الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أنا وهايدي·· و التيس !

أنا وهايدي·· و التيس !
22 ديسمبر 2007 23:38
في طفولتي السحيقة كنت أقضي الصيف مع جدتي وجدي ''رحمه الله''، ولكي تعيش مع رجل وامرأة يسبقانك بنصف قرن من العمر، عليك أن تعود نصف قرن من الحضارة، وأن تحاول أن تؤقلم نفسك على أنك محب للتراث والبدائية، وتنبذ تشغيل ''الكنديشن'' لأنه يسبب ألم المفاصل، وتتحمس لمدح (الفيكس) وفوائده، و(لبن البوش) وأهميته العظمى، وتتعلم ''النبش'' في التراب المبلل للبحث عن (اللومي الأخضر) المدفون أسفل (تانكي الماي) أو أن تنطوي متشرنقا في فراشك كل مساء تتمنى لو كنت بطلا من فيلم كرتون يطالعه الصغار عند الرابعة مساء كل يوم! كان خيار عد النجوم في السماء الصافية، وتمني لو كنت (هايدي) فتاة جبال الألب هو الأفضل لي مع أنني كنت أعيش بين الكثبان الرملية، أتسلق أشجار اللوز (البيذام)، وأجاري جدي، حتى صدقت الكذبة وبدأت أفرح مثلها حين علق لي جدي أرجوحة بدائية كأرجوحته في سقف (السبلة) لأتمرجح وأغني وأنسى أني (حرّانة) وأحلم بالمكيف! في تلك الفترة كانت جدتي تحرص على تعليمي الأشغال المنزلية، وأهم هذه الأشغال المنزلية في نظرها تربية الماعز ورعاية الدجاج! وكان عليَّ أنا النحيلة الشاحبة أن ألاحقها من حظيرة الدجاج إلى (عزبة الدبش)، وأن أراقب نمو كرش الماعز (المعشرة) وأن أحصي عدد الدجاجات مع كل غروب، وقمة المأساة عند جدتي أن تتغيب عنزة عن القطيع في المساء، هنا عليَّ أن أرمي خوفي ورائي وأن أمسك بطرف (شيلتها) وأحمل مصباحي اليدوي (البجلي) وأبدأ البحث معها· جدتي التي لم أذكر يوما أن نظرها كان قوياً مذ وعيت العالم، كان عليها أن تجبرني على البحث معها لأنني صغيرة ونظري ''أحسن''··! ولا أعرف بالضبط من أخبرها بهذه المعلومة التعيسة عن نظر الصغار لكنها كانت لا تتردد في جرّي للبحث عن الماعز التي تخلفت واختبأت في مزرعة أحد ما· ولو كانت هذه الماعز ''معشرة'' فإن المصيبة تتعاظم، وتنصب كل لعنات السماء على رأس محدثتكم إلى أن نعثر على الماعز المفقودة، بعدها علي أن أتقمص شخصية هايدي إلى آخر حد خاصة بعد أن تعطيني جدتي جدياً صغيراً وتقول: رفسته أمه، لا تريده! فتتوالى صدماتي النفسية والمعنوية وأتخيل الماعز قطة تحمل الجدي الصغير لتأكله أو ربما لترميه أمام مقلب النفاية (الهول) كما تسميه جدتي· أمسك الجدْيَ الصغير الملطخ بسوائل لا أحب تذكرها، وأسحب دمعتي من عيني وأقول بصوت متقطع: مسكين! لتكمل جدتي حوارها وهي تربط الماعز في مكانها كي لا تتحرك · يجب أن نحلب الماعز ونطعم العنزة الصغيرة··! أرد ببلاهة: جدتي أيُّ عنزة فأنت أعطيتني جدياً!· تقول: هناك عنزة صغيرة لقد أنجبت عنزة أيضا!! جدتي متعصبة للنسوة في كل شيء إلا النساء أنفسهن، تدافع عن حقوق الناقة والماعز والبقر وتكره ولادة البعير والعجل والجدي، الوحيد الذي ترحب بذكورته من بين الثدييات هو الإنسان! وعجبي! بمجرد أن يوضع الجدي الصغير في حجري علي أن أتعهد بحسن تربيته وإطعامه حتى يصبح ''تيسا'' يافعا! هنا أحضر له قنينة الحليب بيدي وأخضها جيداً وألقمه إياها وأراقبه وهو يعب الحليب عبا، بعدها يتعلق بي التيس ويجري خلفي ليناديني ''ماء·· ماء'' وتتضاحك علي فتيات الحي قائلات إنه يناديني (ماما)·· مما يصيبني بالغرور وأشعر بأني حنونة أكثر منهن وهن اللواتي تهرب القطط الصغيرة والدجاجات من أمامهن، وكنت أعلن فخري على الملأ وأنادي (تيسي) الصغير كي ألقمه بيدي (الجت) وأشكو له عن تعنت صديقات الطفولة ليبادر هو بنطحهن انتقاماً لمشاعري الجريحة، كان ذاك التيس فهيما جدا ومقدرا للإحساس فعلاً، لكني أنا الجاحدة لأني لم أمدح في حياتي لحماً طيب المذاق بقدر ما مدحت لحمه الطري ولم أدر بأني أتلذذ بلحم صغيري (تيسو) إلا بعد أن شبعت جيدا على ذاك الغداء، لكنني لا أنسى أبداً أني بكيته بحرقة بعد أن غسلت يدي·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©