الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القصيدة.. خطاب العاشق

القصيدة.. خطاب العاشق
13 فبراير 2013 21:12
سلمان كاصد أرى من الضروري أن نفصّل في موضوعة مهمة - عندما نريد أن ننشئ كتاباً - وهي بناء هذا الكتاب، وأقصد بالبناء، المفاصل الأساسية التي يقوم عليها أي كتاب في التأليف، ولا أقصد الأوروبي بل العربي تحديداً. يشمل الكتاب أولا موضوعة اللوحة التي يتزين فيها غلافه، ومدى تعبير هذه اللوحة عن مضمون الكتاب، من حيث استخدام الصورة والألوان والحجم، لكونها جميعاً تحمل دلالة تعبر بشكل أو بآخر عن المتن الذي يحاط بدفتي غلاف أمامية وخلفية، وهنا ينشأ مفهوم الوضوح والغموض حيث تحتل هذه الثنائية مجمل الدلالة التي تشير لها اللوحة، وغالباً ما تكون لوحة الغلاف على درجة عالية من الغموض، وهذا في كتب الشعر تحديداً، في الوقت الذي رأينا فيه كتب الرواية أكثر وضوحاً ونحيل بذلك إلى أغلفة روايات نجيب محفوظ التي رسخت في ذهن القارئ العربي شخصيات تلك الروايات بالرغم من أنها افتراضية، إلا أنها تحاول الاقتراب من ذات الشخصيات في الرواية عبر دقة وصف محفوظ لشكل الشخصية من خلال روحها وحركتها في الحدث، وأعتقد أن هذا الوضوح قد دأبت عليه أغلب روايات الفترة الستينية والسبعينية حتى الثمانينيات. الجانب الثاني من بنية الكتاب العربي يتعلق بالإهداء الذي يشير إلى حدٍ بعيدٍ نحو صلات شخصية لأسماء ربما تكون مجهولة أو معلومة، وهذا يقترب إلى حد بعيد من مفهوم الغموض والوضوح الذي تحدثنا عنه في لوحة الغلاف ودلالتها على المتن وكأننا في كل عنصر من عناصر بنية الكتاب نواجه بذات الثنائية وهي «الغموض/ الوضوح» وأرى أن الإهداء لشخصية مجهولة يعبر عن حس ذاتي والإهداء لشخصية معلومة يعبر عن نظرة موضوعية، وهنا تشتغل في بنية التأليف ثنائية جديدة وهي- الذاتية والموضوعية- في اتباع توجيه الإهداء- وسأناقش ذلك بشكل مفصل من خلال التطبيق على ديوان جديد للشاعر حارب الظاهري- حيث يشاء المؤلف. حسناً العنصر الثالث من عناصر بنية الكتاب هو الاستشهاد بنصوص لكتاب عديدين - وأقصد هنا شعراء- قدموا في عبارات موجزة بريقاً من المعاني بأقل ما يمكن من البناء اللغوي، أي توافق لديهم قصر المبنى وسعة المعنى، وهذا ما يطلق عليه بلاغياً «الإيجاز». وأرى أن «الاستشهاد» بنصوص الآخر يحمل أغراضاً كثيرة أهمها أن هذا النص لابد أن نجد له تأثيراً على النص اللاحق- وأقصد نص الشاعر صاحب الكتاب الشعري- أو أنه يستلهم منه رؤيته التي عبّرت عن مجمل أفكاره أو أن هذا النص المستشهد به قد أثار الشاعر فخلق منه نصاً موازياً ولكن بإسهاب وهنا تظهر ثنائية جديدة عبر النصوص المقتبسة وهي «الإيجاز/ الإسهاب» فبقدر ما يشير النص المقتبس إلى الإيجاز بقدر ما يشير النص المكتوب - الآن- إلى الإسهاب، وهذا كما أرى يوجه بشكل عفوي لا إرادي ضد النص المكتوب ويؤشر إلى تفوق النص الموجز المقتبس أو المستشهد به، وكأن ذلك يشير إلى أن نص الشاعر لا يرقى إلى المستوى التكثيفي في المبنى والمعنى للنص المقتبس، ضمنياً هذا ما يشير إليه. تقديس القوالب إن الغالبية التأليفية تميل إلى تقديس القوالب البنائية تلك دون إدراك حقيقي من أنها تنتقص من قيمة أعمالهم وهويتهم على مستوى التأليف لا بمعناه العام ولكن بمعناه الثقافي حصرياً. ولا أجد حقاً ضرورة لهذا التقديس للنص المجتزأ، إذ أن ذلك يشير إلى حدٍ بعيد نحو التعالق النصي بين نصين سابق ولاحق، اذ الاول يتفوق- وفق معايير الشعر العربي- بالإيجاز وسعة الدلالة، حيث لا ضرورة من اقتباس نص دون أن يكون واسع المعنى موجز الألفاظ. هذا ناهيك عن الادعاء والتكلف وتصنع الثقافة بالاستشهاد بالآخر، وكأن المؤلف يشير إلى إطلاعه الثقافي الذي يحاول إبهار القارئ من خلاله. أضيف إلى تلك القوالب- والتي أسميها بالعناصر التي تتحكم ببنية الكتاب- عنصراً رابعاً وهو عنصر- التقديم- وأقصد به المقالة المجتزأة النثرية التي ترفق بالكتاب الشعري، والتي عادة لا تتوخى تحليل المتن الشعري وتفكيكه وإنما هي جواز أدبي لأهمية المتن وصحته، حيث لا تزوير فيه ولا أختام غير أصلية، وكأن مؤلف هذا النص النثري وأقصد المقدمة قد وضع نفسه في موضع الفاحص الدقيق الذي لا غبار على علميته في تقييم إبداع الآخر، وهنا ندخل في ثنائية رابعة- لاحظ أن كل عنصر من العناصر الأربعة التي تشكل بنية الكتاب الشعري تحمل ثنائيتها - وأخص بها هنا ثنائية «الكشف/ الإخفاء»، فبقدر ما يحاول كاتب النص النثري الكشف عن أهمية إبداع الشاعر بقدر ما يحاول إخفاء تحمسه إليه، كونه قد اختاره دون غيره لأن يكون ضمن عناصر عتبة الكتاب الشعري وهي عناصر مقدسة تُنتقى بعناية وتشكل مداخل مهمة للنص الشعري كونها الأبواب التي لابد من فتحها بأناة ومهارة والتي من الضروري أن تمتلك بريقاً جاذباً للمتلقي وإلا ما فائدة المتن بدون ذلك البريق الذي يشع قبله، وكأني بذلك أشعر الآن أن تلك العناصر قد عتمت من عوالم النص الشعري- المتن- لأنها لا تضيء النص من خلفه وإنما تضيئه من أمامه. بنية المتن وهنا أتساءل ما الضير لو وضع كاتب النص النثري نصه في مؤخرة الكتاب ولم يصبح- مقدمة- لكان على ذلك يترتب أشياء كثيرة أهمها توجه الكاتب النثري إلى التفكيك والتحليل دون التوصيف، وهنا نلجأ إلى القول إن التوصيف سمة التقديم والتفكيك والتحليل سمة التأخير وهذا الأخير ما يريد المؤلف النثري- أي المقدم- تجنيه لأنه لا طاقة له في أن يكتب نصاً تحليلياً. وخامس العناصر يتعلق بأسئلة مهمة منها: كيف يُقدَّم المتن الشعري، وما هي مفاصله وكيف نتعامل مع زمن كتابته، وهل نعتمد التسلسل الزمني التتابعي أم البناء الزمني المتداخل، أم البناء الزمني المقلوب الذي يصبح فيه الحاضر متقدماً والماضي متأخراً؟. هذا بالإضافة إلى أن المتن الشعري كونه منجزاً موضوعاتياً لابد أن يتم الاختيار فيه وفقاً لقيمة الموضوعة على مختلف المستويات، الدلالية والتركيبية واللغوية وذلك يدخل في بناء الكتاب الشعري ويصبح عنصراً مهماً من عناصر البنية التي تحدثنا عن أربعة عناصر فيها وهي: الغلاف، الإهداء، الاستشهاد «الاقتباس» والتقديم ويكمل ذلك العنصر الخامس وهو «الاختيار النصوصي». لم أتطرق إلى العنوان وذلك لكونه بنية متكاملة وليس عنصراً مكملاً ولهذا استثنيت قراءته في هذه المقالة. هنا لا أريد أن أدخل في مكملات الكتاب الشعري من فهرسة والغلاف الأخير وسيرة المؤلف ودلالاتها على مستوى التركيب الفني للكتاب الشعري. قادني إلى كل ذلك حقاً الكتاب الشعري «زهو أمام القلق» للشاعر حارب الظاهري والصادر حديثاً عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، حيث يواجهنا غلاف الديوان ببياض طاغٍ وإعادة صياغة كلمات العنوان الثلاث «زهو أمام القلق» بطريقة متغايرة وفق ثنائية- الوضوح والغموض- حيث جاء العنوان واضحاً من جهة وغامضاً من جهة أخرى وفق دلالة «القلق» كونه عنوان كتب بالأحمر على أرضية بيضاء بشكل واضح، وأعيدت كتابته بالأسود على الأبيض بشكل غامض، حيث كررت لفظة «زهو» المتداخلة مع لفظة «القلق» المكررة هي أيضاً، كون صانع الغلاف أراد أن يعبر عن معنى القلق بتكرار لفظتها، كما تشير إلى ذلك هذه الصناعة الحروفية، هذا ناهيك عن أنه خلق ظلاً لذلك التكرار في لفظتي «زهو» و»القلق» وكأنه أراد أن يكون القلق مضاعفاً. وإذا أردت أن أقرأ دلالة العنوان على مستوى الوضوح والغموض لقلت إن المعنى الاستعاري يغيب الدلالة إذ «القلق» لفظة معنوية وليست مادية تتجاور مع كلمة «أمام» التي هي لفظة مادية/ مكانية ليست معنوية وهذا تجاور من الصعب فهمه، فما بالنا لو استخدمنا كلمة أخرى معنوية أيضاً وليست مادية وهي لفظة «زهو» لأصبح التركيب كالآتي: «معنوي/ مادي/ معنوي» بما يقابل « زهو/ أمام/ القلق» وهذا يغيب المعنى الاستعاري إذ من الصعب تخيل الزهو أمام القلق بمعناه الواقعي حيث تتغلب صفة المعنوية على الصفة المادية. وأنشأ حارب الظاهري إهداء غريباً يخالف أغلب الإهداءات المتعارف عليها في التأليف الشعري، إذ كتب «إهداء» عنوانا لنص نثري لا يعد إهداء، حيث هو صورة قلمية نثرية تمتلك شعرية وبذلك تصبح أقرب لذاتية الشعر منه إلى عقلانية الإهداء حيث يقول فيها: «لاتزال الأشياء المفقودة تؤرق النفس، لكنها تكتب مداها بالشعر لتبدو الحياة أجمل.. ولايزال صديقي الليل يبدو أسيراً في وحدته، ينأى بعيداً في حوار أنيق.. كأن تشاغب ذات العينين الجميلتين في الروح لتأسرني بصوتها المتسم بالدفء.. لا يزال الفجر جميلاً يرسم مداه حين الحياة تبصر من جديد وتبدو الأزهار أكثر أناقة والأفق أكثر نظراً». جمال الشعر وأرى أن هذا النص النثري ليس إهداءً لشيء بعينه، بل هو نص نثري يقترب من الشعرية ما بين جمال الشعر والحياة، والليل. وكل تلك الصفات لا يمكن أن تعبر عن قلق يقف أمام خطوات الشاعر بل هو في أعلى تجليات إحساسه بجمالية الأشياء «الليل، الحياة، الأزهار، الفجر» والتي تحولت استعارياً من صورتها المعنوية ما عدا الأزهار إلى صورة حسية وهذا لا يمت إلى الإهداء بصلة بجميع الأحوال، ولكن بما أن الشاعر الظاهري يقع- حاله حال شعراء العربية- تحت سلطة العُرف والعادة وتقديس القوالب، فإننا نراه قد رفع كلمة «الإهداء» على نص ليس له من الإهداء بشيء، حيث احتوى النص على استعارة كامنة، لا خطابية مباشرة فيه وهي سمة الإهداء. أما عنصر التقديم الذي اطلع به الدكتور صلاح الدين بوجاه الناقد والروائي التونسي تحت عنوان «مخلب التوق في وهن الروح» والذي قابل خصائص معنوية بأخرى معنوية ولم يقابل المعنوي بالمادي كي تتولد الاستعارة، وتفصيلا لذلك نجده يقابل «التوق/ الروح، بالمخلب/ الوهن». المعنى الدلالي يرى الدكتور بوجاه أن الظاهري ينشب مخلب التوق في وهن الروح هاتفاً «زهو أمام القلق»: «في موئل أبعد من الضجر وأبقى، أوسع أفقاً من «الإمكان المنتهك»، أمضى حضوراً في ثمار اللقيا الجامعة بين الحكمة والحقيقة والحب». ولا أجد أن بوجاه قد أوصل لي فكرته بما يعنيه بهذا النص، ولم يناقش المعنى الدلالي لعنوانه ومدى كشفه لعنوان الكتاب، حيث استخدم التوصيف الشعري في نصه النثري الذي كان عليه أن يقترب من الوضوح بدلاً من اللجوء إلى الغموض نفسه. يقول بوجاه: «ينبغي أن نقر أننا إزاء شاعر يمضي في متاهة المكتوب ويختزل النص العربي/ الغربي/ الحديث، باحثاً عن مغامرة شارل بودلير عن المعرفة غير العقلانية «المعرفة السعيدة المتحررة والمحررة». وأجد أنا أيضاً أن الظاهري نفسه لا يريد الاقتراب من شارل بودلير في عبثية شعر غامض، إذ يكتب الظاهري بشفافية مبسطة لا يريد من نصه أن يتعقد، كون العالم الذي يستعيره رومانسيا رقيقا يعمد الى ألفاظ مبسطة في القصيدة. ويستشهد بوجاه بجورج سيفيرس ولوران جاسبار وبعبدالإله الصائغ وببودلير وبتوفيق الزيدي ورامبو وجلجامش والسريالية وآرتو وسان جون بيرس، واعتقد أن هؤلاء لا تجمعهم رؤية متناسقة في رؤيتهم للشعر، إذ لا يقترب سان جون بيرس من شعر رامبو وبودلير، حيث «جيفة» بودلير لا توازي قصيدة «عدن» لرامبو ولا توازيان «المراكب الضيقة» لبيرس، لا في الأبنية الصغيرة لرامبو وبودلير ولا في البناء الطويل لسان جون بيرس. رومانسية هادئة وأتساءل حقاً لماذا لم يتناول بوجاه بساطة المعنى في شعر حارب الظاهري/ وذلك في قصائده التي تشع رومانسية هادئة ومناجاة تغيب عنها الواقعية، حتى لتصبح في مجملها مناجاة لما هو مبهم كالروح والليل والحياة والمرأة، ولكل ما هو جميل: دعيني أبحر إلى جنونك/ إلى عالمك المصون/ وأبحر إلى عينيك/ وأسطر عالمي بالجنون وهذه القصيدة المعنونة بـ «أمومة في القلب» لا تعتمد أكثر من الدلالات الواضحة التي يناجي فيها الشاعر «الآخر» في خطاب عاشق: ألم أقل لك بأن الحياة/ من دونك صفر وفيها من الخطاب المباشر ما يمكن أن نعده مناجاة ذاتية صرفة، ففي قصيدة «الرغبات تأتي متأخرة» نقرأ: يلتقيني/ والتقيك/ تجاذبني آهاتك/ من حيث لا أدري. وإزاء هذه المباشرة يحاول الظاهري أن يتخلص منها- وهي التي يستهل فيها أغلب قصائده- ثم يتحول إلى عوالم خيالية يعيش فيها الظاهري مع الكلمات التي تخلق معناها الخاص: وآتي على سلم الفضاء/ توشوشني الدقائق/ ولا أعرف سر الابتسامة/ ولا لغة البدء في الكلام. وهذان المقطعان يمكن أن نعدهما صورة مثلى لبناء القصيدة عند حارب الظاهري تشابه أغلب قصائده. ولنأخذ نموذجاً متطابقاً وهو في قصيدة «أناقة الصباح» حيث يبتدئ بـ: تمر على ذائقتي (تمرين)/ أنت والصباح/ يمر فنجان القهوة/ وريقي لا زال ( لايزال)/ وضوء الشمس/ يتلألأ في عينيك. ويتحول الشاعر من الواقعي «الصباح» و»فنجان القهوة» إلى ما هو خيالي فجأة: يمر همسك/ في مواطن الجسد/ في عبق المسافة. ويكتب حارب الظاهري في بناء شعري آخر قصيدة «الليل الأسود» التي يقول فيها: إنه الليل الأسود يا حبيبي/ يتعرى في خيالي/ لأن سحرك مائل/ في انتظاري. ولا أجد صورة أكثر خيالية، بعيدة عن واقعيتها مثل تلك الصورة، التي تتكرر مثيلاتها في أكثر من قصيدة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©