الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

موجة على باب أحمد راشد ثاني

موجة على باب أحمد راشد ثاني
14 مايو 2009 00:42
أحمد راشد ثاني تبدأ شعرية أي نص إبداعي من العنوان، فعندما يكون العنوان حالماً، تراه يقبض على الاستعارة فيجعلها أكثر غرابة ومعقولية في الآن نفسه، أما غرابتها فتتجلى في هذا الانزياح نحو آفاق بعيدة في تركيب الصورة، التي لا تعقل على مستوى الواقع في حين تبدو معقوليتها من إمكانية تصورها في الذهن. «على الباب موجة» لأحمد راشد ثاني والصادر عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، هو عنوان يحمل شعرية باذخة في جمالية الصورة وخيالية التركيب، قلت تأتي الشعرية في هذا العنوان من إمكانية تصور موجة على الباب ذهنياً واستحالة وقوف موجة على الباب واقعيا. أتذكر ديواناً لشاعر حمل عنواناً يقول فيه «سلاماً أيتها الموجة، سلاماً أيها البحر».. ولو قرأنا بنية هذا العنوان لما استطعنا تصور الاستعارة الشعرية مطلقاً، إنه إشارة واقعية إلى حدث مفترض أو تقرير مباشر في جملة اسمية. رهافة العنوان يسرد أحمد راشد ثاني في 6 فصول «ما يمكن أن أطلق عليها» طفولته في عالم قرية بعيدة عند فم الخليج اسمها «خورفكان»، الفصول هي «المعترض» و»المديفي» و»باب الجبل» و»باب البحر» و»غربان وملائكة وأفلام» و»في ذمة النسيان». ومن الطبيعي - فعلاً - بعد أن تشعر برهافة العنوان الشعرية أن تتوقع ذات الرهافة بل أكثر عمقاً وسعة داخل النص «المتن الحكائي». لنعد إلى موضوعة «خورفكان».. اسم مكان لقرية تجلس عند ساحل البحر.. أسهب أحمد راشد ثاني في تحليل الاسم فأعاده إلى شكل الفك الذي أسبغه الناس على المكان. لقد سبق أن كتبت في مقال لي عن السيرة الذاتية، حيث وجدت ومن الغرابة حقاً أن طه حسين في عام 1929 نشر كتاب سيرته الرائعة «الأيام» الزمانية بينما نجد كل السير الأخرى «سيرة مدينة... عمان في الأربعينيات 1994» لعبد الرحمن منيف و»سجن العمر» لتوفيق الحكيم عام 1964، وفدوى طوقان في سيرتها الذاتية «الرحلة الأصعب 1993» و»أوراق» لعبدالله العروي 1989. ومنها أيضاً «على الباب موجه» لأحمد راشد ثاني قد احتفت بالمكان. لنلحظ أن «الأيام» إشارة زمانية لأن المعقول والمفترض يجب أن يتطابقا هنا ما دام طه حسين أعمى غير مبصر للمكان لذا كان عليه أن يلجأ للزمان اذ أنه لا يتذكر من الألوان شيئاً، حتى تجسيد الحرف العربي، لا يتذكره مكانياً كونه يحتل حيزاً في الفراغ حيث لا يبدو أن طه حسين قد رآه، بل هو في جميع مراحل عمره الزمانية متصوراً له، بينما نجد السير الأخرى مكانية بامتياز ما دام أصحابها مبصرين من سيرة مدينة مروراً بسجن العمر والرحلة الأصعب في المكان والأوراق المتجسدة في كتاب والباب وموجته حين يكون المكان طاغياً. قمة الجبل يبدأ أحمد راشد ثاني بسرد حكاية طفولته مع قريته خورفكان من الأعلى، وكأنه يريد أن يمسك بالمكان كله، فمن فوق قمة الجبل المطل والمحيط بخورفكان تبدأ لحظة التبئير في السرد: «ينظف الجبل نفسه مع كل وابل من المطر، فحينما تتكدس الغيوم السوداء والداكنة على رأسه، وتنفتح صنابير السماء، ترى حتى من بعيد شرايينه، وعروقه تظهر وتتميز وتتورم بلون بني يحفه بياض الرغوة لتصب في جذع واحد، تتوزع جذوره على نواحي الأرض تحت الجبل». ولنتوقف عند «تحت الجبل» التي تعني البحر الذي يريد أن يستغرق فيه السارد.. هنا هذا الوصف «من الأعلى» ما هو إلا وسيلة لاقتناص الأسفل «البحر» (الوادي إثر ذلك يستجمع خطواته الأولى، ويحشد قوته كي يهب مهرولاً باتجاه البحر) عند هذا الوادي أو في نهايته جلست «خورفكان» قرية أحمد راشد ثاني ولابد من أن يصف بيوتها، أزقتها وما يحيط بها من عوالم تبدو بالرغم من قسوتها عذبة، لأنها تلامس الطفولة، وبقدر عذوبة الطفولة وعدم مبالاتها بالحياة تبدو تلك القسوة عذبة «وكأن المجانسة بين شفافية الطفولة والواقع - بالرغم من مرارته - لابد أن تتطابق. ولأن راشد ثاني ليس من أهل خورفكان - في الأصل، كونه من دبي عائلة وقبيلة، كان لابد أن تبدأ حكاية السارد (ابنه أحمد) من هذه النقطة، وهي التي تظل محوراً أساسياً في النص السردي، حيث التقطها السارد ليجعلها حكاية من غرابتها أن الأب ظل طوال حياته مرتحلاً عن «خورفكان».. أحمد راشد ثاني لا يريد أن يعطي مبررات هذا الارتحال كونه غير معني بذلك. إنه سارد سيرته الذاتية التي تحف بها سير الآخرين. أمه وخالاته مريم وحليمة في خورفكان وموزة في الشارقة والحاجة عوشة التي اختتم بها نصه. «وسكة سكينة» المطوعة التي ماتت عن عمر مديد. تلك هي النساء. أما الرجال فهم أبوه راشد وأبو سهم جارهم الذي يعمل في الكويت والمعلمون في المدرسة التي فتحت فيما بعد والرجل التاجر المتنقل بين دبي وخورفكان على حمار وإمام المسجد خلفان مفتاح. باب الذكرى كل هؤلاء سرد عنهم أحمد راشد ثاني عبر تأمل موجه وقفت عند باب الذكرى. الباب هنا استعارة لانفتاح الذاكرة على الحكاية، وكأن أحمد راشد ثاني لا يقرأ الموجة بقدر ما كانت هي التي تستدعي الدخول إلى الذاكرة عبر باب الحكاية. يرسم أحمد راشد ثاني شخصياته بسرعة كبيرة يعطيها ملامحها وتأثيراتها في بقعة مضيئة في طفولته، بينما يمكن تصور عشرات من الشخصيات الهامشية في خورفكان ظلت قابعة في النقاط المعتمة من طفولته التي لا يريد أن يعرضها، بل لا تهمه بشيء. إنها لم تترك بصماتها في خريطة جسد الذاكرة. تلك هي السيرة الذاتية، استحضار العلامة الفارقة، استحضار وبناء الشخصيات من عمق الذاكرة، يرصد ويبني أحمد راشد ثاني شخصيات حكاياته بسهولة وما أن تبرق متألقة في النص حتى تمحى تماماً إنها في دور تغذية النص بالتشويق، بل في كثير من الأحيان بضحك المتلقي من طبيعة وبنية تلك الشخصيات التي أجدها أكثر قرباً للفرح من أي ممثل كوميدي على شاشات السينما العربية. «كان كل شيء من حول البيت في البيت.. تسمع صرخات آخر جار كما تسمع أخباره وانت قابع في غرفة البيت الوحيدة خلف الباب الوحيد المغلق في هذا البيت، وإذا لم يزرك جارك، زارك أطفاله واغنامه». ويلتقط عن أبيه: «بحارة خورفكان أظنهم أول من توسط لأبي كي ينال الموافقة السامية لجدي وأمي على الزواج، لكن الذي كانت مساهمته حاسمة رجل يتاجر على حمار بين دبي وخورفكان». ولعله يطيب لي وبالوكالة عن أمي، أن أسهب في تصور ذلك الرجل على حماره وهو يقطع الساحل الشرقي ومن ثم يتوغل في الجبال متمرجحاً على أطراف وديان ضخمة وسحيقة كوادي حام والسيجي وغيرها، مترنحاً على كثبان الذيد ورمال الصجعة حتى يصل إلى الشارقة، ثم ومن هناك «بعد أن يمر على مقهى «بيزات» ويشرب كأساً من الشاي» ثم إلى دبي حيث لا يترك أحداً في الشندغة، أو السبخة إلا ويسأله عن أبي وأصله وفصله، وعندما يجمع كل المعلومات والشهادات عنه، يضعها بأمانة في خرج ذاكرته ويعود قافلاً «كما يقولون، لكني في الحقيقة أتخيله عائداً وحده»، وبعد أيام وليال طوال إلى خورفكان كي يزكي ذلك الزواج المبارك». طرق سردية في هذا النص، حكاية كاملة، وطرق سردية كاملة أيضاً، لعب على الزمان وعلى الحلم وعلى المكان وعلى الشخصية. في لحظة السرد يعود أحمد راشد ثاني بالاسترجاع إلى ماقبل تاريخ الحكاية وإلى ما قبل تاريخ السرد.. يستذكر عبره كما يقولون عودة ذلك الرجل قافلاً «مع قافلة من الباعة المتجولين» إلا أن أحمد راشد «يتخيله» عائداً لوحده. أما الزواج المبارك فلم يتحقق إلا على يد ذلك الرجل بل لنقل على قدم ذلك الرجل فلولا قدماه لما جاء الخبر اليقين عن أصل وفصل راشد ثاني، وحينما مات الرجل كان أحمد «السارد» حاضراً مبصراً حينها قدمي الرجل البائع ميتاً وهم يخرجونه من البيت المجاور لبيت أحمد راشد ثاني: كان زوج حليمة أول ميت أراه ففي أحد الصباحات كنت خارجاً من البيت «كنت في العاشرة تقريباً» فرأيت سيارة تقف خلف باب بيتنا ( الجبلي) وتخرج منها قدمان منتفختان وجامدتان» القدمان هما فعل القص، هما بطلا الحكاية، هما ذلك التنقل في الذاكرة والمكان من خورفكان والذيد والشارقة ودبي والعودة قافلاً كما يروي ومفرداً كما يتصور أحمد راشد ثاني. إنه سرد يلعب على السرد على التخيل أما الزمان فمقطوع بزمان آخر.. الحاضر مقطوع بالماضي والماضي يعود إلى الحاضر سريعا ويرتد إلى ماضيه. حاول أحمد راشد ثاني أن يزيد المكان رسوخاً، حتى ذاك الذي انمحى من الخريطة الجغرافية يرى أنه لا يزال يمتلك وجوده في خريطة الذاكرة. لذا تراه يتذكر مسجد خورفكان على ورقة الـ 5 دراهم المتداولة الآن، إن السارد هنا يستعين بكل ما يرى، إنه يرسم ملامح خورفكان آنذاك، وهي الحكاية من الذاكرة، الرسمة من العملة النقدية المتداولة، والصورة من مجلة العربي حينما جاء محررها ومصورها سليم زبال إلى خورفكان فكتب عنها ونشر صورتها، فبان بيتهم نقطة من ضوء ابيض في جزء من الصورة التي لو كبرت لتلاشى ذلك الضوء الباهت البعيد، بيت راشد ثاني، سرة البحر والجبل، الجبل الصاعد والبحر الهابط، حيث الخوف المزدوج بين سيول الجبل وهياج أمواج البحر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©