الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أسدُ الماء

أسدُ الماء
5 مايو 2016 03:33
د. عارف الشيخ جاءت كلمة النهّام من مادة نهَم بفتح النون والهاء، ففي لغة العرب نهم الأسد أي صوّت، ونهمت القدر أي غلى ماؤها فصوّتت، ونُهِم بالشيء بضم النون أي أولع به فهو منهوم أي مولع به، ولعلّ النهّام بفتح النون وتشديد الهاء من نُهِم أيضاً، لأنه مولع بنوع من الطرب والغناء. والنهّام في الأصل هو مطرب شعبي يرافق البحّارة على ظهر السفينة في أثناء الخروج إلى الغوص، مهمته الترفيه عن البحّارة طول فترة رحلتهم البحرية الشاقة. فالبحّارة يواجهون أهوال البحر، ويتعرضون لإحباطات تحتاج إلى من يشجعهم ويرفع من معنوياتهم ليتمكنوا من مواصلة الرحلة والعودة إلى أهاليهم بسلام وغنيمة. نعم... النَهمة غناء والغناء ارتبط بالإنسان منذ يومه الأول؛ لأنه كما يقول علماء النفس تنتج عن رغبة في مقاومة الطاقة لدى الإنسان أو استفزازها أو إشغالها. ولماذا المهنيون في كل مكان من نجار وحدّاد و زراع وبنّاء وبحّار وسقّاء وغيرهم احتاجوا إلى الغناء الترويحي؟ لأنهم يبذلون جهداً عضلياً يحتاج إلى تسخير حواس صاحب المهنة إلى اتجاه ما يبذل، والغناء في هذه الحالة حركة فسيولوجية تكمن في دفع الهواء خارج الصدر نتيجة تعرضه للضغط من جراء الأفعال البدنية أثناء إنجاز عمل مّا. إذن الغناء حركة ذكية لإلهاء العقل عن التفكير في التعب واستحضار الفرح، وقد تعددت الأغاني بتعدد المهن، ومن هذه الأغاني غناء النهّام، وهو مغني البحّارة الذي استمد ألحانه من أصوات الموج وهدير البحر وصرير الصواري وفعل الريح في الأشرعة. لذلك فإن النهّام عليه أن يُقيم ليالي السهر لهؤلاء المتعبين المنهكين، وهو طول ما هو يغني يبتهل ويتضرع إلى الله بكلمات مؤثرة بأن يوفقهم ويسهل عليهم الصعب، ويعودوا سالمين إلى أهاليهم وأحبتهم. وربّما النهّام لعب دور رجل الدين أيضاً، فعمل مؤذناً وإماماً للبحارة على ظهر السفينة بجانب كونه مغنّياً يرفّه عنهم، وقد رأينا أن غناءه لا يذهب بعيداً عن الدين فهو في غنائه يدعو ويبتهل إلى الله تعالى؛ لذلك فإنهم يختارون لهذه المهنة صاحب الصوت الشجي والقوي والعالي مثلما يجب توافره في المؤذن. وفي الإمارات، لم يشتهر كثيرون في هذه المهنة بخلاف البحرين والكويت وقطر والمنطقة الشرقية من السعودية، لكن يجب أن لا ننسى القول بأن جمعة فيروز (بوسماح) هو آخر النهّامين في الإمارات ورحل عام 1995، وقد حدّث، رحمه الله تعالى، قبل وفاته عن حياة البحارة، وكيف كانوا يواجهون الجوع والعطش وأهوال البحر والبعد عن الأهل. وكأنني قرأت فيما كتبه الكاتب مرعي الحليان: أن ابن فيروز بصفته نهّاماً كان يخفف عن البحارة بقوة حنجرته الكثير من التعب، وقد أحسن الأستاذ عبدالعزيز المسلم والمؤلفون الآخرون معه عندما كتبوا عن «بوسماح» وغيره في كتاب أصدرته إدارة التراث بالشارقة عام 2003 بما يستحقونه من إشادة. ومن الأغاني التي رددها البحارة قديماً ما سجله «بوسماح» بصوته قبل أن يتوفى وهي: بتينا... بتينا... بتينا يا زعولة بتينا... بتينا... غم على الحاسدين اطلعي... فوق فوق اطلعي يا أم العجول اطلعي من العام لول اطلعي ما فيك عوق فالنهّام بشكل عام وهو مغني البحر قد لعب في فترة ما قبل اكتشاف النفط دوراً اقتصادياً واجتماعياً ووجدانياً وأدبياً مهماً بصوته وكلماته المعبرة ولحنه الحزين. نعم... كانت لكلماته التي يختارها للغناء الترفيهي عن هؤلاء المتعبين عدة جوانب تأثيرية منها الديني وربطهم بالله تعالى في وقت الشدة، ومنها الاقتصادي، فالمجتمع بكل طبقاته كانوا يعيشون على اللؤلؤ وثروات البحر، ومنها الاجتماعي، حيث كان من الواضح أن المطلوب تكاتف الجميع من أفراد طاقم السفينة بقيادة النوخذة الذي لم يكن يرحم المتهاون والمقصر في أداء واجبه في العمل الذي أسنده إليه على ظهر السفينة. لذلك فإن المواويل البحرية الشجية الحزينة في الغالب كانت غنية بالمعاني السامية والمحمّسة على العمل الجماعي والتعاون والتكاتف. ولا أنسى أن أقول، إن لفظ النهّام في عرف البحارة ربما أرادوا به الأسد، فالنهّام كان يفعل فيهم بصوته القوي مثل ما يفعل الأسد في الغاب بزئيره، فهو عندما كان ينطلق بصوته كان يفتح عليهم بمواويله صندوق الآلام، لدرجة أن النهّام كان يبكي أحياناً ويبكي الآخرون.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©