الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

علي العندل.. عندما يكتمل نصاب العزلة

علي العندل.. عندما يكتمل نصاب العزلة
24 مارس 2010 21:09
في صباح خفيف المطر، مستسلماً لغزل الغيوم هاتفني الشاعر علي العندل، مستفسراً عن نص كان أرسله للنشر. فتحنا حديثاً عن المطر والشجن والريبة المعلنة في نصه... ووعد بأن يزورنا في الجريدة حين تسنح له الفرصة. حدث هذا في العام 1999 إن لم تخني هذه الذاكرة الخربة التي يحلو لها أن تهزأ بي فتنسى ما أريدها أن تذكر وتذكر ما أريدها أن تنسى... ما علينا، المهم أن النص وصل ونشر، لكن صاحبه لم يصل إلا في يوم من أيام 2002. ثلاث سنوات لكي تقترن الصورة بالصوت لكنه ظل اقتراناً عابراً، لحظوياً، وآنياً لم يترسخ. مرت السنوات سريعة فإذا بـ “علي العندل في ذمة الله”... يومها لم أتمكن من كتابة كلمة واحدة عن هذا الإنسان الذي لطالما جاءني صوته على الهاتف فيما صورته بقيت غائمة لأنني لم أفلح في إنجاز العلاقة المفترضة بين الصوت والصورة. ظل الفراق قائماً بين الاثنين إلا أن صوته الـ بدون صورة كان كافياً ليشعرك كم أنه غريب... وحيد... متوحش في إحساسه بالعزلة... وكم هو حرّ... وحرّ... وحرّ. أمثولة العذاب ها نحن نكتب عن علي العندل من دون مناسبة خلافاً لما جرت عليه العادة، فنحن لا نريد أن ننتظر مناسبة (موته) لكي نذكر علي العندل، ونقول إنه ما يزال قادراً على إطلاق صوته بيننا. نحن نذكر مبدعينا حين يموتون فقط، وكأن حياتهم بيننا وقربهم منا حجاب يحجبهم عنا. اليوم نكتب عن علي العندل لأنه “العندل” البهي في حضوره وفي غيابه، ولأنه الذي لم يقل كل شيء ورأى أكثر مما رأى آخرون، فذهب في الموت مثل برق، مخفوراً برؤياه وبدواوين أخرى ظلت في حكم الغيب، تاركاً لنا “سيف الماء”، ويا له من... سيف!. في حياته نفسها، لا في نصه فقط، تكمن أهمية علي العندل، فحياته الشخصية أمثوله للمبدع المعذب، المؤرق بحيرة فهم هذا العالم وما يجري فيه، وهي نموذج واقعي للروح الهائمة في سماء الأفكار تبحث عن معنى يناسبها. في سلوكه، ونمط حياته، ونصه، بدا العندل يمارس فلسفته وآراءه وينحت حضوره على وجه الحياة، رغم أنه لم يكن معنياً بهذا الحضور. ورغم أنه فضل الهامش، وافترش مكانات مظلمة بعيدة عن أضواء الإعلام يظل علي العندل شاعراً ذو حضور خاص، حضور حميمي يملك أن يخربش المرتب، ويفكك المكرس، ويهز اليقيني، ويطلق من قوسه العريض خسارات فادحة، أقلها موت العقل الذي لا يرى فيه أكثر من ضفدع ينق، وخراب القلب الذي يراه “سيف ماء” وهو الاسم الذي حملته مجموعته اليتيمة. إذن نحن منذ البدء أمام مجموعة تمتح مادتها من الخراب، وتعلن أن ما بين دفتيها “وقوفاً مقوساً” فيما “صفير النداء” يملأ الأذنين، وما دامت المحاولة كلها سعي إلى وقوف لا يتحقق فإن الحياة ليست سوى محطة عبور. وخلافاً لنصه الخافت الهامس، لم يكن العندل خافتاً في إنسانيته وحياته... ذرعها حلماً وزرعها بكتابات غريبة كان يعرف سلفاً أنها مجرد محاولة لخداع الحياة، للتحايل عليها، لعلها تترك العاشق قليلاً ليقول عزلته ويهندس لوعته. أما علي العندل المثقف فلم يكن سوى “محتج كبير” على الكثير مما يجري في المشهد وما يعتوره من عيوب، وما يتوفر عليه من فقدان. نصه في المجمل مفكك وشديد الغموض، يستغلق غالباً على الفهم ويحتاج الى القراءة مرات ومرات، ذلك أنه نص بلا علامات، كما لو انه تجسيد كلامي لغموض الحياة نفسها، ولعلاقته هو مع الحياة، تلك العلاقة الخربة، المفككة، غير المفهومة، لكن النصوص (في أحيان قليلة) تخلع ثوب الغموض لتقدم نفسها للقارئ واضحة بالقدر الذي يتيح له الاقتراب من روحها: علناً من قبو الألعاب أسرق العالم وباقة ألوان إهداء لمنسق الزهور العزلة إلى آخرها لم يكن العندل شيخاً للهوى، ولم يكن الباحث عن عذوبة الارتقاء في مدارج الوعي الصوفي إلا شيخاً مسكوناً بالوسواس والأحاجي واصوات المهد وهاتف الحتف الذي يأتيه في حالات الوجد: أيا أنت الهاتف، الحتف قد تطول القصة يا ولد. وتملأ عينيك بالتراب شأن النساء في “تطاردني الأواني”، النص الأكثر شعرية على مستوى الصورة واللغة، تبدو المعاني أكثر تماسكاً، والأفكار أكثر وضوحاً حيث تأتي في غلالة شفيفة من الغموض غير المفتعل تسمح بأن تشف عن حمولات النص وهواجسه وانشغالاته. هنا تنضج الروح على نار العزلة، تمتلئ بها تماماً بحيث لا يعود معنياً بأي شيء. إنها العزلة وافرة، كاملة النصاب، يلعب العندل على ثيمتها، يدورها، يقولها مرة تلو مرة بشكل مختلف ومعنى مغاير، كأنه لا يجد المعنى معبراً عما يمور به داخله، فيلجأ إلى صياغة أخرى لعلها تقول الروح وتشي بما فيها. وكيف للعبارة أن تقول امرأً أقل ما يشعر به أنه “سقط من الزمان، ومرآته الصغيرة في يده”، المرآة التي يرى فيها مصيراً قاتماً: قد سقطت من الزمان ومرآتي الصغيرة في يدي ... في الليل تأتيتي هرة ممتلئة الأثداء تقول: أنت عاطل وللنهش مباح. إن شعور العندل بالسقوط يبدو مستعصياً على الترجمة.. وشعور من هذا النوع لا شك فادح وغائر إلى الحد الذي يجعل كل لغة عاجزة وكل كلمة قاصرة، وكل ما يملكه العندل أن يكون “متأهباً للرحيل، يترصد قدوم الشلل”. آهٍ أيتها الحرية الحرية، هذه القاتلة في سحرها، الفاتنة التي تشرَّد وراءها علي العندل، خطب ودَّها بكل السبل فلم ترخ له سوى طرف شالها، فجنَّ بها، ووهبها كل ما يملكه من رغبة القول ولهيب الكلام. لها وحدها كل هذا الكلام الخارج من هذيانات الروح الملوعة بحلمها، العاكفة على شرب ماء النص حتى لو كان سماً زعافاً. الحرية، أكثر كائنات نصوص علي العندل حضوراً وتجلياً وفي مستويات متعددة، المستوى الحياتي المتعلق بما هو يومي والمستوى الوجودي المنشغل بماهية الوجود الإنساني وأسبابه وغاياته، تلك الغايات المجللة بالإبهام وغير المفهومة حتى مع سعي العندل الحثيث لفهمها وفك مغاليقها. وهو سعي لا يوصله إلى شيء، يلتجئ الى الحدس مرة وإلى العقل مرات فلا يفهم هذه البالية في سرابها المتكاثف فوق روحه؛ لا الحدس يأخذه الى فهم مغزى وجوده ولا العقل يهديه، ويظل منذوراً لقيد أبدي ولعَدْوٍ لا ينتهي: سأعدو مهرولاً أعدو طويلاً في سراب البالية ترجع قدماي إلى الأعصاب إلى الزرقاء هذا الوجع الوجودي الفاتك بالروح يتبدى في اللغة والفكرة معاً وفي سؤال صميمي يتردد مرات كثيرة في أرجاء المجموعة: إلى أين؟ سؤال حارق يشغله ويحفر في أعصابه، في قلبه، في بحثه المجنون عن المعنى الذي لا يأتي: يا “سرداب” الروح قبضت عليكَ عارياً إلى أين!؟ يبرز أثر انشغاله بالسؤال الفلسفي واضحاً في معظم قصائده، وإن كان أثراً مشوشاً ومستغلقاً أحياناً كما في “الأوصال”، “البارانويا ـ ظلال الأنا”، الفيروز، كما يتمثل في معجمه الشعري المليء بمفردات: اللاجدوى، اللاشيء، الخواء، الشك، العزلة، الخوف، الموت، العبث، النهاية، والوحدة بمعناها الوجودي... تلك الوحدة التي تدخله في صمت وجودي كامل تصمت فيه حتى الهرة “غزيلة” التي تتماهى مع موجودات عالمه الأخرى، وتأخذ لغته وتتركه أبكم. صمت تعجز فيه الموسيقى عن مداواة الروح المريضة بوحدتها، بغربتها، بنواحها، وخوائها وخرابها المكتمل: أبدو غريباً .. ملعوناً تلفظني أفواه الأطفال أمرد هو نواحي، أضم الى صدري بقعة انزواء أختبئ من وجهي في فصل كامل بعنوان “إني أضحك” تبدو النصوص ساخرة من كل شيء، تتجسد سخرية الشاعر في المتون والعناوين التي تحيل الى كل ما لا يمكن فهمه: التَّم الهمّ، إلاماً، إنات النسق (اعتقد شخصياً أنها أنات وليس إنات)، حَلِمَ لمْ ينَم، بلل شفاهك بالجفاف وابتسم، إني أضحك، وبها يسخر على نحو واضح من غباء العالم، ومن نفسه: أنا المتجمد في هيكل التاريخ علمت التلاميذ عن الأسماك قليلاً هذه سلحفاة هذا قنفذ وذاك الكسول ثعلب... مغبون إبداعياً، هكذا يراه الكثير من أصدقائه المثقفين والمبدعين، وفي هذا بعض الصحة، لكن على الطرف الآخر كان علي العندل “غفر الله له” مهملاً في العناية بشعره وقصائده، ربما لم يكن معنياً بما يُكتب أو يُدبج هنا وهناك... ربما كان مشغولاً بحياة النص لا بحياة الشاعر، كان همه أن يكتب القصيدة ثم... لا شيء!. صعلوك في شعره وفي سلوكه، بكل ما تحمله الصعلكة من جنون ونبل، بكل ما فيها من تسكع وشعر مشاغب. عندل.. وامرؤ القيس بمجرد ذكره، يحيل اسم “عندل” إلى صوت العندليب، وهو صوت جميل ساحر. يحيل الى الفرح والتفاؤل التي ترافق عادة غناء الطيور... لكن غناء (عندلنا) لم يكن فرحاً أبداً. إنه الشجو في طبقاته الأكثر حزناً، والشجن في مدياته الأكثر اتساعاً. بيد أن للاسم قرينة شعرية في بيت امرؤ القيس الشهير حين بلغه نبأ وفاة أبيه: كأني لم أسمر بدمّون مرّةً ولم أشهد الغارات يوماً بعندل و”عندل” المقصودة هنا هي مدينة من مدن حضرموت كانت زاهرة في الجاهلية. ذكرها ابن حوقل في معجمه. تقع على مدخل “وادي عمد” أحد أودية حضرموت الشهيرة إلى الجنوب الغربي من مدينة سيئون وتبعد عنها نحو (90 كيلو متر)، أقيمت هذه القرية الجميلة على سفح جبل في ضفة وادي عمد الشمالية، وهى ذات منازل تقليدية مبنية باللبن. وبين جمال الاسم وجمال المدلولات يتموقع علي العندل في حزنه الوجودي الباذخ المتجلي في السؤال عن المعنى... وربما عليه وحده، في غيابه المعلن حياة وموتاً، ينطبق بيت امرؤ القيس مع تعديل بسيط يسمح بوضع “عجمان” أو “الشارقة” مكان “دمّون”، غير أن الفارق بين الشاعرين أن غارات امرؤ القيس كانت حربية فيما كانت غارات علي العندل شعرية، هدفها القبض على الشعر حياً. مشروعه في ظروف نشأته لم يكن مصيره إلا الانسحاق مع علي العندل في «القائمة الطلابية» أحمد راشد ثاني لا أتذكر بشكل محدّد في أي عام تعرَّفت على علي العندل، هل في 1981 أم 82؟، ولكن حدث ذلك في السكن الجامعي “المقام” في العين، ولما كان ذلك السكن الجدي يومها وذو الخدمات الفندقية يقع على أطراف العين، متكئا على المدى الرملي للربع الخالي (بالطبع راودنا ذلك الإحساس بأننا ولأننا طلاب جامعيون يتم إبعادنا وإسكاننا هنا، إبعاد البعير المجرب حسب طرفة بن العبد) فإنه كان يتسع للعديد من الطلاب القادمين من مناطق شتى في الإمارات، يتعرفون على بعضهم البعض، وعن قرب، فيما كان يحقق الوحدة التي كان الجيل الأول من طلاب جامعة الإمارات قد زحف إلى أبوظبي كي يؤكد للوالد زايد ضرورتها الوجودية بالنسبة إليه. الأساس هي الوحدة، والآن قد بدأ بناء الدولة، علينا التساؤل عن هذا البناء وعن كيفيته، وقبل ذلك عن ماهيته. هكذا كان الشعور، أو شعور المجموعة التي انتسبت إليها والتي حملت بعد ذلك اسم “القائمة الطلابية” (هذه القائمة التي لولاها لما كان أشخاص كـ: خالد بدر عبيد، ناجي الحاي، إسماعيل عبدالله، إبراهيم الهاشمي، خالد الراشد، محمد الدوسري، مرعي الحليان... على ما هم عليه الآن)، وكان اللاعبون الأساسيون في هذه المجموعة مسيسين بهذا الشكل أو ذاك، لكن في المقابل كان أغلبهم من الميلة للشعر والمسرح، ولهذا كان “الثقافي” (أو ما كنا نسميه في ذلك الوقت بشيء من الصبيانية الوعي) أكثر إلحاحاً حتى من السياسي، وهذا ما جعل تلك القائمة على اختلاف ما مع أساتذتها في “مدرسة الأزمنة العربية”، وعند هذه النقطة بالذات تعرَّفت على العندل. كان علي وقتها لديه مجموعة هو الآخر، مجموعة تتعاطى الحياة، وحين تعرّفت عليه لفت انتباهي ثلاثة أمور: الأمر الأول تلك الكريزمية التي كانت تحيط بشخصية علي بين مجموعته، فكثير ما خيِّلَ لي وأنا أراه يتحدث مع تلك المجموعة وكأنه قادم من التاريخ القديم يُلقي على أتباعه أسئلة الوجود الطازجة (لقد استمر علي في ممارسة كريزميته تلك حتى إلى قبل سنوات قليلة من موته، فشعراء كإبراهيم الملا وهاشم المعلم وغيرهما... يلهجان بتأثير هذه الكريزمية على تكوينهم)، وبالطبع لن أنسى وأنا أتحدث هنا عن ما أسميه “كريزمية” بأن العندل في الأساس ممثل فاشل، فقبل أن يأتي إلى الجامعة كان منتسباً لمسرح الشارقة الوطني، ولست مستبعداً بأن الصدمات “الثقافية” الأولى التي تلقاها العندل قد حدثت هناك. الأمر الثاني دراسته للفلسفة، ومن يدرس الفلسفة هُنا؟، ولم اختار الفلسفة هذا الشاب الطويل والمفتول جسده، والمنطوي على روح أقرب ما تكون إلى الفراشات؟. لم اختار الفلسفة هذا الشاب ابن العائلة الفقيرة، أو بالأصح المسحوقة، والتي تسكن في الشعبية التي حول نادي الشعب في الشارقة (وما أدراك ما شعبية الشعب)؟ الهدف من هذه الجامعة تخريج موظفين، فأين بالإمكان أن يوظف متخرج الفلسفة؟ ثم أن التيار الديني كان يتربى ضدنا نحن المجموعة الصغيرة والتائهة والمسماه بـ “القائمة الطلابية”، ومن هو قريب أو على مقربة بعيدة منا، وكان هؤلاء، وعندما يسمعون كلمة فلسفة في أحلامهم، يقومون مفزوعين من الندم إلى الحمَّام كي يتوضؤون. ثُمَّ ماذا كان يدرس من الفلسفة وقتها؟ أقدم الدفاتر المدرسية التي كانت تدرسها الجامعات المصرية كانت هي المنهج. فلسفة سندرس الفلسفة أجل، ولكن عليها أن تكون محتشمة، ثم بعد ذلك حتى تلك الفلسفة “المحتشمة” طارت... الأمر الثالث: “بلوشيته”، فعلي كان وظل من الفخورين بهذه القبيلة الشقيقة، ولا يتورع في كثير من الأحيان عن ابتكار أساطير حول أهميتهم على الأرض. وهذا المنحى كثيراً ما جعلني أفكر من حينها بأننا وكمجموعة بشرية “أتحدث” فيما صار سمى بـ “الإمارات” (كان لم يمر وقتها على إطلاق هذه التسمية أكثر من عشر سنوات)، ورغم قلة عدد سكاننا إلا أننا متعودون، وما يغنينا حتى أكثر من البترول هو هذا التعدد لو اعترفنا به واختلطنا، وتغيرنا بمعرفته وتغيِّر بمعرفتنا... أو إلى آخر تلك الهواجس التي عنوتها بعد ذلك بـ “التعدد الضحل”. وبعد أن تعرفت عليه، بدأ علي وبعض من كانوا في مجموعته بالاندماج في الفضاء العام الذي كانت تتحرك به “القائمة الطلابية” في جامعة العين. وكان بإمكاني أن أمضي مع خيط السرد هذا حتى العشرات من الصفحات، ولكن بودي أن أختم هذه الورقة بما حدث لعلي العندل بعد ذلك. فالمتخرج فلسفة و”البلوشي” وابن تلك الأسرة الفقيرة كان من الصعب أن يتحقق. ليس هذا فحسب، بل أن الأسئلة التي كانت تحاولُ الولادة والتشكل وقتها حول الوحدة والدولة، ومن ثم الحياة والموت قد وُضعت في ركن صغير تتلقى منه اللكمات ومن كل الجهات... بينما أكفهر العالم في أواخر وبداية التسعينات حين استبد المتدينون بالمشهد وأغلقوا باب السماء على الحياة وعلى الأسئلة معاً. وبظني فإنه ومن تلك السنوات بدأ مشروع “الرؤيوي” الذي كان في طور التحول، والذي كانت تنطوي عليه روح العندل بالاحتضار، فمشروع من هذا النوع، وقرب نادي “الشعب” في الشارقة لم يكن مصيره إلا الانسحاق. الخسارة لا معنى لها سواها وسوى فداحتها السرّية العَنْدَل.. الحارس السخي عبدالله حبيب * لستُ فريدريكو غارسيا لوركا ناعياً صديقه مصارع الثيران الشجاع إخناثيو سانشيز ميخياس الذي خرَّ صريعاً في الحلبة كي أكتب شيئاً من قبيل: في يوم السبت.. في يوم السبت، 5 يونيو.. في يوم السبت، 5 يونيو 2004.. في يوم السبت، 5 يونيو 2004، ماتَ.. في يوم السبت، 5 يونيو 2004، مات علي.. في يوم السبت، 5 يونيو، 2004، مات علي العندل. علمتُ بالخَطب الذي ليس من واجب كثيرين ولا من حق كثيرين أقل من البشر أن يعبأوا به عبر مقالة للصديق أحمد راشد ثاني منشورة في الصفحة الثقافية في عدد الثلاثاء من صحيفة “الخليج” الإماراتية، 8 يونيو 2004. مات شاعر “مجهول” آخر إذن، ومن هنا فإن الخسارة لا معنى لها سواها، وسوى فداحتها السرّية التي لم يُفصل حبلها العلني من السماء. مات شاعر آخر مبكراً جداً في رقعة من التاريخ لا تتجه نحو الشعر، ولا نحو لنثر، بل تتعجل الإندثار. مثل ابن بلده الجلفاريِّ جمعة الفيروز من قبله، كان علي يذهب إلى الموت في كل لحظة من حياته القصيرة والمرتبكة بمحض الموهبة الشخصية الفائقة، والفطرة، والنَّزق، والغريزة، والرغبة، والتجربة المحنَّكة المكتسبة باكراً وبسرعة رَامْبَوِيَّة. ولكنه، في دعابة شعرية باهظة، كان أكثر ضجراً من أن يتذكر أن عليه العودة من النوم ذات صباح. موتهما النومي، أو نومهما الموتي ـ جمعة الفيروز وعلي العندل، قصدتُ ـ يجعلني، للمفارقة، أستحضر روح ذلك الشاعر الفرنسي الذي كلما أراد الذهاب إلى النوم علّق على باب غرفته لافتة تقول: “الإزعاج ممنوع فالشاعر يعمل”. إنهم جيمعاً “يعملون”، وفي هذا ما يطمئنُّ، ويطمئنُ، ولو قليلاً؛ لأنهم لن يَكُفُّوا عن العمل - لأنهم لم يتوفروا على خيار أفضل. التقيت علي العندل، الذي أصدر بصورة شخصية كرَّاسة شعرية واحدة محدودة التوزيع، ونشر نصوصاً قليلة هنا وهناك، وكتب نصوصاً أخرى لا تزال مخطوطات بعضها موجودة عند بعض أصدقائه.. التقيت به، إذن، مرات قليلة ومتباعدة في خضِّم سنوات كل منها ينوء بثلاثمائة وخمس وستين غصَّة. بيد أن لقائيِّ الأول والأخير به، وقد كانا الأطول في حفنة تلك اللقاءات، كانا ولا يزالان كفيلين بألا يغادر ذاكرتي ما عِشْتُ وما مِتُّ. كانت المرة الأولى عند الضحى، والثانية في الليل؛ والمفارقة الزمنية الرمزية تلك صارت الآن بالغة وبليغة. في أول مرة رأيته فيها، في أول النهار، أخرج علي العندل عُبوَّة دواء من جيب دشداشته، لكنه لم يجشِّم نفسه عنآء تناول أقراص “الفاليوم” المهدئة، الموصوفة له طبياً، مع حسوات من الماء كما يُفترض، بل كان يهرسها بأسنانه كما لو أنها كانت ضرباً من المكَسًّرات. لا زلت أسمع طقطقات الضُّحى بين فكيه عظاماً هشَّة لفَرُّوج صغير، مشوي وشهي، كان ينبغي أن يُلتهم ليلاً (هكذا قلت لنفسي على الأقل). لكن جَاكْ فاشْيْهْ كان يتناول فُستقاته الأثيرة بطريقته الخاصة. وإن كنتَ ممن يحترمن أنفسهم عليك الحذر كل الحذر من ارتكاب توجيه أي نصح أو إرشاد إلى جاك فاشيه! بعد سنوات من ذلك، تصادفنا في أحد المُنتبَذات. في تلك الليلة كنت في غاية الغم والاكتئاب وعدم الرغبة في الحديث إلى أي إنسان، أو بالأحرى عدم القدرة على ذلك الحديث أساساً. ولذا ولّيتُ وجعي شَطْرَ منتبَذٍ قصيِّ على أمل أن لا أجد في روّاده من يعرفني فتزيدني ثرثرة الرفقة الاضطرارية كَمداً على كمد، لكن علي العندل كان هُناك، أو أنه جاء إلى هناك بعدي بقليل. كم أنحني احتراماً لحسَّاسيَّته وإنسانيَّته الغامرتين اللتين جعلتاه يدرك فورّاً أني لست في مزاجِ حديثٍ، فقدَّر رغبتي في الصمت واللوذ، حيث لم نتبادل سوى بضع كلمات خلال أربع أو خمس ساعات قضيناها في المسمر الهذار. لكنه، في الآن ذاته، شعر عميقاً بكربي الذي لابد جعله يحس أني كنت على شفا انهيارٍ أو انفجارٍ ما؛ ولذلك أصرَّ بنبل شديد على “حراستي”، فلم يبرح المنضدة العَبوس المتجهِّمة التي لم يكن الوقح الجالس إليها جديراً بالمنادمة. أتذكر جيداً أنه، في الصمت الثقيل ذاك، كان يبتسم كثيراً، وبطريقة تضامنيَّة وتشجيعيَّة، كمن يحاول أن يشد من إزرك بالقليل الذي لديه، والذي هو، في الوقت نفسه، كل ما يملك. آخر ذكرى لي منه، إذن، هي ابتسامته السخيَّة التي ودعني بها في تلك الليلة قبل نحو من عشرين سنة. ثم ذهب علي العندل إلى النوم. هُناك، في ثمانينيات القرن الماضي، لم يكن أمام كوكبة من الكائنات الأثيريَّة سوى أن تضيء. لكن، على عكس النجوم والأقمار والشموس ومدمني الكاميرات والمنابر والمايكروفونات، كان على فراشات النار تلك أن تظهر بسرعة، وأن تغيب بسرعة (حيث “غابَ” تعني “ماتَ” في دارجتنا الساحليَّة) تقريباً في ما يشبه الخِلسة، وكمن يعتذر بصورة متطرفة جداً عن أذى طفيف داً، وغير مقصود أصلاً. علي العندل كان في طليعة تلك الحشرات الانتحارية الرائعة. شكراً وامتناناً كثيرين له لأنه كرَّس أبع أو خمس ساعات كريمة من عمره الحَرِج لأجلي، وتحية كبيرة له لأنه عاش قليلاً، وكتب قليلاً، واعتذرَ بإسراف عما “جناهُ عليه أبوه”، ومات قليلاً، كما ينبغي تماماً. * من كتابه “رحيل” الصادر عن دار “الانتشار العربي” أربع شهادات تستعيد الصداقات المتوهجة مع الشعر والخسارات والحياة العابرة علي العندل.. شاعر الرؤية المحطَّمة تضيء الحياة القلقة والجامحة للشاعر الإماراتي الراحل علي العندل مناطق مجهولة ومغيبة في المشهد الشعري المحلي، وهي مناطق على ندرة حضورها وتوهجها الإعلامي إلا أنها خلقت في أوائل التسعينات من القرن الماضي ما يشبه الصدمة للواقع الشعري الراكد بمستوياته الأفقية والمستقرة. خرج العندل من معطف الذهول ومن طقس الغموض والرعشة الروحية، كي يثير كما من الأسئلة الحارقة والانتباهات الشائكة حول الحداثة الشعرية وحول القصيدة المتجسدة كأصل وحياة وسيرة ضارية. اختار العندل العيش على الحواف ومنادمة اليأس، ولكنه استقر في وهج الكتابة، ففي غرفته المضيئة بعتمتها الخاصة، دوّن العندل سيرة الكوابيس واللعنات، ولذة التمرد، وكل ما يمكن أن يصنع من اللغة بيتا للأرواح الضاجة والساطعة، إنها لغة البرق والشرارات والخيمياء والأسرار، هي ما جعلت قصائده وكأنها نُزُل مدبّرة للهاوية، وعواء يكهرب الموتى والنيام وكل المخدرين بالطمأنينة. إبراهيم الملا غاب علي العندل فجأة كي يترك لنا إرثاً من البرق والكوابيس والشعر المقترن بخرافة، ولأن (كل القمصان لا تليق به) فقد اختار (غابة كل أشجارها هو)، مزج شعره بدمارات الداخل وقسوة الخارج، ولم يلتفت للخوف والحوائط ولا نهاية الغرف، وكان يرفض أن يكون العيش مجرد مهنة اجتماعية وضيعة، وكانت الحياة بالنسبة إليه تمجيداً للبطء وتكريساً للاختفاء، وهي صنيعة عناد متكرر ورفض أبدي للشرط، أي شرط، وفي أي مكان وزمن. تمجيد الاختفاء كان علي في شعره ومقارباته النثرية والفلسفية وكأنه يكتب مخطوطات على الماء، مخطوطات سائبة وسارحة ومتلاشية تنتظر التبخر أو الغرق. كما أن الحياة ذاتها كانت تمثل له تهديداً دائماً، لأنها مصدر قلق وتشويش وصداع وفوضى. ظل علي يهاجم الحياة بالصمت وبالتأملات الحارقة والحدوس المنتمية للشبق الغابوي، ولطفولة التاريخ البشري، ولطفولته الشخصية الخارجة من سحر وطقس ومثال. ورغم نتاجه القليل والمبعثر هنا وهناك، فإن كتابات علي العندل كانت مشبعة باليأس والعدمية والتصاوير الداكنة. وكانت اللغة هي آخر ما بحث عنه علي، لأنه كان يعيش بطالة شعرية ممتدة، وكان محاطاً في داخله بعزلة وحشية وفرادة مستعرة، وجسّد بتكوينه الفسيولوجي والاجتماعي حياة الشاعر الملعون والطريد والمنتهك، وكان في جل نصوصه يتغذى من تعاليم المتاهة وأساطير العذاب واللامعنى، وكأنه قادم من أزمنة معطوبة وجوفاء ومهشمة، أزمنة لا تشبه حضوره الحالي في المكان وفي الوقت. وهو لم يكن ليحتاج إلى دربة واختمار ومراس في الشعر ليكون حرياً بلقب هو من عادات مثاقفة وديدن صفات ونعوت أدبية. كتب علي الشعر بنفاذية جسده في الأشياء، وباختراقاته الروحية التي تصطدم وترن وتتكسر، كتابة كأنها الوشم والحجب والتعاويذ والتقاء الجمرة باللحم، كتابة منسابة وحارقة مثل دمه اللزج، وجروحه وبثوره وجلده المليء بالكدمات وآثار العنف والارتطام الهائل بالوجود، هذا الوجود الذي لم يتصالح معه علي أبداً. عندما أتذكر علي العندل الآن، تقفز أمامي مباشرة تلك الملامح العاطلة لوجه يمتزج فيه الهدوء بالبراءة الضارية، وأتذكر ابتسامته التي تخبئ خلفها طابوراً من الأسى، كأنها ابتسامة الرهبان المتمردين على الطمأنينة أتذكر أيضاً عينيه اللتين لا تنظران إليك ولكن تنظران من خلالك، بتلك الرؤية القلقة والحائمة والعصية على التعيين، وكذلك صوته وعباراته التي تخرج متثاقلة وكأنها تصارع أمواجاً وهمية في الهواء، وأحاديثه التي تنتقل بك من عوالم رامبو ولوتريامون وبودلير إلى عذابات السهروردي القتيل والحلاج وجلال الدين الرومي، ومكابدات ابن عربي وسوداوية بشار بن برد. عندما أنظر الآن لمخطوطات علي العندل التي كتبها بخط يده أحس بهذا الكائن المشعوذ والخيميائي والرائي الذي حاول أن يوسع رؤيته وحياته وأفقه، كي تحتمل كل إشارة وكل لمحة وكل عبارة، وكي يتورط عميقاً في الفلسفة والشعر والهذيان الصوفي والماورائي، وكي يكتب مذكراته السرية المليئة برائحة التبلغ واللعنة المطبوعة على الورق، والتي دوّن بعضها في مخطوط بعنوان (الدكتور ونصيحة التمزيق)، ومخطوط آخر بعنوان (تضارب الأسلاك) المليء بالتوق الحارق لخلاص لن يأتي، تماماً مثل قصائده المتناثرة والمستندة إلى فراغ متكئ هو الآخر على فراغ، في كتابة تشبه النحت العشوائي على صخرة مهددة قرب الحواف، كتابة مسترسلة بآلية تنبذ كل قصد وتتلافى التزيين والتزويق والربط، كتابة كأنها منذورة للخفاء وللعين المحرمة. المعلم: شاعر الغياب يقول هاشم المعلم في شهادته عن علي العندل: شاعر آخر، رحل عن عالمنا الفاني، كان يلون نوافذ حياته بألوان الغياب، اللون الذي ليس له شبيه أو قرين. انه اللون الأشد قتامة وشراسة، إن لم يكن هو الموت، القناص ذو المخالب الطويلة واللامرئية والذي يسقط قلب فريسته بطرفة عين. خسارته فادحة لا تحتمل، حبلى بأمواج من السكاكين تضرب سواحل الروح وتدك معاقل الذكريات، كيف لا وأنا استعيد بعضا من المواقف الإنسانية والذكريات والصور التي تسيل من مخيلتي الآن وتقفز من بين السطور؛ ذكرى لصديق. ويضيف المعلم: رحل الشاعر علي العندل يوم السبت 5 يونيو / حزيران 2004م وهو في بداية الأربعينات من عمره. رحيل مبكر بكل المقاييس لشاعر لم يلتفت لصخب الحياة وبريق العالم الزائف، ولم يكرس تجربته (للمنابر والمايكروفونات والكاميرات). شاعر مفتون بالغياب كما كنا نحسبه إلا ان غياب العندل غياب قسري بأنياب وبمخالب شرسة لا ترحم ولا تستكين. غياب ليس له بداية او نهاية، لا طريق له سوى الهلاك، ولا غنيمة له سوى الخسارة والذكريات المقرونة بفداحة سوداء. هكذا الشعراء عبر العصور والقرون ومن بين صفحات التاريخ يطلون، كضحايا مواقف، وشهداء الكلمة، ولا أثر يدل عليهم في صحارى الليل البشع، سوى هذا السحر اللامرئي الذي يسيل من أصابعهم. الشعر مرآة لروح الشاعر المتمردة، إن لم يكن الشعر هذا النزيف الذي يطفو على ساحل القلب والمتسرب عبر الضوء من خلال ثغرات ضيقة للحياة والبؤس والفاقة فماذا يكون إذن؟ ويتابع المعلم: “علي العندل” شاعر تجاوز عمره بسنوات عبر اطلاعه المعرفي، بل هو شاعر من طراز نادر، ليس على مستوى الكتابة كشكل ونسق، ولكن على مستوى تجربته المعيشية وسلوكه الشخصي. علي العندل اسم يجهله الكثيرون الآن، كما كان مجهولا ومغبونا في حياته القصيرة المنكمشة. وقد عرفت شخصيا مدى تأثير “التجاهل” المتعمد الذي رافق “العندل” ومدى تأثير الوصايا والمكائد التي ظهرت من تحت الطاولات، ونفخ الأبواق على خشبة المسارح وتأثيره في المستوى الإبداعي والإنساني على تجربة علي العندل. كثيرا ما سمعته يرفض لقب الشاعر، إيمانا منه بأن كل ما يحاوله هو ترجمة بعض مواقفه الفلسفية وتأكيد خرافته الموصولة بخرافة العالم: حيث البياض الساحر الذي يترجمه الآخر بأنه “الشعر”. مارس علي العندل الكتابة وتعاطى الشعر بقوة في بداية الثمانينات من القرن الفائت. حين كان طالبا في جامعة الإمارات ومنه أصدر وبنشاط مجموعة من المنشورات أبرزها: “أشلاء الأرانب” برفقة ثلة من الأصدقاء المؤمنين بالمغامرة الشعرية الحديثة. كان جل اهتمام العندل وضع مؤشر البوصلة عكس الظن: في وقت كانت الساحة أشبه بحقل مترهل إلا من أعمدة يابسة ومتآكلة، ومن هنا باتت عملية التنفس الشعري المغاير من خلال العندل ورفاقه مطلوبة وملحة، لكن لم يدم ذلك طويلا. ذهب الرفاق حيث تقتضي الأعراف والتقاليد وأسطرة المجتمع وبقى العندل في وحدته صارخا في البرية (كل القمصان لا تليق بي أريد غابة بعيدة، كل أشجارها أنا). تشبث بأفكاره وببيانات (الحماريون ) ــ النشرة التي أصدرها أثناء دراسته الجامعية ــ حتى آخر رمق. تأثير العندل سيبقى على المدى الطويل وربما تترجمه الأجيال القادمة. وحين دخل العندل في عزلته المقدسة لم يتوان ولم يندم لا على بريق العالم ولا على ذهاب عافية الشباب، ذهب إلى بياضه (بياض الشاعر) لم يكبر العندل إلا على صوت المطارق والقيود ولم يسترح إلا خلف حيطان باردة وبين ردهات المصحات العقلية، ولم يبصر يدا ممتدة للتسامح، وهي الغنيمة الوحيدة التي كافأته بها الحياة، رغم ذلك بقى وحيدا وعنيدا مثل ذئب جريح يعوي في البرية وهذا النداء لا يطفو على السطح، عواء جريح ونزيف داخلي. ويختتم المعلم شهادته بالقول: امتدت صداقتي بـ (العندل) لسنوات طويلة، وكنت التقيه في مقاهي الشارقة أو على ساحل عجمان قبل وفاته، وكلما أتذكره تسبقني هذه العبارة التي يرددها على سمعي “الضحك لا الزمان حطمني”. وبعد رحيل العندل زرت الأمكنة وهي خالية وكأنها تتثاءب من الخجل. غاب العندل في منامه الطويل وترك الباب مواربا ربما ليتسلل الموت خفيفا هادئا ليشاغب روحه أو ربما تعمد ذلك كي لا يؤذي أو يخدش نوم الجيران ( وأنا متأكد أن الجيران لم يسبق لهم التعرف على ملامح العندل). كل هذا المجد والتبجيل والغياب العالي أشبه بعزلة النسور حين تداهمها هواجس الرحيل وهي في قمم الجبال. بياض في بياض. روحك وأنفاسك الملتهبة بنار الشباب في غابة وحيدة كل أشجارها “علي العندل”. المطروشي: الناسك.. النحيل أما أحمد عبيد المطروشي فيقول في شهادته عن علي العندل: ناسك نحيل عيناه غائرتان في جوف الكون، هكذا قابلته صدفة على شاطئ عجمان، جلس دون حراك، لم يتفوه بأية كلمه، ظل صامتا لفترة طويلة من الزمن ثم أشار إلى القمر وقال هو لم يمت، بل أراد أن يختفي عن البشر، شعرت أنه أشار إلى الموت نفسه، كلماته كانت أشبه باحتجاج مدو ضد الحياة. رحلت دون أن أسأله عن اللغز، وظل السؤال يطفو في ذاكرتي حتى اليوم. ويردف المطروشي: العندل شاعر قاس ومتمرد على الحياة، وإحساسه بالشتات خلق لديه نوعا من الشراسة البريئة تجاه واقع قسى عليه كجلاد وسحق معه الكثيرين دون إحساس بالشفقة. رحيله خلق خلودا مفتتا احتشد وتدفق في نصوصه، تلك النصوص التي تخطت الزمن الذي عاشه وحيدا ومنفردا بعالمه الضبابي. العندل مزج الشعر بطقوس روحية ويقظة داخلية كي يفكك ما كان بالنسبة له مجرد عبور إلى ما بعد الحياة، إلى مكان مطلق بعيد لا تتجه إليه بوصلة. العسم: رحيل موصول بخسارات ويعتبر أحمد العسم أن فقدان شاعر أو مثقف، هو فقدان يحمل في طياته وجعا مضاعفا وغائرا يكمل معه منظومة الخسارات الثقافية لمشاريع أدبية لم تكتمل، ولرؤى شخصية وانتباهات شعرية كان يمكن لها أن تضيف الكثير للرصيد الجمالي والمعرفي في المكان. ورحيل شاعر مثل علي العندل لابد وأن يمسنا نحن الشعراء وكأنه جرح يتبدل ويتلون ويماطل في قسوته كلما هبّت ذكرى، وكلما أينعت صورة أو تناهت قصيدة من إرث الشاعر الراحل. ويضيف العسم: لم ألتق العندل كثيرا، ولكن التوافق الشعري الذي جمعنا كان أشبه بلقاءات روحية دائمة. كان الاحتفاء الصامت هو الذي يجمعنا من خلال القراءات المشتركة، وكانت ثمة سريرة هادئة تتأرجح بلطف في المسافات التي تفصلنا، وأذكر أننا لم نتكلم كثيرا في لقائنا الأول ولكن ما جمعنا روحيا وكتابيا كان أكبر وأكثر شساعة من الحوارات التي تتبخر في سماوات الغفلة والنسيان. غياب العندل ذكرني بغياب مماثل للشاعر جمعة الفيروز، فهذا النهم وهذه الشراسة الإنتاجية التي جمعتهما كانت تعمل ضد البلادة والاستهلاك الثقافي الشائع في المكان، ومع فارق وحيد وجوهري هو أن العندل كان يقفز إلى الموت، بينما كان الفيروز يقفز إلى الحياة، وكلاهما كان يملك رصيداً كافياً من التأمل بحيث تحولت فكرة الموت في كتاباتهما إلى نشيد متواصل للغياب الأبيض والوجود الذاهل عن كل قصد. أراد العندل أن يعانقه الصمت في غيابه الأخير والمؤكد، بينما ذهب الفيروز إلى حياته الخاصة واللامعة وسط كتاباته المؤجلة ومشاريعه المتوالدة في ذهن أصدقائه والمترددين على قبره الباهر، الذي يعلن عن حضور مختلف ومتجدد في الذاكرة ومتواليات الوقت. السبب: يقذف بوصيته ويبتسم لم يظفر عبد الله السبب بلقاء حقيقي مع علي العندل لكنه، كما يقول، التقى بأصدقاء العندل، بقصائده، بنصوصه، وباللصوص الذين استولوا على طمأنينته وعلى ابتسامته اليتيمة حد التلف.. إلا أنني لم أظفر به، بصوته، بصورته. يمتد العمر ويطول، ينكمش الزمن ويختزل .. فيما الرغبة الجامحة بلقاء ذلك الشاعر الجميل لم تتحقق. ويتابع السبب: ترتكب الدائرة فعلتها الأبدية، وتمارس دورانها الأزلي.. فيما كنت أمارس لعبة اللقاء الصامت به، مدججا بخسارة الشعر وشفافية القصيدة. أرقبه من بعيد، وأقرأ سيرته عبر نصوصه المتناثرة هنا وهناك.ثم .. هاهو الصديق الشاعر والفنان التشكيلي الجميل محمد المزروعي، يقدم لنا في العام 1990م مخطوطة “ الروليت “ لعلي العندل . وفي العام 1998م، وبرفقة الشاعرين هاشم المعلم و إسماعيل الدولي ، وفي ساحل الزوراء في عجمان، عند طرف لسان بري معانق لصفحة الماء، ألتقي بالشاعر علي العندل وفي معيته المثقف الجميل محمد المظلوم. هناك .. قدمت له مجموعتي الشعرية الثانية “عصر”، فقدم لي وصيته القاسية مثل قصيدة برية لا ريق لها ولا عاطفة: (يا عبد الله، يا صديقي: الكتابة سلعتنا الخاسرة، ولا مفر منها الآن . اعتني بنفسك يا عبد الله، واستمر في رحلتك بحذر)!!. هناك .. أدركت أن العندل كان ضحية شهية لقراءاته وفلسفته الصافية. وهنا، واليوم، أدركت أننا الخاسرون الكبار في حضرة خسارته الصغيرة. هنالك التقينا ، وفي يوم السبت 5 يونيو/ حزيران 2004م ، وفي مقر اتحاد كتاب وأدباء الإمارات برأس الخيمة، وفي اللحظة التي كان الأستاذ عبد الجليل السعد يجري معي حوارا لنشره في “دنيا الاتحاد “، يطل علي الصديق هاشم المعلم من شاشة هاتفي لإخباري بنبأ رحيل “علي العندل “ بهدوء ودون ضجيج كاذب. رحل العندل كما عاش تماما.. بهدوء. وبهدوء مرت ذكرى رحيله كأن شيئا لم يكن . نم، أيها العندل في قبرك .. ودع لنا خسارة الشعر، وقلق الكتابة الخربة!!. المسافر الأبدي (هذه قصيدة كتبتها وتولدت من ذكرى رحيل علي العندل الذي أربكنا جميعا ووضعنا أمام مصيدة الموت دون مقدمات) أحمد عبيد المطروشي تشققات أحدثتها صرخة صمت على بعد خطوات منك تعرف الليل جيدا قبل أن تحلم بلون فيروزي يأخذك نحو عتمة تؤرجحك منذ الطفولة لا يوجد طريق للعودة للبيت، لا توجد مدرسة غريب ووحيد أنت ، مسافر أبدي جهة اللا حزن، كحرقة فرت في الحقول تبحث عن معبد الخلود هذيان وسط غرق يسمع كل لحظة موت تتناولها ارتعاشة يديك من ظهيرة بلا خطايا مزقت حجب الهدوء بحثا عن سرير النور عن حمامة بيضاء كوجه القدر ظلك الطويل يزحف تحت الموج حين يمزج التراب بأزقة الحزن دخان التبغ يرسم الوجه النحيل على قطعة قماش مضطربة سقطت من قطار مسرع إذا انحنت الشمعة تبخر الحلم تحول الطين جسداً بحجم القلق والفجر والوسادة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©