الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأدونيسية··النسقية التي لا تنتهي

الأدونيسية··النسقية التي لا تنتهي
12 ديسمبر 2007 23:21
ماذا لو صار أدونيس زعيماً عربياً···؟! الجواب السريع هو: أنه سيكون طاغية سياسياً ومتفرد الرأي والحكم· وهذا ليس افتراضاً وتحسباً ولكنه قول مبني على قراءة في لغة أدونيس ونصوصه التلقائية المباشرة (المحكية كأجوبة صحفية ومناقشات عامة) وتلك التي هي خطاب إبداعي وفكري، وهي قراءة ناقدة للنسق الثاوي خلف فكره وليست سوى كشف للمضمر النسقي عنده، ولاشك أن هذه مسألة جدلية وقد تكون صدمة ضخمة لكثير من القراء والقارئات ممن تعودوا على وصف أدونيس بالحداثة والتحرر· وحينما تطرح جريدة ''الاتحاد'' سؤالاً حول الأدونيسية وهل انتهت هذه المرحلة، فإن السؤال مبني ولاشك على استجابة لما هو في العرف الثقافي العام من أن أدونيس ظاهرة ثقافية طاغية لها تأثيرها ولها مريدوها، وهم أتباع ومريدون تشكلوا حول المعلم بسرعة فائقة، ربما فاقت كل الظواهر الأدبية الأخرى في سرعتها وفي إخلاص عناصرها لظاهرة المعلم الأب، وهي تختلف عن الظواهر الثقافية الأخرى لأن الأدونيسية ليست فكراً نوعياً ولكنها نسق يقوم على الفرد كمعلم أول وكرمز أبوي ينضوي تحت عباءته المريدون، وإذا كان الأمر كذلك فإن التساؤلات حول وصول هذه الظاهرة إلى حد النهاية يصبح صحيحاً بل ضرورياً تفرضه القراءة الافتراضية عن سيرة الظواهر نشوءاً وانحساراً· تأمل في الظاهرة ومن المهم هنا أن نضع شيوع ظاهرة أدونيس في موضع تأمل، فالظواهر الإبداعية الكبرى والاختراقية عادة ما تأخذ وقتاً طويلاً في تقبلها وتواجه رفضاً أولياً وخاصة من الطلائع الثقافية بما إنها تحمل تغيراً جذرياً ولا تستطيع ثقافة ما تقبل المتغيرات الكبرى إلا بعد وقت وجهد، وإذا حدث ورأينا ظاهرة أدبية تحظى بقبول سريع من طلائع ثقافية عريضة فهذا يوحي بنبأ عظيم ونبأ خطير، وهو الذي نسميه بالاستجابة النسقية، والمقصود هنا بالاستجابة النسقية هو أن في الثقافة ـ أية ثقافة ـ منظومات من الأنساق بعضها ظاهرة وتحت التوظيف والاستخدام في الخطاب العام وفي الخطاب الخاص، وبعضها مضمر يثوي في المكنون الذهني، ولكنه وهو ثاو ومضمر يظل يوجه الخطاب ويؤثر عليه وإنما بصيغ دقيقة حتى لتخفى على الملاحظة العلمية العرفية، وفي هذا النوع من الأنساق المضمرة تكون اللحظات الثقافية الحساسة والخطرة، فهي من جهة تهيئ جواً نفسياً لدى شرائح من المثقفين بحيث يقعون ضحية لهذا النوع من الأنساق، وهي بما إنها مضمرة فهي تفعل فعلها وكأنما هي عمل ثوري وتمردي بسبب اختلافها عن النمط العام ولديها القدرة على مخادعة الجمهور المثقف بما تضعه من سطح لغوي ، جمالي وبما توهم به من تحول ظاهري وبما تخادع به من تقمص لدعوى الثورة ودعوى الهامش ضد المتن، وتسير الأمور تحت هذا الغطاء الذي هو من أخطر مبتكرات النسق وأقواها مكراً واحتيالاً حتى لتخدع أكثر الناس ثورية وحتى لتعطي نفسها عناوين تستفز القوى الرجعية، وحينما تهب الرجعية ضدها تتعزز دعواها بأنها طلائعية وثورية متحججة برد الفعل الرجعي عليها، وما هي في الحقيقة سوى حرب بين نسقين كلاهما رجعي غير أن أحدهما معلن الرجعية ومكشوف والآخر مضمر الرجعية ومحتال· هذه معركة ثقافية دقيقة جداً، وهي التي تجلب جماهير لكل من الطرفين، فالرجعية لها جمهورها العريض المضمون، والنسقية الجديدة ستجد لها جمهوراً يجري وراءها بسرعة وإخلاص، وسيبدو المضمار الثقافي وكأنما يحمل صراعاً بين تيارين: رجعي وحداثي، وستنقسم المعسكرات بين هذين وستأتي دراسات ومقولات ودعاوى عريضة ينتج عنها وعي كبير في أن الثقافة تعيش مرحلة ثورية وسيتأثر الخطاب العام بناء على ما يأخذه من موقف مع هذا أو مع ذاك، والذي يتعزز في النهاية ونتيجة لهذه اللعبة هو النسق المضمر حتى ليجد ممثليه ورموزه وسيظهرهم على أنهم رواد وكبار واستثنائيون· لعبة الأدونيسية هذا ما جرى في لعبة الأدونيسية، وهي ليست سوى نسق ثقافي توسل بلغة خداعة في حين تبنى كل العناصر النسقية، ولقد أفضت في شرح هذه المسألة في كتابي ''النقد الثقافيّ'' وفي كتابي ''الثقافة التلفزيونية'' واتخذت من أدونيس مثالاً عليها في الكتابين معاً، وبنيت القول فيهما على المنتج الرسمي لأدونيس فكراً وإبداعاً، وأتمم الأمر هنا بالإحالة على النوع الآخر من خطاب أدونيس وهو لغة الإجابات الصحفية وردود المناقشات، وهذه تؤكد تلك، ولاشك أن النسقية ثاوية فيهما معاً، كما ستكشف الأمثلة بعد قليل· وأقول هنا إن الأدونيسية لم تنته ولن تنتهي، وذلك لأن ظاهرة أدونيس هي مظهر ثقافي يجد فيه النسق أفضل ممثليه، فأدونيس جاء من الهامش وهو جاء بصيغة المتمرد الثائر وثار أول ما ثار على اسمه: علي أحمد سعيد، وهو كما نرى اسم تقليدي تراثي بعناصره الثلاثة، ثم ثار على القصيدة وثار على اللغة وتجول على الأحزاب والسياسات وراح يقرأ التاريخ بطريقته، وراح يجمع المريدين ويحصد الإعجاب· ولكن··· ماذا فعل··· لقد تجاوز الماضي إلى ما هو أكثر مضياً وتمرد على التقليد إلى ما هو أعرق تقليدية، بدءاً من اسمه الذي اختاره، وهو اسم لصنم وثني قديم، وفي زمن التحرر والديموقراطية جاءنا أدونيس متمثلاً شروط الاسم/ الصنم، وراح يدفع بأبوية الاسم وبأوية الخطاب، ويقدم مطلقية إبداعية تقوم على عنصرين نسقيين هما: الفحولية، والسحرانية· لقد قال بالسحرانية لأنه ظل يشير بشكل صارخ إلى أن الشعر يقوم على اللامعقول واللامنطقي، وأنه سحر لفظي، وهذا أمر يسهل تسريبه إلينا لأننا سنقبل هذين الوصفين للشعر وسننخدع بهذا القبول، وسننسى أن هذا هو تعريف الشعر على مدى قرونه كلها، وهو دعوى كل الشعراء قديمهم وحديثهم، عربيهم وأجنبيهم، وحينها سنقع في المصيدة النسقية حينما تتحول حداثنا كلها إلى حداثة سحرانية ويكون خطاب الحداثة شعرياً أو شعرانياً فحسب، ويكون خطاباً في اللامعقولية وفي اللامنطقية، وأي نوع من الحداثة هذه التي لا تتأسس على المنطقي والعقلاني· لن يصعب أن نقول إنها حداثة نسقية، أي حداثة رجعية، وإذا أفلح النسق في جعل حداثتنا رجعية فهو قد قضى عليها، ومن ثم يعزز موقعه عبر ممثله الأكبر: الأب أدونيس· ثم إذا قلنا بالفحولية، وأدونيس نموذج أصيل لها، ولنأخذ فكره مثالاً عليها فهو يقول بالأنا الشعرية الكلية، وهي الأنا المتعالية، وحينما كلفته لجنة (كتاب في جريدة) الذي تصدره اليونسكو لنشر الثقافة، كلفته بعمل مختارات للمتنبي، جاءت مختارات أدونيس لقصائد الأنا الشعرية وخلت من أي نص ذي بعد إنساني، وأكمل ذلك حينما سألته مجلة ''الوسط'' التي كانت تصدر كملحق لجريدة ''الحياة'' (15/4/2002) عن المتنبي فأجاب مقرراً بأن هناك تفسيرين للمتنبي أحدهما يقول به ذوو العقول الكبيرة والآخر يقول به ذوو العقول الصغيرة· وراح يقسم القول بين عقل كبير وعقل صغير، وحينما تتأمل بكلامه تجد أن العقل الكبير هو عقل أدونيس، وغيره هو صاحب العقل الصغير، وهذه طبعاً جملة نسقية تجعل الذات كلية ومطلقة وقولها هو الصواب المطلق، بينما تحرم الآخر من أية قيمة عقلية أو ذاتية، ثم إنه هنا يلحن لحناً ثقافياً قاتلاً، وذلك حينما يحتكم للعقل في قراءة المتنبي، مع أنه يقول دوماً بلا عقلانية الشعر ولا منطقيته، وغلطته هذه ليست غلطة ذكاء ولا غلطة تفكير، إنها إملاء نسقي صحيح، لأن النسق يجعل الذات فوق المنطق وفوق الأخطاء، وفي النسق لا تحاسب الذات ويكون الفحل هو البداية والنهاية، ألم يقل أحد أجداد أدونيس: رفعته على ما يسوؤك وينوؤك، حينما لاحظ عليه أحد اللغويين خطأ في النحو وسأله علام رفعت هذا، وقال آخر: أنا أكبر من العروض، مثلما قال أبو تمام كلمته النسقية: لم لا تفهم ما يقال، مستهتراً بحق الناس البسطاء في الفهم، وهذا كله هو السجل الثقافي لأدونيس حتى لم يعد يرى في الكون سوى شعرية الكلمات ولا يرى عقل الأشياء، ولا يرد العقل عنده إلا في لحظة الهجوم على الخصم، حتى أنه كتب عن جاك ديريدا بعد وفاته، ليصف ديريدا بأنه شاعر، (الحياة 21/10/2004) وهكذا فإن أدونيس لم ير في أخطر فلاسفة العصر سوى كلمات شعرية/ سحرانية غير عقلانية ولا منطقية، والنسق هنا لا يرى في الكون غير المعنى المتشعرن وكله قيمة بلاغية ولعبة لفظية مما يمسخ الحقائق الكبرى للفكر والعقل· وهذه الفحولية المطلقة العمياء حسب مفهوم العمى الثقافي والمتفردة النافية لمن سواها هي تطبيق عملي لشروط الاسم المختار، حيث يأتي مسمى (أدونيس) الفحل صنما من باطن المخزن التاريخي ويأتي اسماً مفرداً، ألم يقل كلمته أو عنوانه النسقي: مفرد بصيغة الجمع، أي الفرد/ الكل ويكون الجمع مجرد انعكاس كلي عام للسيد المطلق، هو الكل كما يكون الطاغية السياسي هو الكل وهو الأمة والتاريخ، حسب شعار أنا الشعب والشعب أنا الذي شاع في دكتاتوريات أميركا اللاتينية وتردد في ثقافتنا كثيراً، لقد جاء اسم أدونيس المفرد كبديل لاسمه العرفي المركب وصار المتعدد واحداً وصار الشعبي اسطورياً وبدأت رحلة النسق منذ لحظة الاختيار وتقرير المصير، وهي الكلية المطلقة والأبوية المعصومة من الخطأ، وذلك شرط سياسي مثلما هو شرط نسقي· فحل مخبوء هل ستنتهي الأدونيسية إذن···؟؟؟ لا··· طبعاً، لن تنتهي الأدونيسية، لأنها خطاب نسقي يلامس مضمرات ثقافية عميقة فينا، وهي مضمرات تقليدية صنعها الشعر على مدى قرون وتوسل بالجمالي والبلاغي من أجل تمريرها، وهي تعيش في المخبوء العميق فينا· وفي داخل كل واحد منا فحل صغير مخبوء، نستحي من كشفه، فإذا جاء شاعر كبير تحت مسمى الحداثة ومارس هذه الفحولية فإنه يحسن ما نستحي منه ويشجعنا على تبرير جنوننا وتفعيل رغباتنا المكوبتة، وهي فرصة عظيمة للنسق كي يعود إلينا من جديد، ولقد وجد النسق له ممثلاً استثنائياً فمنحه الاسم الأول: أدونيس وجعل كلمته هي العليا، وكلمة غيره السفلى· وفي العودة إلى ما بدأت به أقول لو صار أدونيس زعيماً عربياً لصار طاغية، وهذا ما تشهد به مواقف أدونيس من مخالفيه، فهو يستخدم كلمة الصديق لكل من يقف معه، وهو يثني ثناء إمبراطورياً على كل الذين كتبوا عن الأدونيسية بتبجيل وعلى كل المريدين، في حين يصف نقاده بأنهم ليسوا نقاداً ولا يفقهون النقد ويقول عن النقد الثقافي إنه تهريج وأخرجه من جنة العلم ونفاه مثلما ينفي السلطان معارضيه، ولقد وصفني مرة بأنني إمام جامع ولست ناقداً، وقال إنني سطحي وتقليدي وتافه (عكاظ 13/4/2006)، ولم لا يقول هذا··! أولست المارق العاصي والمعارض المخالف (الخائن ـ إجمالاً)، وليس بخاف على أحد لو أنني مدحت أدونيس وجعلته علامة على التحول النقدي والثقافي وبدلاً من كشف نسقيته قلت إنه الفاتح الثقافي الأكبر، لو قلت هذا، ماذا سيقول عني أدونيس، وماذا سيقول عن النقد الثقافي···؟؟؟ الجواب واضح طبعاً، وهذا ما يؤكد الصفات النسقية في الأدونيسية وهذا ما يجعلها نسخة مكررة للفحل الشعري القديم مثلما أنها صورة ثقافية أزلية للفحل السياسي والاجتماعي، وهذا يصنع ذاك وهذه تنتج تلك· وليس يعنيني شخصياً ما يقوله أدونيس عني وصدري يتسع له ولكل من يختلف مع مقولاتي غير أني أشير هنا لما تكشف عنده من نسقية متمكنة فيه، وهذا تصرف لا يملك أدونيس أن يتجنبه بما إنه يصدر عن ذهنية موغلة في رجعيتها، وتعامله مع ناقديه هو صورة لتعامل السلطة مع المعارضة ومع المختلف، وهو النفي والإقصاء، وإذا انتقدت الفحل حلت عليك اللعنة والسحق، هذا ما نعرفه من تاريخ فحول الشعراء مثلما نعرفه من سير الطغاة، وكلاهما صورتان ثقافيتان لنسق واحد، تملأ أمثلته الذاكرة وسجلات التاريخ، ولست أقول أبداً إن أدونيس يفعل ما يفعل عن سوء خلق أو سوء طوية ولكنني أقول إنه يخضع للضاغط النسقي وهو يؤدي دوراً ترسمه له المضمرات الثقافية الموغلة في رجعيتها وفي سلطويتها· والمسألة لم تبدأ من سيرته مع الآخر المختلف بل إنها تأسست من منظومته الشعرية والفكرية وهي منظومة تقوم على الأنا الكلية وعلى السحرانية كخطاب جذري وعلى مركزية الشاعر الفحل وعلى المطلق اللغوي كمضاد للتنوع القولي، وكل قراءة في أي نص شعري أو كتابة فكرية لأدونيس تعزز هذه الأبعاد وتمدها بفيض كلي طاغ وجذري (وللأمثلة أرجو العودة إلى كتابيي المذكورين وفيهما نماذج لهذا كله)· الأدونيسية ـ إذن ـ لن تنتهي، لأنها نسقية ثقافية عميقة ولها حيل كثيرة في تعزيز نفسها وترسيخ قوتها، ولقد جاء علي أحمد سعيد كاستجابة ثقافية مضادة للحداثة الحقيقية ـ كما ذكرت في النقد الثقافي ـ وجرى تحريف المشروع الحداثي وتزييف الوعي الثقافي في خدعة ثقافية كبرى وخطيرة، وصارت الحداثة الرجعية وسيدها وفحلها أدونيس·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©