الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اختراق ستارة الكون

اختراق ستارة الكون
23 فبراير 2011 19:50
في البداية لابد أن نعرف أمراً مهماً، وهو أن المسرح يحتوي على ثلاثة جدران، أما الجدار الرابع فهو ذلك الحاجز الوهمي الذي يمكن تصوره بين الجمهور والأداء على الخشبة. وخرجت علينا نظرية كسر الجدار الرابع بأن نزل الممثلون الى خارج الخشبة ليكونوا بين الجمهور ليتماهى عالم الواقع بعالم الخيال، وفي أحايين كثيرة ترى الممثل وقد خرج من بين الجمهور ليعتلي خشبة المسرح ويندمج في النص عابراً الجدار الوهمي الذي ظل لقرون عديدة فاصلاً بين الممثلين والجمهور، فاصلاً بين الحقيقة والخيال، بين الواقع والافتراض. لكن أن نشاهد عملاً مسرحياً وقد وضع أمام جدار المسرح البعيد، العميق جداراً آخر شفافاً يميل إلى الاسوداد فإنه افتراض ذو دلالة من داخل العمل الفني، أملته معاني العمل، وتأويلاته، ولذا من المنطقي جداً أن نتساءل عندما تنفتح ستارة المسرح السوداء ونجد الممثلين وقد التصقوا بالأرض، ثم نرى ستارة شفافة قبل الجدار الثالث العميق ونرى ممثلاً خلفه يحرك الستارة الشفافة لتعطي دوائر ودوامات تتسع من قبضته المتحركة حتى مجمل الستارة الشفيفة، كل ذلك لا بد له من معنى. من الضروري أن تتشارك الموسيقى في خلق عالم المعنى، والمشهد يضم ستارة شفيفة سوداء أولاً و 7 راقصين ملثمين بشكل دائري أمام الستارة وممثل يحرك بيده الستارة لتعطي دوامات أشبه بدوامات الريح على الرمل. هنا نبدأ بالتأويل، ولكن قبل أن نستقر على معنى واحد نستكمل تصوراتنا للعمل برمته كي تكون الدلالة التي نتوصل إليها صحيحة. ذلك بداية ما شاهدناه في العمل المسرحي الراقص “الطريق العمودي” الذي قدمه مصمم الرقصات العالمي البريطاني من أصول بنغالية أكرم خان والذي أنتجته هيئة أبوظبي للثقافة والتراث بالتعاون مع مسرح كيرف ـ ليستر البريطاني وسادلرز ويلز في لندن ومسرح المدينة في باريس والمركز الوطني للفنون في أوتاوا وميركيت دولي فلور في برشلونة، وأدى الرقصات 8 راقصين هم يولياليا فارو وكونستاندينا ايفيتسيمادو وصلاح البروجي وأحمد خميس ويانغ جين كم وتشينغ لين وأندريه بيتروفيتش وبول زيفكوفيتش، منهم 7 راقصين كجوقة وراقص ثامن هو “الكاهن”، واستمر العمل 75 دقيقة متواصلة وبدون فواصل زمنية. وقام بالتلحين نيتين سوهين وللإضاءة ياسير كونغشوغ وكتب النص روث ليتل. وفي التصورات الإخراجية أكرم خان وكيمي ناكانو وجيسير كونغشوغ. الموت والحياة أشعار العمل المسرحي الراقص “الطريق العمودي” من نصوص الفيلسوف والشاعر الفارسي جلال الدين الرومي: “متُّ من جماد وأصبحت نباتاً ومن حالة نبات، مت وأصبحت حيواناً.. مت من حالة حيوان وأصبحت إنساناً إذاً، لمَ الخوف من الزوال عبر الموت؟ تالياً سأموت مطلقاً لي أجنحة وريشاً كما الملائكة بعدئذ صاعداً أعلى من الملائكة ما ليس في وسعك تخيله سأكون أنا” هنا يمكن، ومن خلال هذا النص الشعري للشاعر جلال الدين الرومي أن نكتشف ماذا تعني الستارة الشفيفة التي يقف خلفها شخص، يحركها فتنطلق دوامات متصاعدة، أنها وبحسب القصيدة الحد الفاصل بين الموت والحياة، فهو ـ الراقص خلفها ـ يحاول أن يجد له ثقباً ليخرج من خلاله من عالم الغياب إلى عالم الحضور، ونتساءل: هذه القصيدة خارج النص وليس جميع الحضور قد اطلعوا عليها، بل إن الحضور لم يعرفوا أن أكرم خان قد استفاد من جلال الدين الرومي، إذاً يبقى التأويل خارج المسرحية ليس فاعلاً في تفسير طبيعة ودلالة الحركة ولا الستارة ولا الإضاءة. استمر البحث عن ثقب في الستارة ما يقرب من 5 دقائق، وصاحب ذلك ارتفاع في الموسيقى والطبل بخاصة هذا بالإضافة إلى سكون الراقصين السبعة بوصفهم جوقة سوف تبقى حتى نهاية العرض مؤدية ذات المعنى دون تفكيك هذه الكتلة ـ الجوقة ـ لتؤدي معاني أخرى. يحاول الكاهن أن يخرج من وراء الستارة بوصفه إنساناً وليداً، ضمن عالم معتم وموسيقى تصخب أكثر، وثمة عويل وصراخ يندمج بالموسيقى، والملل يتسرب إلى هذا المشهد الذي يوحي عبر ضربات الطبول الأفريقية بأن ولادة محتملة سوف تنكشف. 7 سماوات المعنى الأول المحتمل أن أفراد الجوقة السبعة يمثلون 7 سماوات، وهو معنى يمكن الاستدلال عليه من خلال ديكور المسرحية، حيث انتشرت الغيوم في سماء المسرح، وثمة ابتهالات وتضرعات بدأت الجوقة في تنفيذها للإشارة والرمزية والدلالية على كونية الحركات التي تقوم بها الجوقة في خطاب إلى السماء، وهذا البعد الفلسفي الذي أراده أكرم خان من هذه الحركات عبر تسمية عنوان المسرحية “الطريق العمودي”، الذي هو الخط الذي يربط الإنسان بالسماء تجسد في المسرحية عبر ضوء ساقط من أعلى المسرح حتى خشبته، والذي عادة ما تقف تحته الجوقة، رافعين رؤوسهم وأياديهم، باسطين أكفهم إلى السماء المعلقة عند مسقط الضوء. تستمر التضرعات والابتهالات لأكثر من 15 دقيقة، في مشهد شابه الكثير من التكرار في الحركة والرقص غير الدالة إلا على معنى الولادة والحياة بما يقابل العدم والموت. نعم.. هناك براعة في الرقص وسرعة في الأداء، ولكن كيف أوصل فكرة الرقصة أو ثيمة الحكاية بأسهل الطرق. هناك مشاهد راقصة لم نعرف دلالتها سوى أنها تندرج ضمن ما هو ديني، كوني. كان صوت الطبول عالياً، وظل الضوء لفترة طويلة غير متحرك، ثابت في مكانه، وكان بالإمكان التلاعب به مع الحركة ليخلق معنى جديداً غير المعنى السماوي الذي تحدثنا عنه. حاول أكرم خان أن ينقل الرقصات من نمطها المتكرر إلى نمط جديد، شرقي، إسلامي وذلك بأن أدخل رقصة “التنورة” المغاربية والتي عرفت في المولد النبوي في مصر. وعبر هذه الانتقالة نشعر بتغير الفكرة ونموها، ويحاول ثانية بأن يتلاعب بالضوء ويحوله من عمودي ساقط إلى أفقي ممتد وبذلك لابد أن يحول مغزى الحركات الراقصة التي بدت وكأنها صراع شعب “الجوقة” ضد طاغية “الكاهن أو الحاكم”، ويشتد الصراع انتصاراً وانهزاماً عبر توظيف للريح التي بدأت تعول خارجة مع الموسيقى. دلالة الصراعات كل ما يجري هو في إطار صراعين هما: أولاً: صراع جماعي بين الجوقة والحاكم أو الكاهن. ثانياً: صراع ثنائي بين قائد الجوقة والحاكم أو الكاهن. عندما تتصارع الجوقة والحاكم لا نجد حواراً، بينما عندما يتصارع قائد الجوقة والحاكم نجد حواراً، الحوار ليس في أداء الرقصة بل بالإشارة اليدوية.. هنا يعتمد أكرم خان على الإثارة الأدائية باستغلال لحركات الصم والبكم. نعم.. هناك براعة في التحكم بالجسد وبسرعة الحركة إلا أن الدلالة غائبة، ويشتد الصراع ويسحب الشعب ضحاياه، ضحية وراء أخرى، وحزن هائل وظلامية مسيطرة ووجع جماعي وتألم كلي وزحف على البطون الجائعة لا ينتهي، وكأن أكرم خام يرمز إلى عذابات شعوب منذ بدء ولادة الخليقة باستخدامه للآلات الشرقية والطبول الأفريقية وريح تعول في البرية. لقد قدم أكرم خان لغة الجسد وكان هذا واضحاً، ولكنه عندما حاول أن يقدم نصه القصصي ـ الحكائي ـ أو ثيمة الموضوعة لم يستطع وأظن أن المتلقين لم يصلوا إلى معنى الحركات ودلالاتها. لنتذكر أن جميع الباليهات تبدأ من دون جوان، وبحيرة البجع، وروميو وجولييت، والأعمال الكبرى في العالم، كان المتلقي يأتي إلى المسرح وقد عرف ماسوف يدور في النص المسرحي من قصة، أو أنه يقرأ القصة ببضع كلمات في “بروشور” أو كتيب العرض قبل أن يدخل مع النص المسرحي الراقص الذي أمامه في حوار تأويل الحركات.. هذا لم يحدث في مسرحية “الطريق العمودي”. المشهد متواصل.. الديكور لم يتغير، والمعنى النصي كتلة واحدة، والرقص لم يتغير والحركات منوعة على ما يقرب من 10 أشكال والدلالة مغيبة سوى بعض الإشارات التي نستدل على معناها من خلال مخزوننا الفكري أو المعرفي من مثل رفع الأيدي في إشارة إلى زهرة اللوتس الفرعونية، والتضرع بالسجود وتقديم الطاعة والخوف من الريح، والهزيمة، وحركة صراع القتال في التشكل الثنائي، ومواطن الكر والفر في المسرحية بدت واضحة.. ولكن أين القصة؟ وما هي؟.. لا نعرف. ثنائيات النص لم يتغير عدد الراقصين السبعة وحاكمهم الذي يدير هواجسهم وأحلامهم وهم يبحثون عن الخلاص الذي لم يصلوا إليه.. هناك خلاص أفقي من صراع مع الآخر وخلاص عمودي في ابتهال إلى السماء البعيدة. انقسم الأداء إلى أداء ثنائي وأداء جماعي، كان الأداء الثنائي يشد الانتباه وهو الذي يحتوي الحكاية، أما الأداء الجماعي فهو تعبير عن الطقوس التي تمارسها “الجوقة”. الأداء الجماعي أفقي والأداء الثنائي أفقي وعمودي لمرة واحدة حيث رفع الحاكم إحدى الراقصات إلى الأعلى لمرة واحدة فقط. ومن الملاحظ أن النص قد اشتغل بقوة على المؤثرات الصوتية في محاولة لمطابقتها مع الحركة وهنا محاولة للبحث عن حالة تطابق: الحركة/ المؤثر الصوتي. في المقابل هناك اشتغال على حالة تنافر: الضوء/ الظلمة. ويستخدم أكرم خان الفلاش لخلق فسحة ضوئية ضيقة بين فتح المصباح وغلقه المفاجئ في دلالة.. لم أستطع حقاً التوصل إليها. امتزجت في النص عوالم فرعونية وفارسية وإسلامية ضمن موسيقى شرقية واضحة يتخللها طبول أفريقية وأصوات عويل وابتهالات وتضرعات. ويركز النص على الجزء وينشغل به فيما يقف الكل متسمِّراً بانتظار انتهاء الجزء من مشهده الحركي، الجزء هو الثنائي والكل هو الجماعي، وهذا قد خلق خللاً في المشهدية الكبرى. الاشتغال على الجزء “ثنائي” يقود إلى تحفيز ثالث للدخول في الرقصة ثم يقود إلى تحفيز رابع وحتى يصل العدد إلى الاكتمال وهو السابع حيث تنطلق الرقصة السباعية وهذا بالطبع يستغرق وقتاً. احمرار للشفق يستخدم أكرم خان ضوءاً أحمر للتعبير عن روح الشمس الآتية من وراء الستارة الشفيفة، عتمة كاملة وضوء أحمر كأنه ضوء شمس آتية، لاحظ هنا الفعل الفرعوني ـ الارتحال نحو الحياة الأخرى إلى الشمس ـ وعبر مؤثرات تصويرية عالية يدخل الراقصون السبعة إلى هذه الحياة حيث تتحول الصورة كرمز ما بين الحياة والموت إلى أجساد تكبر وتصغر باستفادة من مفهوم الأجسام الفضائية والسينما الأميركية الجديدة على مسرح أكرم خان. حجوم الأجساد صغيرة تكبر، رؤوس صغيرة تكبر، وترتحل الأشباح إلى عالم سماوي هو الطريق العمودي. وهنا تصبح الأجساد ظلالاً خلف سماء محمرة في غسق يؤدي إلى المجهول ويبقى الإنسان باحثاً عن الخلاص، عن خلاصه، ويظل الحاكم راقصاً لوحده تحت الضوء الساقط من أعلى المسرح وصوت الموسيقى يتعالى في محاولة للتعبير عن التوسل إلى ما هو كوني، من أجل خلاص هذا الحاكم أو الكاهن من محنته، وحين يتجه إلى الستارة الشفافة يمد اصبعه نحوها ليحفر ثقباً فيها، من أجل عودته إلى الحياة الأخرى التي ابتدأ منها أول المسرحية، ترى الستارة تسقط فجأة عند لحظة لمسه لها وكأن ثمة ارتحالا مزدوجا، وهو ارتحال في أول المسرحية من الموت إلى الحياة وارتحال في آخر المسرحية من الحياة إلى الموت. ومن الغرابة أن يقول أكرم خان معلقاً على المعنى الدلالي للستارة الشفيفة بأنها غشاء أو استعارة لا تعنى شيئاً محدداً، وكأننا نتساءل لماذا استخدمت في البدء وفي النهاية إذاً؟ وعن الطريق العمودي والآخر الأفقي ينفي أكرم خان هذا التأويل الذي أدرجناه حيث يعتبر المعنى متعلقاً بالوقت والزمن حيث يرى أن الوقت الغربي أفقي وأن الوقت الشرقي عمودي، حيث يمثل الوقت معنى الموت والمواسم. أما أفقية الوقت الغربي لأن الغرب منشغلون بالعلاقات الدنيوية بينما يدل الوقت الشرقي العمودي على انشغال الشرقيين بالعالم السماوي وأعتقد أن هذا يقود إلى الدلالة نفسها التي تحدثنا عنها أو يقترب منها بكثير. يعتبر أكرم خان أحد أشهر مصممي الرقص من بين أبناء جيله الذين يعملون في بريطانيا اليوم، ولد في لندن لأسرة ذات أصول بنغالية، وبدأ الرقص في سن السابعة ودرس على يد راقص ومعلم الكاثاك الشهير براتاب باوار. بدأ بتقديم عروض فردية من أعماله في تسعينيات القرن الماضي، محافظاً على التزامه بالكاثاك الكلاسيكي، فضلاً عن تطوير أعمال أدائية معاصرة، في أغسطس 2000، أسس فرقة أكرم خان للرقص مع المنتج فاروق تشودري، التي وفرت له منصة للإبداع ولعرض تشكيلة متنوعة من الأعمال عبر التعاون مع فنانين من حقول أخرى. يعمل حالياً فناناً مشاركاً في مسرح سادلرز ويلز، جاب خان أنحاء مختلفة من العالم في عمله الأخير “إن ـ آي”، وهو دويتو مع الممثلة الفائزة بالأوسكار جولييت بينوش وبتصميم بصري من أنيس كابور، وحظي “باهوك”، العمل الذي قدمته فرقته وتم إنتاجه أساساً بالتعاون مع الباليه القومي الصيني، بإشادة واسعة وأكمل جولته العالمية في مايو 2010. ومن بين أبرز الأعمال التي قدمتها فرقته في السابق “كاش” (2002) وهو عمل تعاونت فيه فرقته مع الفنان أنيش كابور والملحن نيتين سوهني، و”ما” (2004) الذي قدم نصه حنيف قرشي. ومن أعماله الأخرى “وحوش مقدسة” الذي يقدم راقصة الباليه سيلفي غييم، و”درجات صفرية” بالتعاون مع سيدي العربي الشرقاوي وأنطوني غورمليه ونيتين سوهني، و”تباينات” بإنتاج مشترك مع سيمفونيتي لندن احتفالاً بالذكرى السبعين لميلاد ستيف ريتش. في 2006، دعته كيلي مينوغ لتصميم رقصات لأحد أجزاء مسرحيتها الموسيقية “فتاة استعراضية” التي تم افتتاحها في أستراليا خلال نوفمبر من ذلك العام. تلقى خان عدداً من الجوائز خلال مسيرته الفنية بما فيها جائزة هيلبمان المرموقة في أستراليا لأفضل تصميم راقص (درجات صفرية) في 2007 ونال فيها خان جائزة أفضل راقص. كما تم تكريمه بلقب “عضو في الإمبراطورية البريطانية” عن أعماله في الرقص عام 2005 وبدرجة الدكتوراة الفخرية في الفنون من جامعتي روهامبتون ودو مونتفورت
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©