الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التعدد والتكامل

التعدد والتكامل
19 فبراير 2014 21:42
إن دلالة البادية هو الوجود في (الجغرافيا) أو المحل على حال الفطرة، أي بقاء الإنسان على أصله وإنسانيته وعدم تحوله إلى ما دونه.. من تغلب حبه للأرض والأهل، وحبه للخير والحق والعدل والتعاون والكرم وحب الأمن والسكينة والنصح وغير ذلك من المبادئ والصفات التي تميز الإنسانية عن غيرها والتي لا يؤثر فيها تحولات الأرض لتسلبها خصائصها، وإنما قد تؤثر فيها أحوال أخرى غير الجغرافيا، من هنا فإن هذه الدلالة التي لا تعتبر الجغرافية بمعنى الجغرافية لا يكون لها أي تأثير في الإنسان”. إذا المكان أولاً.. تأكيداً لأهمية الموقع الجغرافي للعرب بصفة عامة كما يقول المفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري.. “بأن درس (الجغرافيا) في حال العرب يجب أن يسبق درس التاريخ أو أن يصبح مقدمة كتابه، وإذا كان الفكر الأوروبي قد انتقل من مدرسة الجغرافيا إلى غيرها بحكم تطوراته وتطورات بيئته الحضارية، فإن ذلك لا يعني أن الفكر العربي قد أصبح في حل من مباحثها التي ما زالت ضرورية بالنسبة إلى تطوره وتطور بيئته، والتي ستبقى دائماً على أهميتها في الحال العربية، نظراً إلى خصوصيتها المكانية المختلفة جذرياً عن غيرها”. وهكذا تفيدنا الدكتورة نبوية حلمي أبو باشا مؤلفة كتاب “البيئة الاجتماعية والسياسية وأثرها في قيام دولة الإمارات” “بأنه إذا كان التعرف إلى طبيعة المكان ـ الجغرافيا ـ هو المدخل الضروري إلى فهم مجريات الزمان ـ التاريخ ـ في حياة كل أمة، فإن خصوصية المكان وخطورة تحدياته، وتوتر عناصره بالنسبة إلى دول الخليج تمثل أهمية مضاعفة، لذلك لابد من الابتداء بالتأمل الدقيق فيها وإدراك طبيعتها وتفردها الصعب الذي يمثل استثناء مكانياً أدى إلى خلق استثناء في صياغة التاريخ”. أول مبنى ومن العمق التاريخي لبادية الإمارات تنبعث من قلب صحراء المنطقة الغربية أصداء تلك المقولة التي أخبر بها المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان أحد الصحفيين: “هل تعرفون أن واحة ليوا كانت لها أهمية في القرون الماضية عن اليوم، رغم ما يقوله البعض من أن العالم لم يعرفها إلا منذ القرن التاسع عشر؟ لقد كان أهلها في الماضي يعتمدون على النخيل والجمال والغوص، وبعد انهيار صيد اللؤلؤ أصبحت الحياة فيها شاقة خاصة بعد أن ضعف اعتمادهم أيضاً على الجمال والتمر”. ولكن مع مهرجان قصر الحصن يعود بنا التاريخ إلى عام 1761 زمانا وجزيرة أبوظبي مكانا، والمعلم التاريخي البارز آنذاك هو برج مراقبة عالية الجدران سميكة البناء ذلك الذي بناه الشيخ ذياب بن عيسى رحمه الله من أجل حماية مورد المياه العذبة، ليصبح هذا البرج هو أول مبنى دائم تم تشييده في الجزيرة وليكون النواة الأساسية التي نمت من حوله قرية ساحلية صغيرة، وسرعان ما يقفز الزمان إلى مرحلة جديدة كان بطلها الشيخ شخبوط بن ذياب كبير قبيلة بني ياس ـ رحمه الله ـ والذي نقل حكمه عام 1795 من ليوا إلى أبوظبي وقام ببناء حصن كبير مربع الشكل يعتقد أنه وظف فيه برج المراقبة الأصلي كواجهة دفاعية في إحدى زوايا الحصن الجديد، حيث أصبح هذا الأخير هو مقر الحكم متضمنا القيادة العامة للحرس الأميري والمقر الإداري والمسكن الخاص بالحاكم وأطلق على هذا المبنى اسم (قصر الحصن). ولقد كان للجهود التي قام بها مؤسس الإمارة الشيخ شخبوط بن ذياب أثر كبير في التطور السياسي والاقتصادي الذي شهدته الإمارة، مما شجع الناس على الانتقال إليها، والسكنى فيها، وفي هذا المجال يذكر د. محمد مرسي عبدالله “أنهم ـ أي السكان ـ انتقلوا من البر إلى البحر فنعموا بخيراته، ومن أبوظبي تواصل أبناء الإمارة مع سكان الجزر”. والمعروف أن الشيخ شخبوط بن ذياب هو جد الشيخ زايد بن خليفة الذي حكم أبوظبي وضواحيها حتى بداية القرن التاسع عشر ميلادي، وخرج من بين أحفاد الشيخ زايد بن خليفة قائد الوحدة والتقدم والحضارة المؤسس لدولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ـ طيب الله ـ الذي تولى الحكم بعد تنازل أخيه الشيخ شخبوط بن سلطان، وكان (قصر الحصن) حاضرا وشاهدا على تحولات الزمان والمكان والحياة. وبذلك تكون أبوظبي قد عرفت منذ عام 1795 على يد الشيخ شخبوط بن ذياب عندما نقل الحكم من الظفرة إلى أبوظبي الجزيرة التي تتعدد الروايات عن مصدر اسمها فمنها ما تقول: لكثرة الظباء فيها، والذين أيدوا هذا الرأي نسبوا الرواية إلى مؤسس الإمارة الشيخ شخبوط بن ذياب الذي حكم أبوظبي خلال الفترة من 1793 إلى 1816. وأما الرواية الأخرى المتداولة بكثرة عند من كتبوا عن أبوظبي وأرخوا لنشأة هذه الإمارة فتضيف: أن رجلا اصطاد ظبيا، فذهب ليخبر قومه عن كثرة تواجد الظباء في أبوظبي وتفاصيل القصة: (أن عابرا كان في طريقه إلى موطنه (ليوا) مرَّ على جزيرة كانت مرتعا لطيور البحر، ثم قرر أن يمكث فيها أياما قبل أن يواصل المسير إلى أهله، وفي أحد الأيام شاهدَ (ظبيا) يتجول في مكان قريب، فصوب إليه بندقيته فأرداه قتيلا في حينه، ثم رحل الرجل إلى قومه وهو يخبرهم عن تلك الجزيرة التي بها السمك الوفير والهواء الرطب العليل ولم يغفل ذكر الظبي الذي صاده، وهكذا تناقل القوم رواية الرجل (بو الظبي) ـ أي الذي اصطاد (الظبي) وأخبرهم بقصته ـ وأصبحت الجزيرة مرتبطة بالرجل (بو الظبي) إلى أن أصبحت الجزيرة نفسها تسمى (بو الظبي) وتحور الاسم عبر الزمان وأصبح (بوظبي) باللهجة العامية ولا يزال، أما بالعربية الفصيحة فأصبح (أبوظبي)، وإن الجزيرة ـ في حد ذاتها ـ كانت خالية من السكان، لا يرتادها إلا طيور البحر وصيادو الأسماك وعابرو الطريق إلى المناطق الأخرى يقضون فيها يوماً أو يومين ثم يكملون دربهم إلى مقاصدهم). عمق تاريخي ما زلنا في العمق التاريخي الممتد إلى أكثر من قرنين ونصف من الآن، وحيث إن الفاصل الزمني ليس بعيدا عن تلك السنوات التي اعتاد فيها رائد الشعر النبطي في الإمارات الرجل البدوي الماجدي بن ظاهر التنقل في أرجاء المنطقة شأنه في ذلك شأن البدو الرّحل الذين ينتجعون مواقع القطر ومنابت الكلأ.. فإن صدى أبياته تتردد في الآفاق والأبعاد والذاكرة وهي ترسم لنا صورة عن البيئة والمكان فيمضي بنا الشاعر مع السحاب وقد عم جميع بدوان المنطقة التي يسكنون بها وهي من (الظفرة) في صحراء الغربية لإمارة أبوظبي إلى (سيفة دهان) بإمارة رأس الخيمة. ثم هو ينتقل إلى مضارب الخيام ولقاء الأحبة في تلك البقاع الخضراء فيصور أروع تصوير نزول الودق وسقي الدار وإغداق المزن على تلك المغاني ويعددها بلدة بلدة وموضعا موضعا حتى لكأنك تشاهد الإمارات كلها من أقصاها إلى أقصاها.. تحيلنا أبيات الماجدي بن ظاهر المأثورة منذ أكثر من 300 سنة ماضية إلى خارطة الإمارات وجغرافيتها الطبيعية وفيها تتجسد صورة الوطن كلوحة طبيعية ببساطها البري والبحري وقبتها السماوية وأوتادها الجبلية، وعند النظر إلى الشكل فإنه يبدو للبعض كشكل الطير أو الحصان، لكنه في رؤية الجغرافيين المعاصرين يبدو أن المثلث القائم الزاوية هو أكثر الأشكال الهندسية التي غطت معظم أراضي الدولة عكس الأشكال الأخرى التي غطت أجزاء محدودة من أراضيها، وهذا له آثاره الإيجابية في التوازن الإقليمي الذي تتمتع به الدولة.. وقبل الاسترسال في تفاصيل لوحة الوطن الطبيعية تستوقفنا في السياق تلك الكلمات البليغة النافذة التي يوضح فيها عبقري الجغرافيا العربية الراحل د. جمال حمدان، رحمه الله، أهمية المكان في تحليل وفهم الشخصية القومية توطئة لرسم آفاق مستقبل يقوم على حقائق الاستيطان المجردة، تلك التي جمعت بادئاً ذي بدء القبائل والجماعات البشرية للارتباط بمكان محدد دون غيره. تنسج من خلال مكوناته تاريخها وتكتسب من مفرداته شخصيته، في حلقة متصلة من الأثر والتأثر المتبادل فيقول: “الشخصية الإقليمية شيء أكثر من مجرد المحصلة الرياضية لخصائص وتوزيعات الإقليم، إذ إنها تتساءل عما يعطى منطقة ما تفردها وتميزها بين سائر المناطق، والبحث في هذه الشخصية محاولة للنفاذ إلى روح المكان لاستشفاف عبقريته الذاتية التي تحدد شخصيته الكامنة”. نقول إن ما نراه من هذا التعدد لا يعبّر إلا عن حقيقة أن البدوي في كل الحالات واحد ينتمي إلى نفس المنظومة من الأعراف والأخلاق والتفكير، ولا توجد إلا تلك الاختلافات التي هي إفراز البيئة، وهي كاختلافات تزيد وحدة شعبها ولا تفرقه. فالتنوع دائماً دليل على الخصب والثراء. تسميات ووقائع منذ القدم وشعب الإمارات يدخل في إطار يمثل مجتمعاً له تقاليده وتصوراته الاجتماعية وأفكاره وسلوكه الموحد، يلتقي فيها أفراده على اختلاف جماعاتهم كما تلتقي العقد المختلفة في خيط واحد، يضمهم الوازعان الديني والقومي فيوحدان شعورهم الجماعي ونظرتهم لشؤون الحياة، وهم بهذا يدخلون أيضاً في إطار أكبر وأشمل يمثل الشعب العربي في الخليج العربي. وإذا كان الغموض يلف تاريخ النشوء الأول لكل إمارة، وهو الأمر الذي لم يتصد له أحد من المؤرخين الذين كتبوا عن الإمارات، فإن مخطوط المؤرخ المحلي عبدالله بن صالح المطوع بعنوان “الجواهر واللآلي في تاريخ عمان الشمالي” جاء ليسد هذا النقص وهذه الثغرة في تاريخ هذا البلد، حيث إن معظم مادته تدور حول اللبنة الأولى والمادة الأساسية في الظهور الأول لكل إمارة على مسرح التاريخ. ويتفق المؤرخون والمتخصصون في شؤون المنطقة أن تأخر قيام الاتحاد حتى أواخر عام 1971م إنما يرتبط بظروف تاريخية فرضت على المنطقة فرضاً ولا تتفق مع طبيعة الأمور. وهذه الحقيقة لم تلق نصيبها من عناية الباحثين وهي جديرة بأن يتفهمها شعب الإمارات وجيله الناشئ، إنهم بذلك يشيرون إلى تلك الأصالة المتمثلة في المقومات الأصيلة للوحدة الجغرافية والبشرية والتاريخية والتراثية والدينية والترابط والتجمع الشعبي في الإمارات منذ البعيد، الأمر الذي يستدعي كثيراً من التوضيح والاهتمام، وإن كانت لا تخفى على أفراد الأسرة الواحدة في دولة الإمارات العربية المتحدة. وفي هذا الصدد تتجلى أولى الحقائق العاملة على الوحدة بطبيعتها الذاتية ألا وهي وحدة الرقعة، أي ذلك الاتصال الجغرافي المستمر للمنطقة من الحدود مع شبه جزيرة قطر في الغرب حتى أقصى الحدود في الشرق. فليست الإمارات مجموعة من الجزر وأشباه الجزر التي تفصلها البحار ولكنها رقعة واحدة وكتلة أرضية متصلة والجزر التي تتبعها قريبة من السواحل ولا تضم على كل حال إلا نسبة محدودة من مجموعة السكان. هذه الحقيقة تعني أن أهل المنطقة قد أُتيحت لهم هذه الفرصة الطبيعية للاتصال البشري منذ أقدم العصور. إضافة على أن مظاهر السطح في منطقة الإمارات لم تكن بأي حال مما يعرقل الارتباط بين السكان. ويجيء الموقع الجغرافي للإمارات في منطقة التقاء الخليج العربي وخليج عمان الذي ينفتح على المحيط الهندي كحقيقة طبيعية أخرى إذ انعكس هذا الموقع في نشاط السكان البحري منذ تاريخ موغل في القدم بكل ما يعنيه ذلك من انفتاح على العالم ومعاملات تجارية وغير تجارية واحتكاكات حضارية وتنوع في التجربة، وحدث ذلك منذ وقت بعيد. وهكذا كان للموقع الجغرافي لمنطقة الإمارات ولسواحل الخليج العربية عامة مغزاه الحضاري إذ خلق طائفة متنوعة من الاتصالات الاقتصادية وغير الاقتصادية بالعالم الخارجي منذ عهد بعيد بكل ما يعنيه ذلك من اتساع في الأفق وصقل للمعرفة بالأخذ والعطاء ثم بكل ما يعنيه وهذا أكثر ما يهمنا في هذا المقام من وحدة التجربة التاريخية بين سكان الإقليم. وبفضل تلك العوامل الجغرافية من ناحية وبفضل عامل بشري خطير هو ظهور الإسلام الحنيف وانتشاره بين سكان منطقة الإمارات اكتملت لهؤلاء السكان كل العناصر الأصيلة للوحدة البشرية. ونحن إزاء منطقة تحقق فيها التجانس السلالي من حيث تقارب الملامح والسمات الطبيعية لجسم الإنسان مضافاً إليه الإحساس بالعروبة الأصيلة وشعور بالفخر والانتساب إليه، كما تحقق لأبناء المنطقة وحدة اللغة كركن أساسي من أركان الوحدة القومية وهي أيضاً طريقة تفكير تنعكس فيها عادات الأمة وتقاليدها وتجاربها المختلفة مع بيئتها الخاصة وعبر تاريخها الخاص. وهي سجل للتراث الثقافي يتجمع فيها أدب الأجداد وسائر ألوان حياتهم الثقافية. وفوق ذلك تملك الدولة تلك الوحدة الروحية الرائعة التي يضفيها الدين الإسلامي الحنيف على طابعها الثقافي والحضاري. وغني عن البيان أن وحدة الدين إذا توفرت لأمة من الأمم كانت أدعى لتيسير تحقيق وحدتها السياسية، وأضمن لاستمرارها وبلوغ غاياتها. التراث المادي إن التراث الثقافي المادي لأهل الصحراء يعكس كفاح الإنسان في ضوء معطيات بيئية فقيرة، فمن أجل إشباع هذه الحاجات عمل هذا الإنسان على تكييف نفسه للظروف المتنوعة بفضل ما لديه من نظام ووسائل ثقافية، وقد ساعدت على تحقيق هذا التكيف قدراته غير المحدودة في تعديل أو تحوير ما يحيط به، فقد استطاع أن يقيم لنفسه المسكن في الصحراء وأن يحضر طعامه بصورة معينة وأن يستخدم بعض الأدوات والآلات المتاحة له في بيئته وأن يستخدم وسائل خاصة بالانتقال، إذن فإن ثقافة أهل الصحراء هي محصلة تفاعل النشاط الإنسان مع البيئة من أجل إشباع الحاجات الضرورية مثل الحاجة إلى الطعام والمسكن والمأوى وتأمين نفسه ضد الأخطار الخارجية والداخلية في ضوء ما تجود به البيئة الطبيعية الشحيحة، كما تعكس قدرته على الانتفاع بما تجود به بيئته في صنع مسكنه وتحضير طعامه وتوفير الأثاث اللازم لهذا السكن وتوفير ما يلزم له ولمن بعده. وإن اقتصاديات البادية خير مثال على حيوية المجتمع في البداية، فإذا كان الإنسان يتعرض للتقويم من منطق مقدرته على التكيف مع البيئة المحيطة به وقدرته على خلق ظروف حياتة وفق المعطيات الطبيعية التي وجد نفسه في مواجهتها فإن ابن البادية في هذه الحالة يقف في الصفوف الأولى من المجتمعات الإنسانية التي تمكنت من قهر الطبيعة واستغلال كل مواردها المتاحة. كان على البدوي في الصحراء تحدي الظروف التي تساعده على الحياة وكان عليه بالتالي نقل خبراته في التعامل مع طبيعة الحياة في الصحراء إلى أجياله المقبلة، وإذا كان هذا التنقل الذي تم عبر ذاكرة قد تخلقت منه الأعراف ومنظومات الحكم والأمثال وعالم ثري من الأشعار والقصص، فإنه في المقابل شكل دورة الحياة الثقافية للبدوي. وتشترك بادية الإمارات مع البادية العربية في العديد من الصفات فهي تتفق مع غيرها في الظروف الطبيعية، حيث المياه قليلة تعتمد على المياه الجوفية والزراعة الصحراوية القائمة على زراعة النخيل وبعض المحاصيل البسيطة والسكن في الخيام المتنقلة والاعتماد على الإبل كحيوان رئيسي لتحمله ظروف البيئة من عطش وقدرة على السير مسافات طويلة في الصحراء، والأمر كذلك إلا أن هناك مجموعة من الصفات التي رصدها الرحالة الأجانب في بادية الإمارات، فقد امتدح ثيسيجر الأمانة البالغة لبدو الإمارات، كما تساءل عن مدى وعي أهل البادية غابطاً إياهم على هذه الحياة ورصد الرحالة الأجانب دقة أهل بادية الإمارات في معرفة الفرد من بعيد ومعرفة عدد الأفراد الذين مروا بالمكان بعدها بمدة، ومعرفة عدد الجمال التي مرت وتعرف قبيلة الفرد وما أصله من بعيد، عكس الرحالة في مناطق أخرى من البادية، ويصف لنا الرحالة كرم أهل البادية بتلك القصة التي قصها علينا ثيسيجر فقال: قابلت رجلاً عجوزاً يعرج يبدو فقيراً إلا أن “الرواشد” هرولوا للترحيب به، فسألتهم عن سبب حرارة ترحيبهم فقالوا إنه رجل من بيت إيماني مشهور بالكرم فعلق ثيسيجر: كنت أعتقد أنه لا يملك شيئاً كي يكون كريماً وعلق مرافقوه بأنه رجل لا يملك الآن إلا بضعة رؤوس من المعز ولكن كرمه أهلكه، فما أن يحل عليه شخص حتى يذبح له جملاً، والله إنه لكريم، وهكذا فإن فقيراً عرف بالكرم عند أهل البادية له مكانة عالية أكثر من الأغنياء.. “بدو توري في الرقايب نارها/ لي ما تلحف ميرها بقشارها”. شروط التحضر وبالتأكيد فحين يطلقون على الإنسان صفة المخلوق المتحضر فإنهم لا يعنون بذلك أنه الإنسان الذي يستقل أفخر أنواع السيارات أو يقتني وسائل الحضارة الجديدة إنهم يعنون أنه ذلك المخلوق الذي يدير سلوكاً راقياً مع بيئته ومع مجتمعه الذي يحيط به، وابن البادية يملك كل هذه الشروط، إنه يتصف بعدد من السلوكيات الحضارية منذ أقدم العصور بل إن كثيراً منها أقرتها الأديان السماوية وأكدت عليها وهي تحمي هذا المخلوق من الانهيار والسقوط في براثن التفسخ الأخلاقي والانغماس المادي المقيت.. ابن البادية كريم شجاع وفي غيور على عرضه، يعين الفقير ويحتضن المحتاج، يبذل كل ما يملك في سبيل كرامته وسمعته الطيبة، حساس، ذواق للكلمة وللمعنى، يقول الشعر بالدرجة نفسها التي يجيد بها الخطباء المفوهون مخاطبة الناس، يشده الجمال وينخلب لبه لسحر الطبيعة، مؤمن بالله، ومتمسك بعقيدته، ميال إلى التعامل بالخيال، صلب وقادر على تحمل مشاق وقسوة بيئته وهو فوق ذلك يعتز بعروقه المنحدرة من أجناس بشرية راقية. هذه هي الصفات نفسها التي يتمتع بها ابن البادية في بلادنا وهي امتداد متصل للعادات والتقاليد والصفات التي كانت تميز أجدادنا على مدى تاريخ هذه المنطقة. يقول زايد تعبيراً عن قناعته بأن الإنسان هو أساس الحضارة وأن الاهتمام به ضروري لأنه محور كل تقدم: “مهما أقمنا من منشآت ومدارس ومستشفيات وجسور وغير ذلك.. فإن كل هذا يبقى مادياً لا روح فيه، لأن روح كل هذا هو الإنسان القادر بفكره وجهده وإيمانه على تحقيق التقدم المنشود”. ولم تكن أعراف القبيلة مفصولة عن أمرين أساسيين. الأول حياة القبيلة والثاني البيئة التي تعيش فيها. وإذا كان الجانب الأول نجده واضحاً في تطبيقات البدوية لأعراف، فإن الجانب الثاني يظهر هو الآخر في أن الأعراف لم تتشكل إلا وسط ما تفرضه البيئة على الإنسان وما يحاول الإنسان أن يمهده في البيئة كي يستطيع العيش، لهذا فالبدوي حين تعرف على رمال صحرائه، على الناقلة والنخلة وجد في هذين الكائنين القابلين لتحمل صعاب المناخ مصدرين أساسيين لحياته فمضى يبتكر منتجات مختلفة تخدم حياته مستفيداً من كل شيء تقريباً في هذيين الكائنين. ليس معنى هذا أنه لم يستفيد مما عداهما بل بالعكس. فإذا كانت الناقة والنخلة محورين رئيسيين في منتوج البدوي فإن كل مظاهر الصحراء كانت لا تخلو من إمكانية الاستفادة. عشبة البر ربما تصلح علاجاً، وشعر الماعز وبراً، والأثر اقتفاءً، ولهذا فإن من العادات والتقاليد الأصيلة في البدو الاستفادة من القليل والكثير وتوظيفهما بما يفيد الحياة. ومن الأمثال الناصعة على توظيف البدوي كل الإمكانات المتاحة حوله، صنعه لبيوت الشعر المختلفة حسب تنوع وتعدد البيئة المعيشية الصحراوية في دولة الإمارات. فمن شعر الماعز وصوف الخرفان يتم استخلاص أول خيط من الشعر لصنع البيت. وبعد غزله ونسج قطعة ينصب هذا البيت بعدة شقوق ليتكون بذلك المستقر لهذا الرحالة خلف الماء. فما دام البدوي مرتحلا باستمرار فإنه ليس بحاجة لإقامة أكثر من وتد في الأرض. وتد وبعض القطع المنسوجة من الشعر يحملها بسهولة متى شاء أي متى ما ضاقت عليه الأرض من حوله وضاقت على ماله وحلاله. فالعمر، عمر الصحراء، لا يستحمل نقل الثقيل والكثير، وإنما كل ما خف حمله وأمكن إعادة نصبه من جديد. والنخلة هي عروس الصحراء ودليل الماء والحياة. وحينما استوطن البدوي قربها لم يترك فيها شاردة ولا واردة إلا وأعاد صنعها فيما يفيد مجرى حياته. أخذ من النخلة كل شيء، ليس فقط رطبها الذي هو على صحن مع بعض حليب الناقة وجبة أساسية لهذا المسافر. وإنما جذعها أيضاً لم يلبث حينما تحضر (تحول إلى حضري) أن رفع به نمطاً من البناء يسمى في العامية للإمارات “بالكرين”. يحمل الجذع على مستطيل من الجذوع، بينما تميل من على جانبيه عدة قطع من الدعن. (جمعها دعون) هو الآخر طريقة من طرق استخدام النخلة. يقوم الرجال بضم زورها بالحبال المستخلصة من جذعها وتتكون من هذا الضم قطعاً تنسج ببعض كما تنسج قطع الشعر لبيت الشعر، ليصبح نسج الزور جدران لطريقة أخرى من البناء تسمى “بالعريش”. (الخيمة أو الحوش أو الحوي) أما من سعفها فصنعت أشكال كثيرة من الأوعية والأدوات (المهفة ـ القفه ـ المزماه). ومن كربها وزورها أيضاً دخلت القبيلة أول البحر حينما صنعت قارباً مملوءاً بأوراق النخلة. وحين وصل البدوي إلى البحر افتتح على الحبر سجلاً كتبه الإنسان في ارتياد صحراء الماء هذا. فهنا في الإمارات ولد أحمد بن ماجد (في رأس الخيمة قبل 500 سنة من الآن) الذي خلق لنا كتباً تعبّر عن مستوى الخبرة والعلاقة التي تكون لدى إنسان هذه المنطقة في حركته على مجهول الحبر. وأحمد بن ماجد ليس مقطوعاً من شجرة وإنما هو امتداد لما قبله ومن في زمانه، واليوم إذا نحن بحثنا في ذاكرتنا الشعبية نجد كتاباً آخر لم يكتب بعد يحتوي شعراً وقصة وألغازاً وأمثالاً وروايات تعبّر عن علاقة خاصة مع الأمواج. ولم ينس البدوي وهو يتطرق إلى البحر أن يستفيد من كل ما يمكن أن يهبه هذا الباب من الزرق. سمى أسماكه واكتشف طرق في اصطيادها، بل وطرق في تجفيفها وتعليبها، غاص على محاره، وتتبع نجومه إلى البلدان صانعاً القوارب والسفن، صعباً على الرياح والمحن مفتوحاً للتحول. ومن البدو من وجد نفسه عند جبل. والجبل ليس فقط أكداساً من الصخر ترتفع على اليابسة، وإنما مهبط الغيوم، أشجاره مرعى، وصخوره مسكن، وهنالك أيضاً ينابيعه وعسله وحطبه ووديانه الغنية بالضلوع الخضراء. ورغم أن الأرض الجبلية أرض تعبّر عن القسوة، إلا أن البدوي، وهذه من عاداته الرئيسية أيضاً لا يستسلم لقسوة بيئته. وإنما يحتال عليها بأشكال كثيرة كي تكون سهلة وقابلة للحياة. من هنا نجد أن الساحل الشرقي من الإمارات والمطل على خليج عُمان يحفل ليس بتعرجات الطرق التي شقتها عصا وأقدام البدوي على سطوح الجبل، وإنما وهذا ما يوطد الدهشة، هنالك وعلى رؤوس الجبال حفرت إرادته الأحواض وزرع النخل والمانجو والجوافة والقمح. واشتق من الصخر، ومن شدة الصخر جدران بيته، ومن عادات العربية البدوي في دولة الإمارات نباهته وبصيرته الحادة وذكائه الفطري، فللفطنة موقعاً مهماً من ذاكرته الشعبية حيث تسود الأمثال وتشتق الألغاز من تناقضات الحياة وأسرارها وحيث تقال الحكم وتحبك القصص وتدار معركة الحياة والدفاع عن الحياة. هذا جانب مما يعبّر عن النباهة عند البدوي أما الجانب الآخر فهي عاداته في الاستفادة من كل شيء أي تلك العادة التي تطرقنا إليها في الفقرة السابقة. فأنت إذا تتبعت أشكال الاستفادة التي استخلصها هذا الإنسان من دابته ونخلته فحسب، فإنك ولا شك ستلمس هذه الذهنية التي فكرت وطوعت رأسها ويدها لابتكار كل هذه الأدوات والسوائل للتغلب على ندرة ما يساعد على الحياة. وهناك مظهر في حياة البدو يعبّر عن ذكائه أحسن تعبير إنه اقتفاء الأثر. وإلى الآن يعيش بين قبائلنا ذلك الذي يستطيع من خلال تتبعه لأي أثر يخله أي ماشٍ على صفحة الرمل التعرف على المكان الذي ذهب إليه، ليس فقط بل وكثير ما تروي كتب الأدب العربية القديمة أنه كان مستطيعاً التعرف على شكل تارك الأثر، ونفسيته، ومن معه وماذا يحمل وكيف يمشي أراكباً أم راجلاً، كذلك يستطيع التعرف على أثر المطية وهي هل ناقة أم بعير وعلى أثر الحباري التي صادها من غيرها. واقتفاء الأثر في القبيلة العربية لم يكن عمل فرد من أفرادها بل هي ثقافة عامة بعضهم يجيدها ليعيش على العمل بها وبعضهم الآخر يجيدها لاستخدامها في حياته، وآخرون لا يجيدونها، إلا أنهم يعرفون أسرارها وكان على البدوي في الصحراء خلق الظروف التي تساعده على الحياة وكان عليه بالمقابل نقل خبراته في التعامل مع الطبيعة، ومع طبيعة الحياة في الحياة في الصحراء إلى أجياله المقبلة. وإذا كان هذا النقل الذي تم عبر ذاكرة قد تخلقت منه الأعراف ومنظومات الحكم والأمثال وعالم ثري من الأشعار والقصص، فإنه في المقابل شكّل دورة الحياة الثقافية للبدوي. والبدوي يسمر ليعيد ذاكرته عبر قصيدة أو قصة أو لغز أو ونة أو سالفة. هذا حال مجلس شيخ القبيلة ومجلس كبار القوم وحال صديقين يسمران على ربوة أو رحلة أم مغامرة. الكلام والمدسوس في الكلام وما يجعل الكلام قادراً على الحياة والاستمرار يعاد نبشه من جديد في كل سمرة، تحت كل خيمة على ظهر كل جواد. في الجانب الآخر احتفظ المجتمع البدوي بتقاليد عريقة في التعامل مع الطفل. فلا يحوي تراثنا الشعبي على خبرات في التعامل مع المرأة الحامل ومع حالة الولادة وبما بعدها فحسب، وإنما هنالك مواصفات تتعلق بتأهيل هذا “البدوي الصغير” لمغامرة الحياة. فكانت تربية الابن تختلف من بيت إلى بيت رغم ما يجمع كل تربية بدوية من مشتركات أساسية: فالطفل يربى وفق الإسلام كدين، ووفق الأعراف كعادات وتقاليد، ووفق وضعية القبيلة وعلاقاتها بما حولها (الصحراء) وبمن حولها (القبائل الأخرى)، هذا إلى جانب أنه ومبكراً تسعى القبيلة أو الفريج وفي حالة استقرار القبيلة على زرع إلى نقل خبراتها الإنتاجية إلى الطفل وتمتد هذه الخبرات الإنتاجية من تربية الإبل إلى صيد الصقور في البداية ومن توزيع الأفلاج إلى سف “الحابول” عند البيادر ومن القلافة إلى الطواشة إلى النواخذة عند البدو البحارة. وبيت شيخ القبيلة يعد لمشيخة القبيلة وهو في هذا الإعداد يستعيد ما ورثته الأجيال السالفة عليه. يشركه في مجلسه، ويدفعه إلى تعلم الفروسية، يحيله إلى شعراء ومجامع أشعار وأمثال وحكم ليكتسب البصيرة، يدفعه إلى مشاكل القبيلة يقترب منها ومن ناسها، يقحمه خبرة الرحلة وفي مغامراتها ليكسبه قوة التحمل والصبر على الشدائد. وهذا لا يحدث فقط في بيت وإنما في كل البيوت: بيت الفارس وبيت الشاعر وبيت البحار وبيت الزراع أما البنت فليس أمر تربيتها بأقل أهمية عند البدوي، من تربية الابن بالعكس، فالذاكرة الشعبية البدوية تشير إلى شعور البدوي بخطورة مثل هذه التربية، وهذا ما يدفع البدوي إلى تزويج ابنته وهي صغيرة، وذلك حتى ينزل عن كاهله عبء مسؤوليتها. ولعل ما يرعبه هو موته عنها في غزوة أو رحلة غوص، وعندها لربما تتعرض لما لا يرضاه لها. والبنت تتقاسم مع الولد الخبرات البدوية في التربية الأولى إلا أنها حينما تكبر وتبدأ في تشكيل خصوصيتها ينصرف البيت البدوي إلى نقل نظام كامل من المشاعر والمعارف والخبرات إليها ذلك النظام المرتبط بالاسم “حرمة” في مقابل نظام آخر، وهو نظام معنوي طبعاً (وغير مكتوب) يتعلق بالصبي وهو “الرجولة”. ونظام “الحرمة” الذي فقد كثيراً من مكوناته ومظاهره نظام لا يحافظ فحسب على التزام المرأة بأعراف القبيلة وتمسكها بدينها وإنما أيضاً يتيح مدى واسعا لاحتفاظ المرأة بأنوثتها من جهة، وبمشاركتها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية. ويحتفظ تراثنا الشعبي بمظاهر كثيرة تتعلق بالفترة الأولى من حياة الإنسان. فإلى جانب أغاني “المنز” التي تحمل في تضاعيفها اختصارات وصور وحكم وإيقاعات من داخل الطبيعة البدوية نفسها. هنالك العديد من الأشكال التي تعبّر عن عالم الطفولة في مثل هذا المجتمع. من هذه الأشكال الألعاب الشعبية وهي عديدة ومتنوعة وتتدرج حسب السن وحسب النوع (ذكر أو أثنى) وتتربط بتقوية الجسد والروح معاً وبتعزيز أهمية اللعبة عند الطفل من جهة وأهمية أن تحمل هذه اللعب طفولة الطفل ونظرة المجتمع إلى الحياة من جهة أخرى. إلى جانب الألعاب هنالك القصص التي تروى للطفل من قبل الجدة أو الجد، الأم أو الأب، الجارة أو الجار، هذا إذا لم ننس بعض الاحتفالات التي تعبّر عن انتقال الطفل من مرحلة إلى أخرى “كالتومينه” عند ختم القرآن والاحتفال “بالسبوع” و”الختان” وغيرها من الأشكال التي تدل على “حبية” المجتمع البدوي تجاه الطفل “كالعيدية” (في الأعياد) “وحق الليلة” في منتصف شعبان ولم يكن يعاني الشباب في المجتمع البدوي من انفصاله عن كبار السن. خاصة حين يأخذ كبير السن في اعتباره أهمية استقطاب الشاب إلى جلسته كي ينقل له خبراته ومعارفه ومشاعره. هكذا يسعى “الشايب” وكل في موقعه الشيخ والفارس أو الراعي إلى اكتشاف أفراد جدد لتعليم “صنعة الحياة” ومن خلال نجاح هذا الاكتشاف أو فشله يبدأ الشاب في حصد خبرات الجيل السابق له، عندما يبدأ في اختيار زوجته المناسبة لعائلته وإمكاناته وظروفه. هذا إذا ما استثنينا امتلاء روح البدوي الشاب بالطموح وملاحقة الأمجاد. و”الشاب” في المجتمع البدوي مستوعب، من حيث أن هذا المجتمع يدرك حساسية هذا السن، كما يدرك القلق الذي يعتري الشاب في فترة الاختيار، رغم إمكانات الاختيار المحدودة، لهذا فمن عادات وتقاليد مجتمعنا مسامحة الشاب على زلاته، متى ما كانت هذه الزلات طريقة في تعلمه من الخطأ، ووصوله إلى مكانة الرجولة عند الولد ومكانة الحرمة عند الفتاة. ولقد ابتكر المجتمع البدوي للشباب مجالات واسعة للتعبير عن حماسة الشباب والمشاركة في الحفاظ على بقاء قبيلته وعزتها وأمنها ومجالات حيويتها وحياتها. وإذا كان نقل الخبرات إلى الشباب أحد هذه المجالات، ومشاركتهم في القول والفعل الاجتماعي مجال آخر، فإن ضرب الأمثال العليا للأخلاق الحميدة كالشجاعة والكبرياء والثقة بالنفس والكرم للشباب عبر القدوة الحسنة (قدوة الأب أو أحد كبار القوم أو المطوع أو فارس القبيلة). ودفع الشباب لتحقيق هذه الأمثال عملياً بل ومحاولة تحقيق أقصى ما يمكن أن يتحقق من هذه الأهداف المثالية. ولعل الفروسية إحدى الوسائل التي يتبعها المجتمع البدوي ليضع شبابه على الطريق في تحقيق مثال الشجاعة، ويعد الرجل للحرب والعمل، أما المرأة فإنها تعد لتكون زوجة وأماً. وهي في ظل الظروف التي تفترضها البيئة، عليها مشاركة الرجل في شؤونه ومساعدته على صعاب الحياة. لهذا فإن الوظائف في المجتمع البدوي موزعة بين الرجل والمرأة. دون أن تفقد المرأة ولا جزءاً من تمسكها بالشريعة الإسلامية ولا بالأعراف البدوية. والذاكرة الشعبية في مجتمع الإمارات تخصص الكثير من العادات والتقاليد لتلك الخبرات التي تنقلها الأم إلى ابنتها كي تعدها زوجة صالحة لرجلها، والإعداد لا يقتصر على الجانب المعيشي فحسب وإنما على الجانب الأنثوي أيضاً المتعلق بأن تكون المرأة قادرة على أن تحقق لزوجها ذلك الإشباع الذي هو سنة في الدين والعرف ولا غنى لجسد الإنسان عنه. والزواج أحد الطقوس الشعبية الفنية في مجتمع الإمارات وهو غني بالعادات التي تسبق الزواج والتي تكرس ما يلي: اختيار الرجل المناسب والمرأة المناسبة. وعندما يتم الاختيار تكون “الخطبة” ثم “الملكة”، وبهذين المرحلتين اللتين تسبقان الدخلة “الزواج” يتحقق تعرف الرجل على المرأة والعكس دون أن يخل ذلك بدين أو أخلاق وعرف المجتمع. هذا جانب من الغنى في طقس الزواج في مجتمع الإمارات، والجانب الآخر احتفال الفريج كله بهذا العرس: احتفال يعبّر عنه عبر المشاركة في الأفراح (المشاركة في الطبخ والاحتفال وغيره) وتقديم المساعدة إذا لزمت سواء كانت عينية أو مادية. وهناك الغنى الوارد في فعاليات حفلة العرس سواء حفلة الرجال أو حفلة النساء. فالرجل يظهر في ذلك اليوم بأقصى مظهر حسن وسط الرقصات الشعبية التي تحتفل بعرسه، بينما تهيأ المرأة لهذه الليلة عبر العديد من المظاهر التي تبرز جمالها وفتنتها. وذلك ليس بالهين على العروس الجديد للحياء والخجل التي يعتريها أمام أهلها. وتقام كل حفلة على حدة، ومع الزواج تصبح البنت التي كانت صبية في بيت أبيها زوجة ومن ثم ستصبح أماً، وهي في كلتا الحالتين تستعيد نتائج ذلك الإعداد والتكوين الذي حاول أهلها نقل عاداتهم وأعرافهم عبره إليها. وبقدر ما أن للزوجة احتراما وتقديرا من قبل الرجل، فإن الأم وعلاقة الابن بها تعكس أسطع مظاهر عاداتنا وتقاليدنا في احترام وتقدير والدينا. هذا التقدير ثبته الإسلام عبر آيات واضحة وأحاديث تجعل “جنة المؤمن” تحت أقدام الأمهات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالأم في تراثنا الشعبي سواء في غياب الأب أو حضوره. مسؤولة عن البيت، بيت الرجل، عن عياله وحلاله وماله، فإلى جانب إدارة البيت من الداخل، فإن لها دورها في تربية الأبناء وفق ما تتطلبه القبيلة من كل فرد. ما تتطلبه أخلاقياً وعملياً. وهكذا ومن البدء تنصرف لتكوين ابنها لتحقيق النموذج البدوي للرجولة وابنتها لتكون “حرمة” محافظة على شرف أهلها وقبيلتها كيف كانت وأينما كانت. وبقدر ما كانت الزوجة محترمة داخل البيت البدوي، فإن للرجل مكانة رب البيت “وشيخه” لهذا فإن احترامه واجب على الزوجة والأبناء على السواء. وهو من جانبه يسعى إلى إعاشة بيته عيشة رضية والمحافظة على كرامته واسمه بين البيوت، وعلى عزه وسؤدد قبيلته بين القبائل، هذا إضافة إلى مشاركة الأم في التكوين النفسي والجسدي والاجتماعي للأبناء. واحترام الأبناء لوالدهم واحترام الزوجة لزوجها والعكس تقاليد وعادات راسخة في مجتمعنا، هذا ويجد الكبار في السن (الأجداد والجدات) احتراماً خاصاً يساعدهم على قضاء حياتهم على وتيرة “العزة” التي عاشوها خاصة وهم عند “الشيب” وقد ضعفوا جسدياً وأحياناً ذهنياً. واحترام الكبير أيضاً، يساعد “الشايب” على أن يقدم لقبيلته كل ما يملك من خبرة وحكمة ورأي. واحترام الأب كان عادة مهمة من عاداتنا الشعبية فإذا كنا نشير في هذا الاحترام إلى الأب في الأسرة فإن الأب في المجالات الأخرى: أب القبيلة (الشيخ) أب العمل (صاحب العمل) يلقى هو الآخر احتراماً لا يقل عن احترام الأب الأسري، ولعل هذا الاحترام يجيء من تلك الدعوة التي تحملها هذه الآية الكريمة “وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم” وأولي الأمر هنا تبدأ من الأب وحتى شيخ القبيلة. الرجولة والعقل ويعتمد العقل في المجتمع البدوي كأساس مشترك لكل فرد من أفراد القبيلة من القبائل، حيث منه يمكن تسوية الاختلافات ودمجها في الأساس “العاقل” للحياة. والعقل هنا ليس دماغ الإنسان، وإنما هو تلك الأسس الدينية والاجتماعية والأعراف والتقاليد التي بنى عليها المجتمع القبلي والتي توزع بالتالي تراتبيته سواء كانت هذه التراتبية تنطلق من شيخ القبيلة إلى الراعي أو من الأب إلى الأم إلى الولد. لهذا ارتبطت الرجولة سواء أو “الحريمية” بالعقل، فيقال إن هذا رجل عاقل رزين، “تكانه” و”النِعّمْ” متى ما امتثل إلى “العقل” البدوي وعقلته الأخلاق عن النوازع التي تهدم تكوين الجماعة. ومن هنا كان العقل الشعبي للبدو خلقاً يحاول الجميع تحقيقه، إلا أن هذا العقل أيضاً لم ينس أن هنالك في الحياة ما لا يعقل فابتكر عبر أشعاره العديد من القصص التي تعبّر عن الهوى، ولدينا في تراثنا الشعبي قصائد عذبة تعبّر عن الحب، هذا إلى جانب أن الهوى عند البدوي عالم آخر يستطيع أن يعبّر من خلاله عن النواحي الغامضة في شخصيته. ويحفل مجتمع الإمارات بأشكال عديدة للرقص الشعبي، فإلى جانب تلك الرقصات الأصيلة التي هي وليدة التراكم الطبيعي للمجتمع عبر الأجيال، هناك الرقصات التي دخلت إلى المجتمع عبر الموانئ، وعبر اختلاط مجتمعنا بنواحي أخرى من العالم: سواء كانت هذه النواحي عربية أو أجنبية اليمن أو الهند، عُمان أو إفريقيا. وهذه الرقصات توغلت في المجتمع نظراً لاختلاطنا بالشعوب الأخرى إلا أنها ترسخت فينا، ومع الوقت بدأت تظهر بصورة تجمع بين مكوناتها وبين تأثير مجتمعنا في تشكيلها الجديد. ولدينا من الرقصات ما كانت تقام عند رجعة الرجال من الغزوات ومن أسفار البحر، ولدينا من الرقصات ما كانت تقام للاحتفالات من أعراس تؤدى مع العمل فتكسب العمل طابع الترفيه والمسؤولية معاً. ولقد وصل الأمر في بعض مناطق الدولة إلى أن تتشكل فرق شعبية لديها نظامها الداخلي الذي يبدأ بالأب راعي الفرقة وحتى طبيعة انتماء كل فرد لفرقته ومسؤولية كل أب عن أفراده وأدوات فرقته ومشاغلها. لقد أعطى المجتمع في الإمارات قديماً للترفيه اهتماماً لا بأس به ورغم أن المرفهات قليلة تحت أشعة شمس حارقة طوال السنة، إلا أن الإنسان هنا لم يترك أي جانب حتى الجوانب العملية ولم يبتكر من خلالها فضاء من الترفيه يروّح به على روحه فهناك الترفيه المرتبط بالعمل. فالعمل كان في تقاليد مجتمعنا عملاً جماعياً، حتى ولو كان هذا العمل لصالح فرد سواء كان هذا الفرد رب العمل (صاحب الإبل، القارب المزرعة) أو محتاجاً للعمل (إقامة بيت، حفر بئر، اصلاح ليخ) وهناك الترفيه المرتبط بالارتحال كالغناء والمسامرة وهناك الترفيه المرتبط بالفصول، فحين يحين فصل الربيع تنتقل الأحياء من أماكن استقرارها الشتوي إلى القيض فيتحقق الترفيه عن الإنسان بفضاء جديد، كما وتجد المشاية والزراعة فرصتها من العشب أو من العناية. والترفيه أيضاً كان قائماً في (رياضات الصيد بالصقور) والسباقات (سباقات الهجن والقوارب ومناطحة الثيران) كما كان قائماً في الرقصات والولائم التي تقام في صباحات الأعياد وقد كان للأسواق الشعبية في الإمارات طابعاً خاصاً، إذ كانت هذه الأسواق مجالاً لالتقاء القادمين من الجغرافيا المختلفة كي يبيعوا ما توفر عندهم ويشتروا ما لا يتوفر، وبالتالي فإن الأسواق كانت مجالا للتعرف والتعاون بين “الحيري” القادم من الجبال والبدوي الآتي من الصحراء والحضري العايش في الميناء. كما كانت مجالا لتبادل منتجاتهم المتنوعة سواء كانت المزروعة أو البحرية أو الصحراوية. ونظرة إلى بعض الأسواق في الإمارات تعبّر عن الطابع الخاص الذي نقصده. فالتاريخ يتحدث عن سوق “دبا” المشابه للأسواق الأدبية العربية الكبيرة كسوق عكاظ. وهناك السوق المسقوف والذي نلمس بعض أجوائه الآن في سوق مرشد بدبي، وهناك السوق الذي كان ينعقد سنوياً تحت شجرة “الرولة” في الشارقة. حيث كان السوق إقامته ليست لتبادل بضائع فحسب وإنما لتبادل الأشعار والحكم والأغاني أيضاً. هذا غير أسواق الجمعة التي نرى بعض طابعها الخاص قد أعيد بعثه في الساحل الشرقي من الإمارات (الطريق إلى الفجيرة)، حيث ينزل الجبلي محملاً بمنتجات الزرع والضرع ليبيعها للحضر. وللرعي في دولة الإمارات تقاليد متنوعة بتنوع “كار” البدوي سواء كان البدوي الراعي في الفيوي والرملية أو الراعي في الجبل، أو في السهوب. ومن تقاليد الرعاة تلك التي نراها واضحة عند البدوي في المنطقة الغربية والشرقية من أبوظبي، وعند الشحوح والمزارعين في الساحل الشرقي. ونحن حينما نقول تقاليد الرعي فإننا لا نقصد كيفية الرعي ونوعيته والأعشاب والمناطق الصالحة للرعي، وكيف تحدد، بل نقصد أيضاً معرفة الإنسان هنا بالحيوان المستأنس بأمراضه وصحته، بفوائده ومضاره، بحيوانيته واستئناسه. كما نقصد تلك الأجواء والفعاليات الاجتماعية الفنية الذي ينتجها نزول مجموعة من الرعاة الشحوح في وقت محدد من السنة مثلاً يقطعون الساحل الشرقي كله بمنتوجاتهم ومواشيهم يبيعون ويحتكون بالحضر ويشترون من الناص، ويبيعون الزائد. يملؤون القري عسلاً وجبناً وحطباً وسوالف ويعودون إلى جبالهم بما جلبت السفن من قماش الهند وحلية السند. والزراعة البسيطة كانت عامل استقرار للبدوي، ومع تعاقب الأزمنة تشكّل لدى هذا الإنسان خبرات واسعة في المزروع والقابل للزراعة في نوعية أرضه واللامزروع “البري” واليوم تحفل الذاكرة الشعبية ليس فقط بأغاني “العمل الزراعي” وحكاياته وإنما بآلاف الخبرات حول كيفية زراعة كل نوع من النبات ولماذا يزرع؟ للغذاء، لغذاء الإنسان أو الحيوان أم للصحة (في الاستفادة من المزروع لوصفات الطب الشعبي). ولأن الماء لم يكن دائماً فائضاً عن الحاجة فلقد اكتشف الإنسان العديد من الوسائل التي تظهر الماء من باطن الأرض، وتحفظه وتوزعه “الأفلاج” بل وخصص “الغدران” يرسمها على الأرض المزروعة بين ظلال النخيل كي تجد كل شجرة ما تطلب. لهذا كان “المنيور” وغيره مما يتعلق باستخراج الماء دليلاً واضحاً على غنى المعرفة التي راكمها إنساننا طوال السنين، كما أن زراعة الجبال والبيوت (في السواحل) لتعبّر أفضل تعبير عن حاجة الإنسان للمساحة الخضراء فيما يشكل نوعاً من قدرته على مقاومة الطبيعة القاسية. وجد البحر أيضاً اهتماماً فائقاً من البدوي حين تعرف عليه وصاحبه. واليوم حين نفتح الكتاب الشعبي للبحر ذلك الذي كتبه نواخذتنا وبحارتنا وغواصونا ومغنونا وحداقونا نجد شبكة واسعة من ذلك الحصاد المثمر الذي يشكل عالماً وحده من تسمية أشياء البحر والتعرف على عالمه الداخلي والسطحي، وتحديد تقاويمه المكانية والزمانية، هذا غير التراث العريض في العلاقات المبتكرة بين مجتمع البحارة سواء الصيادين على الساحل أو المسافرين في الرحلات الطويلة أو الغواصين، وغير الأدوات والمعرفة الضرورية لكل جانب بحري من هذه الجوانب، وغير أشعار وأغاني وسوالف كل جانب. ولعله بإمكان القول أن هذا الكتاب البحري “الكبير” إذا ما دونت كل تفاصيله إلى جانب المدون منه، سيشكل خبرة مفيدة لأجيالنا القادمة، ولقد شكلت الموانئ في مجتمع الإمارات أجواء خاصة. فالموانئ بانفتاحها على المجتمعات الأخرى عبر كونها نافذة بحرية. حفلت بتوظيف الحنكة والبساطة والذكاء الفطري لدى البدو في آفاق جديدة من تطوره الحضاري. ففي الميناء وجد البدوي في مجتمع الإمارات المجال مفتوحاً لكي يطوّر من قدراته التجارية مستفيداً من خبرات المجتمعات الشقيقة والقريبة من مدار أشرعته، ولم يلبث أن خرج من تحت معطف القبيلة من يمتلك عقلية تجارية تؤهله لبناء مجتمعه من هذا الجانب. وغير هذه الناحية فإن البدوي لم ينس أن من طبيعة الموانئ تعدد الأمزجة والناس الذين يفتح الميناء صدره لهم، فأظهر البدوي تسامحاً غير معهود، شجع الآخرين على التعامل معه، هذا غير بساطته التي تغري الكثيرين بالاحتكاك به، وأخلاقه التي لا ينساها حتى وهو يتاجر مما جعله مثلاً مستقيماً وشجع أبناء المناطق المختلفة على الاستفادة من موانيه في ترويج بضائعهم مما قفز بهذه الموانئ إلى وضعيات متقدمة وللحكم عادات وتقاليد في بلدنا. فالحاكم يعتبر نفسه أباً للجميع، والجميع أبناؤه، ومسؤول عن الجميع بقدر ما هو مسؤول عن أبنائه الفعليين. من هنا يحاول الحاكم أن يكون بابه مفتوحاً أمام الجميع: يسمع رأيهم ويأخذ بالصحيح والنافع منه. يعرض عليهم تصوراته ويترك لهم حرية مشاركتهم في قراره. يشاركهم أفراحهم وأتراحهم، ولا يترك فرصة لتعزيز قومه إلا واستفاد منها، مؤكداً عمق انتمائه لجماعته وبلده. مما جعل البعض يتحدث عن نمط من الديمقراطية البدوية تلك التي كانت متحققة في المضارب. أيام كانت الصحراء غنية بالسماحة. كما أن الحاكم وفق العرف البدوي لا يميز بين أفراد القبيلة فكل القبيلة لديه سواء، حقاً أنه يقرب الفارس والشاعر والتاجر من أجل تعزيز موقف القبيلة أمام القبائل الأخرى. ولكن حتى هذا التعزيز لخدمة عموم القبيلة وليس لخدمة مصالح خاصة غير واردة أصلاً في مفهوم القبيلة، فالقبيلة جسد واحد في السراء والضراء. ترحل كجسد وحينما تغضب تغضب كلها، وتمرح كلها ولكن بقيادة رئيسها المدبر المحافظ على دينها وأعرافها وشيمتها: شيخ القبيلة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©