السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إشراقة الأمل

إشراقة الأمل
20 ابريل 2008 00:10
أيام عصيبة مرت بي، بدأت باتصال مفاجئ، أبلغوني بأن ابني قد تعرض لحادث، كان مع أصدقائه في البر، وقد انقلب ''البانشي'' الذي كان يركبه عدة مرات، مما أدى إلى وقوع إصابات خطيرة في رأسه وجسده، وأصبحت كالمجنونة لا أدري ماذا أفعل· اتصلت بزوجي فوجدت هاتفه مغلقاً، يا الهي!! هل هذا وقته؟ أيغلق هاتفه في مثل هذا الوقت الحرج؟ اتصلت بأخي فجاء إلي مسرعاً وأخذني إلى المستشفى· الدموع تنهمر من عيني طوال الطريق، يا رب سترك·· إنه ابني الكبير·· إنه في الخامسة عشرة من عمره·· لا أتمنى أن يحدث له أي شيء·· وصلنا إلى المستشفى، كان الولد في غرفة العناية المركزة تحيط به الأسلاك وهو فاقد الوعي، سألنا الطبيب عن وضعه، فقال إن حالته خطرة ولكن كل شيء بيد الله· بقيت في المستشفى وقلبي منشطر نصفين، نصف مع ابني المهدد بالموت والنصف الآخر مع بقية أطفالي، أصغرهم عمره سنة واحدة، تركتهم وحدهم في البيت مع الشغالة، وأبوهم لا أعلم في أي جحر قد اختفى· طلبت من أخي أن يأخذ الأولاد إلى منزل أمي حتى تعتني بهم، فلن أستطيع ترك ابني حتى أطمئن عليه· جلست في الممر المقابل لغرف العناية المركزة أختلس بعض اللحظات التي يسمح لي خلالها بالنظر إلى ولدي، ذلك الغالي، حبيب قلبي وهو يصارع الموت وأنا عاجزة لا أدري ماذا أفعل له، ليس بيدي سوى الدموع والدعوات لله سبحانه أن يبقيه لي· بعد يوم وليلة من وجودي في المستشفى اتصل زوجي أخيراً! أين كنت؟ لماذا أغلقت هاتفك؟ قال لي ببرود: قلت لك عندي مؤتمر·· ألم أخبرك بذلك؟ هل نسيت؟ أخبرتك بأنني سأكون مشغولاً لثلاثة أيام في المؤتمر ثم سأسافر بعدها إلى·· قاطعته: ابنك في المستشفى·· حالته خطرة·· تعرض لحادث وهو يركب ''البانشي'' في البر· سكت قليلاً ثم قال: هذا الولد لا يسمع الكلام·· ألف مرة قلت له أن لا يذهب إلى البر·· إنه عنيد جداً·· قاطعته مرة أخرى: ابنك بين الحياة والموت·· تعال بسرعة، سكت مرة أخرى وقال: لا أستطيع·· أنا مشغول جداً·· اطمئني إن شاء الله سيكون بخير·· أنا متأكد من ذلك· لم أجبه·· فماذا أقول له؟ أغلقت السماعة بعد أن غلبتني دموعي وشعرت بأنني وحيدة وغير قادرة على تحمل مثل هذا الموقف لأنه أكبر من طاقتي على التحمل· دعاني الطبيب، تيبست قدماي، هل حدث شيء؟ بصعوبة حركت جسدي ولحقت به، وصلنا إلى سرير ابني، نظر إلي الطبيب وشبح ابتسامة تبدو على وجهه، ارتحت قليلاً وخف توتري، قال لي: اطمئني يبدو أنه سيعيش، الحمدلله·· أشكرك يا ربي، أبقيت لي ولدي، أردت أن أعبر عن فرحتي ولكنني صدمت باختفاء ابتسامة الطبيب، أكمل حديثه: للأسف فإنه لن يستطيع المشي بعد اليوم· لا أستطيع وصف مشاعري في تلك اللحظة، هل أفرح لأن ابني نجى من الموت؟ أم أحزن لأنه سيقضي عمره مقعداً؟ لا أدري ما أفعل؟ فبقيت باهتة أنظر إلى الطبيب كالمشدوهة، ولم أع سؤاله لي: أين والده؟ أين أبوه؟ استعدت قدرتي على الكلام وعلى الكذب فأخبرته بأن والده مسافر·· نعم مسافر إلى مكان بعيد· الوضع المائل كنت أبرر غيابه عن المنزل بألف مبرر، كنت أقول لنفسي: مسكين زوجي·· إنه إنسان مخلص في عمله·· يجهد نفسه بالعمل ليل نهار·· يفعل ذلك من أجلنا ''أنا وأولاده'' يبدو أن المسؤولين لا يقدرون عمله المتواصل، لأنه لم يحدثني يوماً عن ترقية أو زيادة في الراتب، أعانه الله، يقضي نهاره في المكتب وفي الليل يحتاج لمجاملة عملائه والسهر معهم إلى ساعات متأخرة· لم أفكر لحظة واحدة في أنه يكذب علي، فلماذا يكذب؟ هل هو مضطر لذلك؟ هو لا يخاف مني، ما أنا إلا إنسانة ضعيفة لا حول لي ولا قوة، وهو الرجل، ألا يحق له أن يفعل ما يريد؟ المجتمع كله يقف إلى صفه، الجميع يؤيدونه، وإذا فعل أي شيء فإن الكل سيسامحه، فلماذا يخاف؟ هل يفكر بمشاعري؟ والله لا أعتقد، فلو فكر لحظة واحدة بمشاعري لما ضيق علي الدائرة بهذا الشكل، لقد حرمني من التواصل مع الناس، حرمني من رغبتي في إكمال تعليمي، حرمني من كل شيء مبهج في هذه الدنيا، وقال لي: هذا بيتك·· سجنك لا تفكري بمغادرته إلا وأنت جثة هامدة، نفس الكلام ردده والدي على مسامعي عندما غادرت بيت أهلي وأنا عروس، نفس المنطق، الكل متفق عليه· في بداية زواجنا كنت خائفة من سجن الزواج، فقد عشته من خلال حياة والدتي وتحملها لتعامل والدي الصعب معها، وقد سألتها ألف مرة وأنا طفلة حتى كبرت: لماذا لم تهربي؟ فكانت تسكت قليلاً ثم تقول: هذا هو قدري، عشت في هذا البيت وسأموت فيه· كنت أحمل هذه الفكرة عن الحياة الزوجية قبل أن أجربها على أنها قبر أو سجن تتعذب المرأة فيه حتى تموت ولا يحق لها الخروج منه تحت أي ظرف، ثم بعد أن تزوجت وجدت أن زوجي يختلف عن والدي، فهو لطيف وحنون، لم يضربني ولم يشتمني وكان يعاملني بمنتهى الحب والرعاية، حتى أنه كان يأخذني لأماكن كثيرة كنت أسمع عنها وأحلم برؤيتها من قبل، حمدت ربي كثيراً على هذا السجن الجميل وتمنيت فعلاً أن أقضي فيه عمري كله حتى النهاية· بعد سنة واحدة، سنة فقط تغير كل شيء، بالتدريج وأصبح يتغيب عن البيت بحجة العمل، ثم يعتذر·· بعدها أصبح لا يفكر بالاعتذار، فضاق علي السجن وشعرت بأنني سأختنق، طلبت منه أن يسمح لي بالعودة إلى مقاعد الدراسة، فرفض، طلبت منه أن يسمح لي بالتواصل مع صديقاتي، فرفض، وحين وجدني كئيبة سمح لي فقط بالذهاب إلى بيت أهلي· الطائر الجميل جاء الفرج الجميل من عند الله بعد أن وضعت طفلي الأول، هذا الحبيب الغالي الذي أراه ممدداً أمامي وقد أصابه ما أصابه، بمجيئه تغيرت حياتي كلها وأزهرت حدائق بهجتي، كان يلهيني طوال الوقت، طفل مرح سعيد، لديه حركات تخلب العقول، حتى تغير السجن فتحول إلى جنة من جديد، ثم تبعه إخوته، ثلاث بنات وولد، ملأوا حياتي وقلبي حتى لم أعد أتذمر أو أشكو من أي شيء· بقيت أدعو لزوجي بالتوفيق وأجد له ألف عذر لعدم تواجده وعدم تحمله أية مسؤولية في أسرتنا، ولم يمر على بالي لحظة واحدة أنه يخفي شيئاً حتى جاءتني الأخبار، كل الناس تعرف إلا أنا·· كنت آخر من يعلم· في حياة زوجي امرأة أخرى، في الحلال أم في الحرام لا أدري، المهم أنه يظهر معها أمام الناس ولا يخاف ولا يستحيي، لم أصدق·· أو ربما لا أريد أن أصدق، لأنني أخاف من هذا الموقف، إنه يرعبني، يدمر إحساسي بالأمان، وهذا ما حدث فعلاً، فقد عشت معاناة رهيبة، لا أدري ماذا أفعل، هل أواجهه؟ هل أترك له البيت؟ هل أسكت؟ هل أقتله أم أقتل نفسي؟ ماذا تفعل المرأة في مثل هذا الوضع؟ سألت الأخريات·· ماذا فعلتن عندما واجهتن نفس المشكلة؟ كل واحدة أعطتني رأياً فبقيت حائرة، الأفكار تعصف بي، والشعور بالألم يمزقني· الكل متفق على أن أصبر ولا أتسرع وأهدم بيتي، لست ألومهم، فعندما يحدث الطلاق فلا أحد يلوم الرجل، اللوم كله يقع على المرأة، والأطفال وحدهم من سيدفع الثمن· سألت والدتي، طلبت مشورتها، وبدلاً من أن تقف إلى جانبي أخذت تلومني وتشعرني بالذنب، ثم أخذت تعدد حسنات زوجي فجعلته رجلاً مثالياً، لم يقصر في شيء، يقتل نفسه من أجل أسرته، ألا يكفي أنه لم يمد يده يوماً ليضربك؟ وماذا فعلت حتى أستحق الضرب؟ منطق غريب، هو الذي يفعل الفاحشة، وهو الذي يستحق العقاب وليس أنا، هو من تهرب عن مسؤوليته تجاه أسرته، هو من كان يكذب طوال الوقت، أفبعد كل هذا أحمد ربي لأنه لم يكن يضربني؟ أي منطق هذا· فكرت بعقلي لا بقلبي الجريح، فقررت أن أصبر، نعم سأصبر من أجل أولادي، لأنهم يستحقون التضحية، ثم أبعدت زوجي عن قلبي وأسقطته من حساباتي، فهو لا يستحق حبي واهتمامي أبداً، في البداية لم يلحظ تغيري معه، ولكنه مع الأيام لاحظ إهمالي له، حاول أن يعرف السبب فلم أعطه الرد وبقيت متماسكة، فداهمه القلق لشعوره بأنني أخفي شيئاً، واجهني يوماً وحاول أن يعرف إن كنت قد عرفت شيئاً عنه، فلم أناقشه فازداد قلقه، ثم تحول القلق إلى عناد، فصار يبتعد أكثر وأكثر· كنت أتوقع منه أي شيء إلا أنه يسمع بأن ابنه بين الحياة والموت فلا يكترث له، ترى أي قلب أصبح يمتلك؟ هل مات فيه الإحساس؟ ألهذه الدرجة أصبحنا لا نعني له شيئاً على الإطلاق؟ إنه أمر يدعو للعجب· بعد خمسة أيام من وقوع الحادث، وأنا في المستشفى مع ابني، وقد ذهب عنه الخطر ولكن صحته كانت سيئة للغاية، كنت أجلس بجوار سريره وأنا أمسك بيده النحيلة، أنظر إلى وجهه الشاحب ودموعي لا تتوقف عن الانهمار، فجأة وجدته يقف أمامي، جاء أخيراً، وقف كالصنم ينظر بذهول إلى ولده· العودة المتأخرة نظرت إلى وجهه فوجدته مصفراً، اتجه إلى ابنه حاول أن يتحدث معه: ابني·· حبيبي·· أنا أبوك·· هل أنت بخير؟ هل تسمعني؟ نظر إليه الولد بنظرة دامعة ثم أغلق عينيه من شدة الإعياء، لأول مرة أرى دموع زوجي، وانخرط في البكاء مثل طفل صغير، يشهق وينتحب حتى خشيت أن يحدث له مكروه، هل هو متأثر إلى هذه الدرجة؟ لماذا إذن لم يحضر بسرعة عندما أخبرته بما حدث لابننا؟ يبدو أنه لم يصدقني حتى شاهده بنفسه· بعد هذه الحادثة تغير زوجي تغيراً كاملاً، أصبح يقضي وقته كله معنا، صار يستسمحني ويستغفر ربه طوال الوقت· أشفقت عليه وحاولت أن أعود لطبيعتي معه، فلدي شعور قوي بأنه قد تغير، ولكن هنالك سرا لا أعرفه هكذا بدا لي، إنه يخفي شيئاً فكان من الأفضل أن أصبر حتى يخبرني بنفسه· ليتني لم أعرف، فيالها من حقيقة لا يمكن احتمالها، زوجي مصاب بمرض خبيث بمكان حساس من جسده، هذا كثير، إنه فوق طاقتي على التحمل، ابني مشلول وزوجي في خطر، اضطرب عقلي وتفكيري، ولم أستعد توازني حتى علمت بأن هناك أملا في شفاء زوجي بعد علاج طويل، ثم جاءتني البشرى أيضاً بإمكانية شفاء ولدي بعد خضوعه لتمارين وعلاج طبيعي يستغرق وقتاً· حمدت ربي لأنه رحمني وعطف علي، فما دام هناك أمل فإن الأمور ستكون أفضل بكل تأكيد، أعلم جيداً أن كل ما حدث لنا هو بسبب أخطائنا، فابني ما كان سيتعرض لهذا الحادث لولا ولعه بهذه الرياضة الخطرة، وزوجي ما كان سيصاب بمثل هذا المرض لولا عبثه في الحرام، ولكن رحمة ربنا شملتنا فعادت لحياتنا إشراقة الأمل من جديد·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©