الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

معارك ثقافية وشخصية وراء الحجب

معارك ثقافية وشخصية وراء الحجب
28 مايو 2009 01:19
بدأ المؤلف التونسي حسن أحمد جغام بإهداء كتابه: «مذكرات ناشر» إلى من سمّاهم بـ»الفاشلين، الذين لم يدركوا أنّّ الفاشل الحقيقيّ هو من يحقّق أهدافه بالوسائل الرّخيصة..». وفي ردّ عن سؤال طرحه على نفسه لماذا هذه المذكرات؟ أجاب: «أمّا ما دفعني إلى التعجيل في إصدارها هو أنّني تعرّضت إلى عدد من العناصر الفاعلة في الساحة الثقافيّة التونسية ـ سلبا وإيجابا ـ فكان عليّ أن أترك لهؤلاء فرصة الاطّلاع على ما ورد في الكتاب، خاصة أنّ منهم من تقدّمت به السنّ حتى لا أتّهم بالافتراء على الراحلين». والمؤلف ناشر معروف وصاحب دار نشر عريقة وكبيرة هي «دار المعارف»، ولقد علل اختياره عنوان «المذكرات» لكتابه بقوله: «لأنه خليط من الاعترافات والمذكرات»، مضيفا: «أردت أن أكشف أباطيل لا يزال بعضها يتحصن بأقنعة الزيف... وعزمت على مجابهة كل مظاهر النفاق والانتهازية المتغلغلة في الساحة الثقافية التونسية وكذلك على كل من بالغ في الإساءة إليّ». وقد كشف المؤلف فعلا في مذكراته (639 صفحة) عن تصرف بعض الشخصيات معه ومن بينهم مفتي الديار التونسية سابقا، ووزراء سابقون للثقافة، وبعض من تولوا مناصب هامة في أجهزة الدولة، وقد تعرض لهم بالنقد اللاذع وصل حد السخرية أحيانا، ويصحّ القول أنّه كتاب جريء، والمؤكد أن المؤلف يصفّي حساباته مع من تعرضوا لمصالحه كناشر، ولم يرحم كل من كان سببا له في خسائر مادية أو نافسه منافسة غير نزيهة في عمله. كما انتقد الرقابة على الكتب. ومهما يكن من أمر فإن الكتاب شهادة نادرة على صفحات من الحياة الثقافية في تونس من خلال سرد لأحداث حصلت للناشر نفسه، وقد أتى على ذكرها بالتفصيل شارحا وجهة نظره ومنتقدا حينا وناقدا حينا آخر للعديد ممن اصطدم معهم لسبب أو لآخر. وقد أثار الكتاب ردود فعل كثيرة جاءت في مقالات مطولة نشرت على أعمدة صحف ومجلات تونسية دافع فيها أصحابها عن أنفسهم وكشفوا عن معطيات مخالفة أحيانا لما جاء على لسان صاحب المذكرات، ويقال إن بعض من استهدفهم المؤلف رفعوا شكاوى به إلى القضاء بتهمة الثلب والشتم وذهب أحدهم ـ في رده عليه ـ إلى حد نعت المذكرات بأنها «كتاب غش ودسّ». والحقيقة أن التونسيين لم يتعودوا على مطالعة مثل هذا الكتاب الذي تم وصفه بـ»الهام والمثير» حينا و»الكتاب العدواني» حينا آخر. ويقول عبد الواحد براهم، وهو ناشر سابق، في تعليق له على الكتاب: «إننا لم نألف مثل هذا البوح العلني بل تعودنا على مقابلة الإهمال بالاستكانة، نتحاشى النقاش والمساءلة ونتناقل الحديث في المقاهي، إننا خائفون من إبراز ما نعتقده صوابا إلى النور. ربما يختار أغلبنا هذا السلوك، رغم أن تراثنا عامر بأدب المحاسبة والمعاتبة والنقد، مليء بقصائد الهجاء القاسية من المتنبي إلى نزار قباني، كما سالت به أقلام جليلة القدر، ليس أقلها قلم التوحيدي في كتاب: «مثالب الوزيرين». مع سماحة المفتي في الفصل الأوّل الذي عنوانه «بين يدي سماحة المفتي» وخصّص له المؤلف 70 صفحة تعرّض فيه بالتفصيل والاستطراد إلى حادثة حصلت له مع مفتي الديار التونسيّة سابقا محمد المختار السلامي. وخلاصة القصة أن المفتي السابق ـ حسب ما جاء في الكتاب ـ تقدم في عهد حكومة السيد محمد مزالي، حين كان وزيرا أول، بمشروع قانون يقيّد بيع وشراء وطبع ونشر وتوزيع المصاحف في تونس، وقد تجمّد مشروع المفتي لسنوات، وفي فترة لاحقة وجد المفتي نفسه ـ وفق رواية المؤلف ـ «في حظوة مميزة ولا يرد له طلبا ، فبدأ يمهد من جديد لإحياء مشروعه المقبور فكان له أن يبحث عن صيد سهل غير شرس يكون وقودا لطبخة أحياء مشروعه»، على حد تعبير صاحب المذكرات. ويفهم من القصة أن حسن أحمد جغام نشر مصحفا للقرآن الكريم وان المفتي وقتها أراد عرقلة توزيع المصحف ـ لغاية في نفسه ـ فأصدر أمرا بمنع توزيعه لأسباب يراها الناشر أنها مفتعلة وواهية، وألحق به بسبب ذلك خسائر ماديّة كبيرة، وسعيا للحصول منه على إيضاحات اتصل به في مكتبه وكان مرفوقا بموظفين اثنين من الوزارة الأولى ـ وهما من أصدقائه ـ وقد روى بعض ما حصل في تلك الجلسة قائلا: «في صباح أحد الأيام شهر أبريل 1986، كان لقاء مثيرا، تسوده الرهبة والرعب أيضا... لقد خرجت من ذلك اللقاء أحمل في قلبي حزنا ثقيلا، وفي عقلي دروسا من النوع الذي لا يتلقاه الإنسان إلاّ من محن كبرى، لقد كان في بدايته لقاء ترحاب في ظاهر ولكنّه سرعان ما امتزج بمؤشرات تمهّد إلى تصعيد عدواني، لا يختلف كثيرا عن ذلك الحوار الذي تمّ بين الذئب والحمل تمهيدا لالتهام الأوّل للثاني». تنفيس عاطفي والحقيقة انه أمر نادر في كتب المذكرات التونسية ـ وهي قليلة ـ ان يأتي الكاتب على ذكر احد المسؤولين السياسيين او رجال دين بمثل الحدة التي روى بها الناشر ما حصل له مع الشيخ المختار السلامي. يقول: «لا أدري كم مضى من وقت على وصولنا إلى مكتب المفتي وحين وصلنا تبيّن لي أنّه كان متهيّئا للقائنا، كان على بابه حارس عملاق أنيق أبيض كأنّه من سكان شمال أوروبا تدلّ هيئته على صرامة وحزم، وبمجرّد أن اقتربنا من الباب مدّ يده بحركة أوتوماتيكيّة ليفتحه دون أن تتحرّك قدماه من مكانهما، ممّا يدلّ على أنّه تلقّى تعليمات قبل وصولنا. بدأ المفتي كلامه بعد أن أمهلني خمس دقائق احتسيت فيها القهوة التي قدّمها لي وهو لا يدري أنّ مفعولها زوّدني بشحنة من اليقظة والانتباه وقوّة أعصاب فولاذيّة لمجابهة كلّ ما سيحدث من مواقف واحتمالات، وحين بدأ المفتي حديثه كانت تقاسيم وجهه تتغيّر بين اللحظة والأخرى بالسرعة التي يتغيّر بها وجه طفل: نظرة جادّة تتحوّل إلى جاحظة، تعقبها ضحكة يهتزّ لها جسده الخفيف وتتحوّل نظراته فيوزّعها بيننا الواحد بعد الآخر». وقد علق عبد الواحد براهم على هذا الفصل بقوله «إنه تضمن شروحا مطولة وتنفيسا عاطفيا يبدو ان المؤلف كان في حاجة اليه». ومن فصول الكتاب الأخرى: «عضو في مجلس النواب يقاضيني بتهمة الثلب»، و»وزارة التربية تتهمني ووزارة البيئة تسلبني»، و»رئيس اتحاد الناشرين يستغل وظائفه المتعددة»، و»وقفة عابرة عند نماذج بشرية»، و»نهرجون يمارسون النقد»، وإدارة بلا ضوابط». وهذه العناوين تدل على فحوى تلك الفصول وما تضمنته من نقد لاعوجاج في هذا الجانب أو ذاك وكشفا لانحرافات أو تقصير هذا أو ذاك و من بين أكثر الفصول شراسة فصل عنوانه «الرصاصة القاتلة لجدانوف تونس» وهو فصل بدأه بقوله: «حين أرى ما كان يقوم به انس الشابي من عبث بالثقافة والمثقفين التونسيين، تخطر في بالي صورة «الديماغوجي» السوفياتي «جدانوف» الذي سخر قلمه وجعله لقمع المفكرين السوفيات المعارضين وإعدامهم بكل المبررات»، مضيفا: «ان انس الشابي كان يمثل صفحة سوداء في الحركة الثقافية التونسية في التسعينات من القرن الماضي، او غمامة عقيمة، من حسن الحظ انها مرت دون رجعة وانتهى أمرها.. ولكن ما تركه من آثار سيئة في نفوس الكثير من المثقفين، ظل مؤلما لم تمح آثاره» علما وان انس الشابي تولى في فترة سابقة مهمة مراقبة المنشورات بصفته ملحقا بوزارة الداخلية. يقول المؤلف: «شاءت مهنتي ان أتعرف على انس الشابي عن قرب، وبعد لقاءات عديدة وحوارات مختلفة، اتضح لي انه يخلو من أي مبدأ، بل تأكد لي انه يمارس وظيفته بنفسية حاقدة على الجميع، لا غير». وقد رد أنس الشابي في مقال له بقوله «إن حسن جغام كان متسرعا فاعتقد واهما ان تحويل حانوت قرطاسية الى دار نشر يكفيه للاستحواذ على اسم «دار المعارف» المصرية بما تحمل من تراث». وقد دافع أنس الشابي ـ الرقيب على الكتب سابقا ـ عن نفسه مؤكدا انه لما طالع الكتاب «هاله الكم الهائل من الشتائم التي طالت الأحياء والأموات بسبب وبدون سبب» حسب قوله. من يزرع الشوك ولم يسلم أحمد خالد وزير الثقافة التونسي سابقا من سهام المؤلف الذي خصص له فصلا كاملا عنونه: «ومن يزرع الشوك يجني الجراح». وقد وصف الوزير السابق قائلا: «انه لا يعرف كيف يكسب أصدقاءه، لقد جربته أكثر من مرة، و كلما نال منصبا كبير الا وبادر بقطع صلته بأصدقائه». وروى المؤلف ان احمد خالد اغتنم ظروف عزل محمد مزالي من الوزارة الأولى، وكان البشير بن سلامة وزيرا الثقافة آنذاك محسوبا عليه ليقول عنه ما يشاء، «فكتب احمد خالد الذي كان مدير ديوان الوزير بن سلامة تقريرا مطولا فيه للرئيس بورقيبة، يتضمن رواية ملفقة ليتهم فيها البشير بن سلامة بكثير من الافتراءات الخطيرة، لغاية توريطه والايقاع به». وقد ذكر البشير بن سلامة للمؤلف انه تعرض للتحقيق العدلي بسبب تلك الوشاية، ولكنه خرج منها بريئا من كل التهم التي نسبها اليه احمد خالد. ويعلق المؤلف في شبه شماتة: «وتمرّالأيام، وتتقلب الأجواء، فيجد احمد خالد نفسه من بين بعض المتسكعين، لا دور له ولا وظيفة.. عندئذ التفت حوله فلم يجد صديقا يرافقه، مما جعله يترصد أصدقاءه القدامى الذين نفروا منه وابتعدوا عنه». وخصص المؤلف فصلا للحديث عن مشاركته مع 150 من المثقفين العرب في «مؤتمر المعرفة الاول» وقد بدأ بشكر سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم «على تنظيمه هذا المؤتمر معبرا عن تفاؤله بنتائج «مؤتمر المعرفة الأول» الذي نظّمته «مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم» مؤكدا: «أنّه سيسدّ الثغرات، بل سيسجل صفحة ذهبيّة في تاريخ الثقافة العربيّة الحديثة، إذ هو في نظري حدث تاريخي لا يقلّ أهميّة، عمّا قام به الخليفة العباسي المأمون حين أعطى فرصة للمثقفين وشجّعهم بكلّ قوّة على الترجمة، فتنوّعت الثقافة العربية لأوّل مرّة وازدهرت، وأصبحت مشعة على غيرها من الثقافات، بعد أن كانت مقتصرة على العلوم الدينية... إنّ تخصيص مبلغ عشرة مليارات دولار أميركي ليعود مردود استثماره في دعم المعرفة، أمر بالغ الأهميّة، سيحقّق الكثير للثقافة العربيّة».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©