السبت 11 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

نزعة التلفيق في النصوص الشعرية

5 ابريل 2008 01:51
تبدو السمةُ الغالبة على القصيدة الحديثة، المشغولة بتشقيق اللغة، أنها تمارسُ إهمالاً متعمّداً للمادة الإنسانية التي يجب تضمينُها في النصوص، هذه المادة لم تعالَجْ معالجة شعرية لتسهم في إنتاج النصوص الحديثة، هذا الولع الخالص بلغوية القصيدة أسقطها في التلفيقية، وأحال الشاعر إلى ملفّق نصوص· وأقصد بملفِّقي النصوص الشعراء الذين يستجيبون بلا تفكير لمواضعات القصيدة الحداثية، وينفّذون بطاعة عمياء متطلباتها التي يعرفونها عبر الآخرين من دون أن يشعروا بالحاجة إلى اختبارها بأنفسهم، ومن دون أن يتيحوا لخبراتهم أن تختمرَ بذاتها، بل يسارعون إلى تخميرها بـ ''خميرة جاهزة''· وبذا يكون شعراء الحداثة من هذا النمط كملفّقي النصوص الكلاسيكية؛ أي الشعراء الذين يكتبون قصائد عمودية مستجيبين لضغط قواعدها، ومنفِّذين آلياتها بلا تفكير أو اختبار، ولذا تحلّقُ النصوص التلفيقية في فضاء اللغة من دون أساس داعم في أرض الواقع، إنها تلفيقية لأنها تستندُ إلى مواضعات الشعر من دون إشراك الحياة التي يحيونها في ما يكتبون· التلفيق لغةً، وبحسب (لسان العرب) من ''لفق: لفقت الثوب ألفقه لفقاً: وهو أن تضمّ شقة إلى أخرى فتخيطهما، ولفق الشقتين يلفقهما لفقاً ولفقهما: ضمّ إحداهما إلى الأخرى فخاطهما وأحاديث ملفقة أي أكاذيب مزخرفة''· ثمة صلة بين هذا المعنى اللغوي البحت وما أرمي إليه من معنى لملفّق النصوص، فالقصيدة التلفيقية تبدو وصلاً (خياطة) آلياً لكلمات لا تنبع من تجربة أو خبرة خاصة، فالعصيّ، كالشعر، أما أن يتمّ امتلاكه بلغة تنهلُ من مَعينِ الشعر نفسه، أو أن يُصارَ إلى نكرانه وشجبه، والأشعار الحداثية، التي تدّعي ذلك، تنكر أنماطاً من الشعر لا تخوض في غمار التجربة الشخصية، إنها تمارس الطرد، وهي تحاول أن تلجأ إلى اللغة الشارحة لدعم حداثية القصيدة، وفي هذا الميدان تتحول اللغة الشارحة، التي تُفترَض فيها الدقة العلمية، إلى لغة شعرية هي الأخرى· في هذا النمط الشائع من القصائد، صارت اللغةُ في المركز، ووقف الشاعر على التخوم يناجيها ويجربها، وأفضت المناجاةُ والتجريب كلاهما إلى الحطّ من قيمة المرجع والمعنى في آن، ورفع قيمة الكلمة كصوت، والكلام كسيل من الأصوات، وابتُدعت لذلك منظومة بلاغية جديدة عمادها الإغراب؛ تلك المنظومة التي نشأ في كنفها شعراء كثر استطابوا العمل في ظلّها، وأقنعوا أنفسهم بجدوى آلياتها التي من المؤمّل أن تنتج، في الأخير، قصيدة حديثة· تتوجه اللغة، لدى ملفقي النصوص، توجهاً محدداً سلفاً، ويرمي توجهها هذا إلى عالم مكرور لأنه مستعار أصلاً· والتلفيقية في هذا النمط من الشعر الحداثي تختلف عن تلفيقية الشعر العمودي اختلافاً محدداً من ناحية معينة، فهذا الأخير يتحمّل مقولة: ما أرانا نقول إلاّ معاراً· ولكن تلفيقية شعر الحداثة لا تتحمل مثل التوصيف، إذ أن نتيجتها ''كولاج'' لغوي متنافر بلمِّها نتفاً من هنا وهناك· يفترض الشاعر مواقف محددة للتعبير عنها، ويحدد افتراض المواقف المسافة التي يقف فيها الشاعر على مقربة أو مبعدة من الحياة، إذ تطالبه اللغة، من جهة، بافتراضاتها القبلية التي تجد لها دعماً في التراث الشعري القديم والحديث، وها هنا حافة صعبة وحادة على الشاعر أن يحدد موقفه منها، أو افتراضه الخاص بإزاء افتراضاتها، بالمرور بهذه الافتراضات والمواقف، بالعبور عليها ربما، أو بالاستناد إليها، قد ينسى الشاعر الدعامة الأساسية لكلّ خبرة شعرية؛ أي الواقع، لهذا الواقع ضغط، أو لنقل افتراضات أخرى أيضاً· إن الشعراء الذين اعتدنا على تسميتهم بالحداثيين؛ لا سيما الشعراء الذين عاشوا حروباً مثلاً، باعتبار أن واقع الحرب لا يمكن تفاديه بأيّ حال من الأحوال، لم يتخذوا دمج الواقع استراتيجية شعرية· لقد ظلوا مستجيبين لافتراضات دون أخرى؛ لافتراضات اللغة دون الواقع، أليست تلفيقيةً الكتابةُ التي تبدو بحثاً في أسرار اللغة، وتجريباً لإمكانات الإيقاع والزخرف الحديث؟· مع ذلك، يتمتع الشعر التلفيقي بحيوية لافتة للنظر، لكنه يُخفق في الدنوّ من الواقع وتخليقه صورة عنه، ومهما حاول ذلك فإنه يصور الواقع بطريقة تخدم، في النهاية، اللغة، ففيه تتحوَّل كل وسيلة فنية لصالح اللغة فقط، وهنا تتخلَّق المسافة بين الأطر، التي يرى الشاعر التلفيقي في كسرها تجديداً، والوسائل الفنية التي تتكفل بتخلق الشعر، ولا شكّ في أن بواعث جمّة حدت بالشعر والشعراء إلى مثل هذا المصير العابث· إن تمزّقنا الثقافي، وتشظّي ذواتنا الواهية، والقسوة، والخوف، والأوضاع الشاذة التي عاشها الشعراء، وهشاشة الأسس، هذه وغيرها عزّزت الآليات التي جرّت النصوص إلى هذا المنحى التلفيقي غير المأمون لا من جهة النصوص نفسها، ولا من جهة الحياة· فإذا استثنينا شعراء منبريين يخدمون غرضاً سلطوياً محدداً؛ من صنف المعتاشين على مهنة الشعر، فإن رضا السلطة عن الشعر الحداثي نابع من أنه لا يمتّ بأيّ صلة إلى ما يعكّر الصفو، فهو يضمن لكلا الطرفين هناء العيش· لكن بعض الشعراء التلفيقيين يرون في ''تفجيرهم اللغة'' مقاومة من نوع ما للسلطة، وتضميناً من نوع ما للحسّ الإنساني في القصيدة· إن مشكلة هذا اللون من التمرُّد هي أن صلته بالشعر غير مؤكدة، ناهيك عن صلته بالإنسان· فهو تمرد على وسائل لغوية أكثر منه اشتغال بقضايا (إنسانية) محددة· والوشائج التي يحاول بعضهم إقامتها بين هذا الموقف والشعر المكتوب ليس سوى محاولة تبريرية، وفي أحسن الأحوال ومحاولة تأويلية على أساس هشّ·
المصدر: واشنطن
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©