السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

معركة الـ «بشو.. بشو»

معركة الـ «بشو.. بشو»
18 فبراير 2012
ذهبتُ لقتال السوفييت حاملاً بندقيتي، ومنظاراً ليلياً معلقا على رقبتي، ووصلات الرصاص تتدلى من كتفي إلى صدري، يعني «رامبو» حقيقي، لكن للأسف، لم يكن شعري طويلاً مثله لأربط رأسي بعصابة، إذ كان أهلي يتحكمون في طول شعري، لكنهم لم يستطيعوا التحكّم في قرارات الحرب والسلام التي كنت أتخذها بإرادة حرة. وكان معي أخي الذي يكبرني قليلا، وهو رفيقي في السلاح، وفي المطاعم، وفي المصائب، ولم أكن قد تجاوزت الثامنة من العمر. كنّا صغاراً ونسمع عن غزو الجيش الأحمر لأفغانستان، ونسمع أيضاً أصداء الجهاد تتردّد في كل مكان، ونشاهد أفلام «رامبو». بالطبع، لم نقاتل السوفييت على جبال قندهار، وإنما في الساحة الرملية أمام بيتنا، فنخرج ظهراً إلى هناك ونحن نلبس «بيجامات» النوم مثل أغلب أولاد الفريج، إذ كانت الكنادير محفوظة في الخزائن لارتدائها صباحاً عند الذهاب إلى المدرسة، والملابس الرياضية عزيزة علينا لا نرتديها إلا في المباريات وحصص الرياضة. وكنت وأخي نركض ثم ننبطح أرضاً ونقاتل العدو ببنادق لعب وقنابل يدوية يمكن أن تُستعمل مليون مرة وتبقى كما هي، وحين لم نكن نجدها بسبب عدم استحسان أهلنا لهذه الألعاب، كنا نقاتلهم بكلاشينكوفات من أغصان الأشجار، ونتقلب على الرمال وأزيز الرصاص يخرق آذاننا «بِشو.. بِشو». وكان الأزيز شديداً؛ لأن أفواهنا التي كانت تصدر الأصوات قريبة من آذاننا. ثم نجري ونختبئ خلف الكثبان الرملية الصغيرة، وبين الحين والآخر نرمي قنبلة يدوية على رؤوس الأعداء. وأذكر أنني في أحد الأيام قررت أن أقاتل السوفييت رجلاً لرجل، إذ في هذه المبارزة تظهر البطولة الحقيقية، ورأيت أن أفضل سلاح أواجه به البطل السوفييتي هو رمح ذو رأس حادّ، فقطعت غصن شجرة وأخذت أشذّب الأغصان الصغيرة المتفرعة منها وأسنّ رأسها بموسى حادّة، فأتت على سبابتي وأحدثت بها جرحاً غائراً وتدفق الدم من إصبعي ولا تزال آثار الغرزات موجودة على إصبعي، لمن لا يصدّق قصة نضالي ضد السوفييت. ولم يكن ما نفعله لعب أطفال، لأننا كنا نجلس في فترات الاستراحة نأكل شيبس مع لبن ونحن على أهبة الاستعداد، لا نغفل عن أسلحتنا لئلا يغير علينا العدو ويأخذها منا فنعود إلى البيت نكفكف دموعنا. وبالطبع لا عدو كان يتربص بنا تحت أشعة الشمس الحارقة، اللهم إلا بعض القطط الجائعة التي كانت تراقبنا بفضول واستغراب. وفجأة يصرخ بي أخي بأن السوفييت قادمون، فلا أبالي وأكمل التهام الشيبس بقلب مطمئن، بينما الرصاص يخرق ظهري، لكنني كنت أسقط على الأرض جريحاً ليكتمل المشهد، فيداويني أخي منتزعاً الرصاصات الغادرة ونواصل القتال. أما في فصل الشتاء، فكنا نقاتلهم في بيت مهجور يستعمله أصحاب محلات تصليح المكيفات والثلاجات مكاناً لنفاياتهم المعدنية. نذهب إلى هناك منذ الصباح الباكر ونشعل نار ما قبل المعركة ثم نحمل الأسلحة ونبدأ القتال: الأنبوب المعدني يصبح رشاشاً، والقضيب السميك المجوّف يتحول في أعيننا إلى بازوكا، والعلب الفارغة تصير قنابل يدوية نقذفها على أكوام الحديد والألمنيوم ثم نتوارى ونصدر صوت «بوووم». وفي يوم من الأيام قررنا تحويل اللعب إلى حقيقة، وأخبرنا أخوينا الأكبر منا، فسخرا منا كثيراً، وبقيا لسنوات يذكراننا بالموضوع، وكنا نأسف لحالهما، لأنهما ببساطة لا يحملان همّ الأمة مثلنا. وأصرّ أخي ورفيقي في السلاح على موقفه وعرض المشروع على أبي الذي غضب منه كثيراً وهدده بألا يعود لمثل هذا الكلام. في الحقيقة تفاجئنا من ردة فعله، وقارنّا بينه وبين شخصيات تاريخية دفعت عيالها إلى ساحات الوغى واستقبلت جثثهم بالزغاريد أو بالقصائد، مثل الخنساء بنت صخر. ورحنا نسأل أنفسنا: ألا يعرف أبانا بأننا أمانة عنده ولا بد أن يعيد الأمانة يوماً إلى صاحبها؟ ألا يعلم أن الدنيا ممر إلى الآخر وليست هي البيت الدائم والحقيقي؟ الذي زاد من حيرتنا في أبينا أنه رجل ملتزم، فكيف يستقبل خبر استعداد عياله للجهاد بوجه يفور غضباً، وهو الذي لا يغضب إلا في المناسبات التي يثور فيها الرجال؟ بقينا فترة طويلة نأسف لحال أبينا لأنه مشغول بتجارته لا يبالي بهموم الأمة، كل همه أن يُطعم عياله ويوفّر لهم حياة كريمة، خصوصاً أنه يستمع إلى إذاعة «البي بي سي» كل يوم. وحين كبرنا عرفنا أنه كان يعرف «البير وغطاه» كما يقولون. وأعتقد أن جهاد الـ»بِشو.. بِشو» كان ضرورياً لإفراغ شحنة القتال من صدورنا، إذ يبدو أن في كل إنسان شحنات لأشياء معينة تُولد معه، ولن يهدأ إلا إذا أفرغ شحناته، وكانت شحنة القتال كامنة بين ضلوعي، وأحمد الله أنني أفرغتها على الرمال أمام بيتنا. أحمد أميري me@ahmedamiri.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©