنَّ للحقائق التي تربينا عليها نقائض صارخة لا تقل عنها دقة وصحة. وبات لزاماً علينا أن نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام واقعة قصرت عن دحضها التأويلات: إذا كانت المعرفة مدعاة للتباهي في بعض الأحيان، فإنَّ الجهل غالباً ما يمنح الجاهل، أو المتجاهل، كثيراً من عوامل التمايز. الجهل بالشيء قد يصير، إذا عرف صاحبه كيف يسوِّقه، معيار تفرد، وعندما يعلن أحدهم إنَّّه لا يعرف شيئاً عن حدث بعينه، فقد يؤول قوله إلى أنَّ الموضوع المتناول ليس بذي شأن، معرفة البعض بأمر ما توازي اعترافاً به، فإذا غابت المعرفة، انعدم أثر الاعتراف، وغدا وجود الشيء من أصله موضع شك.. هكذا حصل عندما تواجد حولنا أناس متمرسون في لعبة التغاضي، حضر هؤلاء ولم نفطن لضرورة تجاهل حضورهم الصاخب، الأصح أنَّنا لم نجرؤ على ذلك، فصاروا من الحقيقة بمثابة المركز من الدائرة، صدَّقوا أنفسهم، وذلك بعض المشكلة، أمَّا المشكلة الحقيقية فهي أنَّنا صدَّقناهم، وربما بأكثر مما فعلوا مع أنفسهم. هكذا كان علينا أن نعيد تكييف أنفسنا مع مستجدات متمردة على القاموس التقليدي للمعرفة، وأن نتعايش مع أحداث وشخصيات خارجة على النصوص المقررة، والأخطر أن نبدي انسجاماً مرتبكاً مع غرائب شتى يقترحها علينا دعاة التجاهل، صارت المعرفة نقيصة إذا لم تتسق مع وعي مهيمن تفبركه عقول باردة في أروقة ضيقة، وصار بعضنا يخشى أن يُلقى عليه القبض متلبساً بمعرفة ما يقع تحت طائل التغاضي والنسيان، وصرنا نتبارى في إعلان براءتنا من كل معرفة خارجة على ضوابط الزمن الجديد.. هكذا نسينا الأسماء العتيقة الموحية بعبق الاصالة، نسينا الملامح المتقدة بعفوية ونقاء، نسينا العيون المتباهية بصدق نظراتها، نسينا الأغاني الناضحة بألق الذكرى، واستعضنا عن كل ذلك بتعابير هجينة لا تقبل تصريحاً أو تلميحاً. انكشمت الايدي، وصمتت الحناجر، وتراجع تواضع المعرفة أمام صفاقة جهل معتد بذاته. علي العزير
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©