الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دون كيخوته بلا رمح

دون كيخوته بلا رمح
26 فبراير 2014 21:19
مات أنسي الحاج. مات الشاعر وبقي ذلك السؤال: «هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة؟» الذي يبلغ من العمر الآن أربعا وخمسين سنة معلّقا من بعده من دون إجابة، والأرجح أنه سيبقى كذلك، والذي افتتح به ديوانه الأول «لن»، هذا الديوان الذي منحته مقدمته اهتماما استثنائيا وشهرة واسعة، ربما لم يحققهما عنوان آخر حمله أي «ديوان» انكتب بقصيدة النثر حتى اللحظة الراهنة. بهذا المعنى، فإن أنسي الحاج لدى كثيرين من أبناء قصيدة النثر العربية من الذين ينتمون إلى آفاقها المعرفية، هو شاعر «سؤال» أكثر مما أنه شاعر «قصيدة». ربما حدث ذلك بسبب أنه ما من شاعر عربي في ذلك القرن، العشريني الطويل أكثر مما ينبغي، بدأ مسيرته الشعرية وقد رفع راية السؤال قبل أن يرفع راية القصيدة ذاتها. وبهذا المعنى أيضا، فإن أنسي الحاج، وبسبب هذا السؤال، قد وصلت إلينا صورته بوصفه شاعراِ جريئاً قادرا على فعل التمرد وأحد القلائل من بين شعراء قصيدة النثر العربية الذين امتلكوا شرط الشاعر المتمرد والقادر على المكاشفة بتمرده، وذلك بحسب مقدمته في «لن»، إذا أُخِذَ بعين الاعتبار طبيعة الظرف التاريخي الذي ظهر فيه السؤال على الملأ وأثر هذا الظرف في الثقافة العربية التي كانت تمرّ بمرحلة حرجة جدا، من مواصفاتها آنذاك أنها تمنع التساؤل ولا تؤمن بالتعدد ولا تتسامح مع النافر والمختلف، على الأقل فيما يتصل من تلك الثقافة بالتجنيس الأدبي للأشكال المتعارف عليها والتي تم تقعيدها في قاعة الدرس الأكاديمي في الأربعينيات والخمسينيات على أسس مستلة من التراث وحده وليس على أساس ما يجري في العصر الراهن أيضا، رغم انفتاح الثقافة العربية برمتها آنذاك على الترجمة. تحالف الأعداء والغريب في شأن مقدمة «لن» أنها لا تتطرق لهذا الظرف التاريخي، بل لم يأت على ذكره الشاعر أنسي الحاج على الرغم من أهميته واكتفى بالإشارة إلى أعدائها من الغوغاء والجهلة الذين حاربوها من دون أن يقرأوها، كما أشار إلى ذلك التحالف بين الشاعر الرجعي والقارئ الرجعي بحسب ما يرد في المقدمة، التي لم يُعِد صاحبُها النظرَ فيها بعد ذلك أبدا بل أبقاها مثلما هي وكما ظهرت للمرة الأولى والأخيرة. لنلاحظ هنا أن السؤال عندما انطرح من قِبَل صاحب، «الرأس المقطوع»، و«الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابع»، و«الوليمة» أيضا، كان عمر الجدل حول قصيدة النثر قد بلغ من العمر العامين بحسب ما يقول الشاعر الحاج في المقدمة ذاتها. لنلاحظ أيضا أن ظهور أي شكل أدبي ليس بعيدا عن وجود تحولات معرفية، ذات أسس اقتصادية واجتماعية ومسبوق بمنجز تراكمي عمودياً وأفقياً، ثم يجد هذا الشكل المرحلة التاريخية المواتية للظهور الطبيعي، أي تلك المرحلة التي يولد فيها الشكل من رحم الأدب ذاته في لغته الأم ذاتها ولادةً طبيعيةً لا تستدعي عمليةً قيصريةً بأدوات تسهِّل من هذه الولادة من الممكن استعارتها من ثقافات أخرى. والأرجح أن «عامين» حددهما أنسي الحاج في مقدمته «لن» ليسا بكافيين لمراكمة منجز لقصيدة «نثر عربية» تعي شرطيها الذاتي والموضوعي بوصفها قصيدة نثر تحمل خصائص نثر لغتها الأم ومواصفاته من دون أن تضطر لاستعارة هذه المواصفات من منجز قصيدة نثر أخرى، هي «قصيدة النثر» الفرنسية، التي لم يترجمها الحاج بدقة، أي القصيدة بالنثر وليس قصيدة النثر على ما درج عربيا منذ وقت سابق على الستينيات من القرن الماضي. وعلى العكس من قصيدة التفعيلة، التي تزامن ظهورها مع قصيدة النثر تقريبا، فقد وجدت التفعيلة أو الموزونة، في آخر الأمر، ذلك الناقد الذي يدافع عنها بحكم اتكائها على المنجز العروضي للشعر العربي، في حين ظلّت قصيدة النثر بلا ناقد يمتلك ثقافة نقدية رصينة وحسّا عميقا بالتحولات الجارية التي تمور بها أعماق المياه الراكدة للثقافة العربية وكذلك المجتمع العربي بالمعنى السياسي والاجتماعي معا. وعليه، هل تسّرع الشاعر الشاب الذي كانه أنسي الحاج بطرحه السؤال: «هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة؟»، أو بمعنى أدقّ قليلا: هل كان طرح السؤال أبكر مما ينبغي؟ الجواب ببساطة نعم. كان أنسي ابنا لتلك المرحلة وعاشها مثلما عاش أزماتها اللاحقة والمتلاحقة على المستويين الثقافي والاجتماعي إلى أن مات، ربما، يائسا مما آل إليه كل شيء أحاط به. ما يعني أن أنسي الحاج كان لحظة طرحه السؤال يعيش في الغابة ذاتها ويصارع أعداء قصيدة النثر والفكر الشعري الرجعي في خمسينيات وستينيات الشعر العربي من دون استراحة، إذ جعل منه ذلك السؤال أبرز المدافعين عن قصيدة النثر العربية في تلك اللحظة التي ظهرت فيها. ويقينا، أن المرء لو قام بتمرين من نوع ممارسة ذلك النأي عن الغابة وحاول أن يراها من بعيد كتلةً واحدةً بكل ما جرى فيها فسوف يرى في المشهد أن تلك اللحظة كانت لحظة عسيرة وطويلة يراها المتأمل فيها الآن واحدة من أطول اللحظات التي مرّت بها الثقافة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، وتحديدا لجهة تعريف أو تحديد «الشعرية» العربية في إطار بعينه أو حدود لا تتجاوز قدامة بن جعفر حول النظم في غالب الأحيان كمرجعية نقدية لم يكن لعبد القاهر الجرجاني أي أثر فيها بعد باستثناءات نادرة، خصوصا فيما يتصل بالإيقاع والموسيقى وكونهما شرطين خارجيين، أو شكليين للقصيدة العربية الكلاسيكية وليسا بجوهريين، بحسب ما يلاحظه أي قارئ متأمل للحراك الشعري العربي طيلة تاريخه المديد. هنا ربما لا مبالغة في القول إن مقارعة الجهلة والغوغاء من الشعراء والنقاد كان من الممكن لها أيضا أن تستند إلى مقولات داعمة وأساسية من صلب الثقافة العربية ذاتها والانفتاح في الوقت نفسه على الثقافة النقدية الأخروية أيا تكن مصادرها، وذلك في صدد البحث في الإشكالية «الشعرية» ذاتها، موضع الاختلاف، مثلما في صدد الدفاع عن قصيدة نثر عربية في منجزها المُنجَز بسويته العالية، من دون تلك الحماسة التي خالطت تمرد الشاعر أنسي الحاج في المقدمة. منبر خاص يُعوّل أنسي الحاج كثيرا على وعي الشاعر العربي آنذاك في إعادة صياغته لعلاقته بالقارئ، فيحدد لهما ـ أي للقارئ والشاعر ـ أن مشاغل الشاعر في صنيعه الشعري تتجاوز «الوعظ والإخبار والحجة والبرهان»، ليسبق. إنه يبني علاقته بالآخر على جسور أعمق غورا في النفس، أقلّ تورطا في الزمن الموقت والقيمة العابرة، وفي ذلك يتجاوز الحاج هذا الأمر: إنه ما من شكل أدبي جديد ومختلف وُلِد بعيدا عن مراكمته منجزه الخاص به، حيث غالبا ما تحدث ولادة ذلك الشكل في الهامش ويتحقق له منجزه الخاص في الهامش أيضا، ليأخذ بعد ذلك موقعه الطبيعي بالنسبة لتاريخ الأدب وكذلك علم اجتماع الأدب. فما من شكل جديد ولد من دون سياقه التاريخي الذي بدأ بسؤال انطرح على الشكل الأدبي السائد وليس على الثقافة والوعي النقدي السائدين. وهذا الأمر الذي تجاوزه الحاج في مقدمة «لن» بصدد قصيدة النثر لا ينطبق بأي حال من الأحوال على قصيدة التفعيلة أو القصيدة الموزونة، ببساطة، لأنها قد ولِدَت من رحم القصيدة الكلاسيكية العربية، أي أنها امتداد لشكل آخر موجود وسائد ومهيمن انبثقت منه، إنما لم تُحدث معه قطيعة معرفية وتخييلية من ذلك النوع الذي أحدثته قصيدة النثر التي تقوم أساسا على وعي نقدي «شقي»، إذا جاز التوصيف، ويمتلكه الشاعر والمتلقي معا. في تلك اللحظة، وعلى الرغم من أن أنسي الحاج كان يجد منبره الخاص ممثلا بمجلة «شعر»، وهو بالمناسبة اسم مستعار من مجلة شعرية شهرية عريقة تصدر في الولايات المتحدة منذ أواخر القرن التاسع عشر وما زالت، وربما كان يجد «حزبه» الخاص، ممثلا بيوسف الخال وكل الشعراء والمثقفين الذين كانوا معه فضلا على انتساب هذه الثقافة الرفيعة إلى حزب بعينه ولو شكلا لا مضمونا.. على الرغم من ذلك فإن تساؤل أنسي الحاج منظورا إليه من هذه الزاوية، إن صحّ ما ذُكر آنفا، ينتسب إلى كتلة أيديولوجية في مواجهة تكتلات أيديولوجية أخرى. فإذا كانت خيارات الشاعر هنا جمالية وشكلية، أي تخص الشكل الشعري، بالمعنى الصافي للكلمة، فقد استطاعت التكتلات الأخرى مواجهته بواقع الحال، أي بواقع قارئ يلتذ إلى التطريبي والشفوي والصريح والمباشر أكثر من ميله إلى التأملي المقروء في العزلة الفردية والمكتوب لأفراد لا لجماهير يجري تعبئتها للزحف. علما بأن نسبة الأمية في الأمة العربية بأسرها تفيض عن الخمسين بالمئة بكثير آنذاك، وأن إشعاع بيروت كمركز ثقافي تنويري لم يكن يتجاوز النخب الثقافية في العواصم العربية التي يصل إليها خطابها إنْ وصل. ألا يبدو أنسي الحاج عندما طرح سؤاله ذاك «دون كيخوته» آخر؟ دون كيخوته بلا رمح في مواجهة طواحين هواء عمرها يقارب الألفي عام في حين أن أدواته في المواجهة مستعارة وعمر الجدل حول قصيدته لم يتجاوز العامين؟ غير أن واقع الأمر، بالمقابل، كان يفرض لزاما، لضرورة تاريخية قد تكون صدفة تاريخية مقصودة، أن يطرح شاعر ذلك السؤال المبكر الذي ما زال ملّحا، غير أنه سيظل ذلك الشاعر الشاب العشريني الذي كان يحلم بقصيدة تُكتب بالنثر من قبل شعراء ملعونين من اللغات كلها. حلم كان مستحيلا آنذاك، وربما حتى الآن أيضا. أنسي الحاج، أيها الشاعر النبيل والإنسان الكبير، سلام عليك وأنت لما تزل في العشرين تكبر ويكبر معك السؤال ولا تشيخان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©