السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وديع سعادة.. كائن ينْسردُ شعراً ويجالس العدم!

وديع سعادة.. كائن ينْسردُ شعراً ويجالس العدم!
14 مايو 2009 00:41
كما كان وديع سعادة بارعاً في إلغاء المسافة بين النص والحياة. كذلك هو الناقد السعودي محمد العباس الذي يقترب وبالبراعة نفسها من نص وديع في كتابه الصادر حديثاً عن دار نينوى «كتابة الغياب». هذا الاقتراب الذي يصل إلى حد المنادمة الشفيفة التي جعلته يخاطبه بـ يا وديع. وتعلو رهافة هذه المنادمة حتى تتجلى في بعض العبارات في فعل الأمر: أكتب يا وديع.. بيد أن هذا الفعل لا يصنف كفعل أمر بقدر ما هو الافتنان بما يتجلى به وديع سعادة شعراً. وفي هذا الحوار نستعيد تلك المنادمة التي كانت بين العباس ووديع سعادة. طامي محمد أنت حميم في «كتابة الغياب» في حين لم تكن كذلك في قراءاتك النقدية السابقة، فقد غابت الصرامة وأنت تنادم نص وديع سعادة بلذة، هذه المجادلة الروحانية كيف جاءت؟ هل فرضها نص وديع؟ هل هو خيار فني نقدي جديد تبتدعه لنفسك؟ نص وديع يستدعي مقاربته بخطاب نقدي مُشَعْرَنْ. فهو يكتب بلغة على درجة من الرهافة تغري النقد أن يكون محاولة للتماس مع الذات التي تقيم خلف الكلمات، ومن هنا آثرت أن أعتمد المنهج الرسائلي الكفيل بتقليص المسافة أو محوها قدر الإمكان فيما بيننا، وذلك لإضفاء السمة الدرامية على النص المنتج من تداعيات القراءة. ومن هذا المنطلق جاءت مفردة المنادمة التي صارت تعني بالنسبة إلي أن الكتابة عنه يمكن أن تكون بمثابة نشاط في حيز القراءة. وقد استعنت بالمناهج والنظريات النقدية لمقاربة عبارة وديع أو بصمته الشعرية ولكن بدون أن تبدو تلك الآليات فاقعة أو ناتئة في سياق القراءات، بل حرصت قدر الإمكان على تذويبها لترقى الكتابة إلى مستوى المنادمة والتباسط بالفعل، والتخاطب مع كائن يقيم في النقطة الممحوة من الحياة، مقتعداً الحجر حد مماهاته كتمثال، بمعنى أني حاولت أن أجد لي مكاناً بين هذا المريض بذاته وبين كلماته بشيء من الإعجاب والحب والرغبة في المنادمة. وهو خيار فني أظنه أجدى من الأسلوب التشريحي المدرسي، ويليق بمخاطبة كائن من كلمات ينتظر حياة تنبثق من خلال شقوق الكلمات. كاتب أحاسيس الذاتية المفرطة التي يكتب بها وديع، وهي ليست ذاتية تمجد الذات أو تبجلها، كتبت بحالة موغلة في الشفافية. كيف ترصد أثر هذه الذاتية على نص وديع؟ وديع سعادة الذي يجالس العدم، يكتب بذاتية على درجة من الشفافية والتجلي، وليس بأنَويّة. إنه يحتفي بذاته مع الآخرين وليس في المنفى الشخصي بمعزل عنهم، فذاته الرهيفة الهشة عاطفياً تذوب بين الكلمات ولا تطفو أناه بأي معنى من المعاني على سطح النص. وهذه سمة من سمات الكائن القادر على المكاشفة واستجلاء أغوار نفسه من خلال اللغة، فهو لا يخاف من الألم، بل يعيد عجنه وتشكيله في لغة حد التهور. إنه كاتب أحاسيس لا موضوعات. والكتابة تعني بالنسبة له حالة من حالات توسيع الذات وإفساح المدى لها للحضور والتمثّل. والسر على ما أعتقد يكمن في كون الذات المصعوقة بمفارقات الوجود، كما يمثل وديع بعض تجلياتها، تتوحد مع الألم داخل الكتابة. إنه لا يكتب لكي يتطهر، بل يدلل بمفردات (العبور والعدم والنسيان والغياب) التي هي بمثابة أيقوناته اللفظية على اعتناقه التوثيني للغة لكي لا ينسى، وأحياناً ليستدعي ذاته ويمكِّثها. إنه يكتب لكي لا يكون مجرد شيء، وهنا مكمن الأثر في نصه فمن يقرأ شطحاته السريالية يصاب به حتماً، ولا يجد تلك الغرائبية المتأتية من الألعاب اللغوية المعتادة في النصوص الحديثة بل حميمية هي عصب نصه وحياته. كتابة اللوعة لا يكتسب قارئ نص وديع فلسفة أخرى للحياة.. لا يكتشف معنى جديداً.. لكن نص وديع يفعل أكثر من ذلك بأن يجعلنا نكتشف أنفسنا..كأنه يكتب لوعتنا الغائبة أو المخفية؟ صحيح، وهو على ما يبدو غير معني بترديد مقولات فلسفية بقدر ما يهجس ببعثرة أسئلة وجودية مبعثها ذاته وألمه الخاص، حيث يتنازل عن معنى الحياة العام لينجز معناه الشخصي، أو رؤيته المتفردة للوجود. أحياناً تحسه يهذي لفرط الألم والدهشة، نتيجة غوصاته العميقة في ذاته، وقدرته الاستثنائية الرهيفة على التقاط الجمال العابر، اللامرئي. والأهم أنه لا يعاني من عقدة القبض عليه متلبساً بمشاعره، لدرجة أن نصه يعتبر سيرة شعورية صريحة. حتى اللوعة التي تتحدث عنها، هو لا يستجلبها من الفراغ بل من إحساس حقيقي، ومن خبرات، ووقائع، ومن حنين باتر لذلك الغائب الذي يتقدس كلما تذكره، أو حاول عبثاً استعادته، حتى صار بمقدوره أن يعجن كل ذلك الوهم الموجع في كلمات وينادم نفسه بها، كأنه الكاتب المكتفي بذاته قارئاً. وتلك هي بصمته التي تحيل النص بالفعل إلى مرآة صادمة ينفضح قبالتها شعور القارئ الخائف من مواجهة نفسه، فالحياة تحت جلودنا، كما يصدمنا بها، لا في الخارج. موت المتخيلات لاحظت أن وديع يخاطب الأشياء أكثر مما يخاطب الانسان؛ هناك المقعد والطاولة والبحيرة والحديقة.. كأنه فقد التواصل مع الكائن الحي، لكن الاشياء لا تحضر كبديل ولكن كعلامات تحدد الحياة التي يعيشها.. كيف ترى هذه المسألة؟ التشيؤ كما يبدو في نص وديع لا يعني الإنقطاع عن الكائن الحي، أو اليأس منه، بل العكس هو الصحيح حيث يبدو نصه مترعاً بالمخلوقات والجمادات المؤنسنة، على عكس النصوص الحديثة التي طردت الانسان لصالح تداعيات غامضة وجامدة. حين يتحدث إلى الأشياء والكائنات الحية فهو إنما يتحدث عن متعلقات الكائن بلغة موجعة، وعن موت المتخيلات، فالكلمات كانت كائنات حية حسب رأيه، ومهمته هي صنع جسر من الأصوات. وهو من الشفافية والرهافة بحيث يخشى الجلوس على الكنبة لأنها ضلع أحدهم، ويقصد الذين غادروا، إيماناً منه على ما يبدو بأن الأثر أقوى من صاحبه. لاحظ عباراته هذه مثلاً: (الكلماتُ التي قالَها.. على المقاعدِ، في الخزانةِ، على الأسِرَّةِ، والجدار. جلَبُوا خادمةً نظَّفَتِ البيتَ. نظَّفَتِ الأثاثَ والأواني والحجارة. جلَبُوا طِلاءً. جلَبوا أصواتًا جديدةً وظلُّوا يسمعونَها). إنه صديق الأثاث المؤنسن، وهو أشبه ما يكون بالأعمى الذي استعار وهم الرؤية كما وصف نفسه. بين غيابين ثيمة الغياب حضرت عند محمود درويش «في حضرة الغياب» وكذلك الغياب عند وديع سعادة تكرر حضوره.. هل ترى هناك تفاوت في استثمار حالة الغياب بين الشاعرين؟ بالتأكيد، فالغياب ليست مجرد مفردة. بل هي رضّة وجودية تتولّد عنها فلسفة جمالية. تجليات الغياب عند درويش أقل، وهي تحضر في الغالب كتجريدات وفضاءات محروثة بالكلام والتوصيفات بدون التنويع عليها. وهي لا تهيمن على كليانيّة النص ومناخاته بالمعنى الفلسفي، إنما كوقائع. أما وديع فيبالغ في تفريغها من الكلام، وتأثيثها بالصمت، بما هو أعلى درجات الكلام عنده، لأن طقس الغياب الذي عاشه إثر حدث الفقد المركزي الأول في حياته أقسى من أن تستوعبه المفردات، حيث عبر تجربة انعدام المعنى، وأفول المتعالي بمخاطبة الذات المطلقة بعبارات دالة حتى صار يماهي الغياب بالعدم، كما تشير مسكوكاته اللفظية، وهو ما يعرف نقدياً بالقيمة المهيمنة، أو الخلية المفسّرة، وهو الأمر الذي يفسر أيضاً افتتانه بمفردة الغياب والتنويع عليها كتعويذة في أغلب النصوص، وتعليقها حتى كلافتة على صدر النص/ المجموعة (نص الغياب) مثلاً. وهي منبجسة أصلاً من تداعيات حدث أو واقعة، ومتأتية كحِلية فنية من جدل جواني يشبه شطحة ابن عربي عن الحضور الجلي للذات من خلال مراودات تغييبها، وهو ما يعني أن (الغياب) بالنسبة لوديع ليس مجرد مفردة للتعبير عن لوعة أو حرقة أو يأس، إنها علامة بالمعنى السيميائي على خوف الذات من الوجود الخاوي المجوّف، وتعني بتكراريتها، وكثرة الطرق عليها حالة من التعنيف الإيجابي للذات وطمأنتها في آن، حيث تحيل على الدوام إلى ذات صامتة، مبهوتة، مفتونة بالبياض، موعودة بالتلاشي والإقامة على سطيحة العدم. دوما تؤكد أن النص لا بد أن يشبه مبدعه.. هل نص وديع يشبهه؟ تمام الشبه، فليس ثمة اغتراب فني أو نفسي بينه كمبدع وبين نصه. ولا يوجد انفصال بين وديع كذات وبين موضوعه الشعري. أحسه ينسرد شعراً. وينكتب كسيرة. فالأصوات بالنسبة له، وحسب قوله، تولد للغناء لا للصراخ، للنشيد لا للحشرجة. ومن يقرأ نصه يجده مسكوناً بالآهات والحشرجات. تحسه يكتب ككائن يتأوه قبالتك، بدون أدنى إحساس يشي بكون المشاعر عورة ينبغي مواراتها، فلنصه سمة (الحدوث) بمعنى أن النص عنده يتشكل بانفعالات أفقية تبين عن ذات طازجة شعورياً تحدث في الآن واللحظة، حتى مفرداته لا يبدو أنها من ذلك النوع الذي يقف طويلاً أمام المرايا. إنها دفقة الذات المتألمة والحالمة بالخلاص الجمعي عبر الفردي. وهنا يكمن سر لغته الكثيفة وعبارته الرمادية التي تحيل إلى خفة شعورية يصعب تزوير الإيقاع الذي يضبط هسيسها، أو إهدار نظام علاقاتها داخل نص مدبر. أظنه يحقق في نصه معادلة الجمال اللفظي المبسوط كرداء حسي على جوهر المعاني المخبأ في المفردات. هذه المنادمة لوديع سعادة هل أعادتك إلى الشعر بعد زمن طويل ذهبت فيه إلى الجدل مع السرد؟ ربما أعادتني إلى منطقة حيوية وجاذبة من الشعر، وساعدتني على الانحياز أكثر إلى جوهر الشعر هرباً مما يشبهه أو يتشبّه به، لأن الشعر مجرّة حسّية لا يمكن الفرار من تأثيراتها، وشعرية الوجود قدر لا تنوجد في النص وحسب، بل في كل تجليات الحياة. نص وديع محرض، وهو يحفز الخطاب النقدي الذي لا يعترف بالمسافة بين النص والحياة بل يوحدهما من خلال القراءة (عبر- نصية) تتخذ من النص منطلقاً إلى قلب الحياة، وبالمقابل ترتد إلى الحياة من خلال النص. وأعتقد أن تجربته جديرة بقراءات متنوعة تتخطى الإشتباك بمعمارية النص وجمالياته إلى التماس مع مظهر من مظاهر الذات الإنسانية المفجوعة بمآلها حيث يتموضع وديع فوق المشتبهات الأيديولوجية والفئوية والتنميطات الفنية الفارغة. هذه البصمة الشعرية المتفردة لوديع هي بالفعل ما أغراني بمقاربتة، من خلال مقروئية بقدر ما تهبني متعة التلذذ بنصه الشعري، تعبر بي كقارئ إلى التحاور مع ذاته الشعرية المتكلمة، أي معه كإنسان من خلال حوار بين وعيَيْن أو انفعاليْن.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©