استطرادات تقشير غونتر غراس

بلغ الكاتب الألماني غونتر غراس الثمانين هذا العام· ذكرياته المثيرة للجدل المعنونة ''أثناء تقشير البصل'' لم تمنع الاحتفال بمولده والاحتفاء به· فهو صاحب نوبل 1999 وسلسلة الروايات الشهيرة منذ ''طبل الصفيح'' 1959 التي جعل سيرته الذاتية المقلقة تتوقف عندها بعد أن بدأت بطفولته طبعا· عربيا كان حضور غراس سابقا لنوبل، أشعاره ومسرحياته ورواياته منتشرة وكذلك مواقفه السياسية، ولقد عززها ووثقها حضور غراس إلى اليمن مرتين في الألفية الثالثة، وما أعلنه من مواقف داعمة للعرب لا سيما تجاه الاحتلال الأميركي للعراق وحقوق الفلسطينيين· مجاز البصل في عنوان السيرة ذو دلالة، فالسرد يتم كما يتم تقشير البصل: كل غلاف يؤدي إلى غلاف آخر، أو قشر يخفي قشرا· وكان رولان بارت قد شبّه الوجود النصي بذلك معتبرا النص أغلفة تؤدي إلى بعضها عند التحليل، وكان غراس يقوم بمثل ذلك في سرد ذكرياته: الحدث يقود إلى حدث آخر، يقود بدوره إلى حدث·· السيرة الصادرة أواخر 2006 تعرضت بالضرورة لأحداث حرجة ومهمة في تاريخ ألمانيا (بلد غراس) وفي العالم لكن ما استوقف قراءه ونقاده تلك المعلومة التي أخفاها ستين عاماً: انضمامه أواخر الحرب العالمية الثانية إلى الفرقة النازية للحماية (ss) وهو في السابعة عشرة من عمره ولفترة وجيزة لم يخض فيها أي قتال، كثيرون اعتبروا الأمر شجاعة، وفنيا كان غراس يقشر بصل حياته كما يحلو له مستجيبا لشرط الصدق الذي اشترطه منظّرو السيرة الذاتية أو افترضوا وجوده بحدود كافية على الأقل· وأخلاقيا يقول غراس إنه حسم أمرا أثقل كاهله سنوات طويلة إذ كان يذكر دوما أنه خدم في القوات الجوية· وهو في اعترافه يبرأ ضمنا من الذنب ولا يكرسه أو يدافع عنه، مما جعل تجريمه والدعوة حتى لسحب نوبل منه وانتقاده بشدة أمورا تتعدى حرية الفكر نفسها، مما دعا كتاباً من بلده والعالم للدفاع عن موقفه الأخلاقي، وحصل ذلك عربيا إذ اصدر كتاب وصحفيون عرب بيانا الصيف الماضي يدافع عن غراس قابله عرب آخرون ـ لاسيما المقيمون في ألمانيا ولهذا دلالاته السياقية طبعا! ـ بالاستنكار وأحيانا السخرية المتعالية والمتغطرسة· الحجة الممكنة والوحيدة في السجال حول غراس في نسختها العربية هي أن المدافعين عن غراس لم يدافعوا عن أدباء قُمعوا في بلدانهم، وهذا أمر مستغرب لأنه يجعل الصمت استحقاقا وعقوبة لأن الظرف لم يدع لأحد استنكار ما يجري لأسباب لا يجهلها المهاجمون المقيمون في أوروبا وألمانيا خاصة، وهي كالأسباب التي جعلتهم ينبرون بملكية أكثر من الألمان أنفسهم لمهاجمة غراس وتقديم شهادات الولاء لأوطانهم الجديدة وأماكن عملهم· لقد تجاوز منتقدوه ما قاله حول انتقام الفرنسيين من السكّان المدنيين وما سماه إذلال الشعب الألماني وفظائع الجيش الأحمر بعد الحرب وتعرض أمه للاغتصاب في قبو الدار· لقد تم تقشير غراس هذه المرة· ولكنه هو نفسه غير راغب في تقشير المزيد من أغلفة حياته التي توقف سردها عند نهاية الخمسينات·