الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ورشة قيم

ورشة قيم
5 مايو 2009 00:07
نمتلك - والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه- منظومة هائلة من القيم المضغوطة، وكأنها ملايين البيانات المختصرة والمرمزة في عدد من الكلمات والعديد من الأحرف والمخارج الصوتية، كل منظومة منها تحمل قدراً هائلاً من الحيل النفسية والدهلزات على الذات، أولاً وأخيراً، لإقناعها بشكل مراوغ وملتو بأن الأمور تجري لصالحها تماماً، مهما كانت، هذه الذات (الأنا)، مهزومة ومقموعة ومكسورة وخسرانة. المنظومات الملتبسة هذه تأتي على شكل حقن دماغية مغلفة بسكّر التشبيهات الضمنية وأبيات الشعر والبلاغيات المواربة، التي تقول كل شيء دون أن تقول شيئاً حقيقياً.. إنها فقط عملية خداع ذاتي يعرفها الإنسان ويقع فيها عن سابق إصرار ولاحق تصميم. لاحظوا معي هذه الحكمة: (ما طار طير وارتفع الا كما طار وقع). انها تعطيك إيحاءً بأن الآخر الذي تفوق عليك وحلق عالياً في المستوى أو المال أو الجاه أو القوة، أو يتحكم بك، ويظلمك ويسرقك دون أن تستطيع المقاومة، مصيره السقوط، تماماً مثل الطير الذي يرتفع، ولابد أن يسقط على الأرض عاجلاً أم آجلاً، فترتاح وتهنئ نفسك على بقائك تزحف على الأرض، فيما يحلق الآخرون. لاحظوا أن العبارة تنطلق من بديهيات علمية فيزيائية توهمك بحقائق أخلاقية تريحك وتجعلك مرتاحاً وأنت تتمرغ في طين الفشل.. بالطبع سوف يسقط الذي ارتفع.. ولو بالموت، لكنك لن تكون بحاجة الى السقوط لأنك لم ترتفع أصلاً.. وهذه هي عين الحقيقة التي لم تفكر فيها أو أنك تتناساها قاصداً، يا أنت ويا أنا ويا هم ويا نحن. عبارة أخرى تقول: (إذا طعنت من الخلف، فمعناه انك في المقدمة).. يا للهبل !! الا يمكن أن أطعن من الخلف وأنا هارب، أو نائم أو ساه أو مسطول أو (....) لا تصدقوا أن الذي يطعن من الخلف يكون دائماً في المقدمة، لكنكم تصدقون ذلك حتى توهموا أنفسكم، وتحولوا، واهمين، الجبن الى شجاعة والهروب الى مواجهة والفشل الى نصر.. لكن هذا كله كلام في كلام في كلام، ولن يغير من الحقيقة والواقع شيئاً..عفواً، سوف يغير، لكن الى المزيد من الفشل والهروب والجبن. حينما يتعرض أحدنا الى مسبة قوية يكرر بيتاً شعرياً نتداولة كتميمة أو (حجاب) أو فاسوخ ضد هجوم الآخر، والبيت هو: واذا اتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل لا أعرف لماذا تكون مذمتي من ناقص شهادة على كمالي واكتمالي وهل ينبغي أن أحضر مجنوناً أو تافـــهاً ليشـــتمني لأثــبت للنـــاس اني كامل . مهما يكن فإن لهذا البيت تأثيراً سحرياً عابراً للزمان والمكان، اذ سرعان ما يتراجع المهاجم الأول ويسكت عن الكلام المباح. وليس آخراً، نحن بحاجة الى ورشة لغة.. بل ورشة قيم وعادات وتقاليد نلقي فيها هكذا حثالات لغوية الى مزبلة التاريخ، ونعيد إنتاج قيم أكثر جدوى وواقعية وحقيقية، مهما كانت حقيقتها جارحة، اذا لم نشرع في ذلك من الآن فإننا مهددون بالخروج من جغرافيا التاريخ منبوذين في زواريب الزمن الخلفية، ونحن نتخيل بأننا نجلس على قمة العالم. ونشرب الماء كدراً وطيناً وبلهارسيا، ونحن نعتقد اننا نكرع مياه صافية. أو أن صبياننا هم أسياد العالم و(تخرّ) لهم الجبابر ساجدينا، وإننا نملأ البحر (سفينا) ولم نكن نجيد مجرد السباحة آنذاك. إنها معركة حياة أو موت.. معركة بقاء أو فناء ....!! يوسف غيشان ghishan@gmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©