دع عنك لومي لخليل صويلح الحياة تكرر نفسها خارج المعنى

انشغلت الرواية السورية بالتاريخ بحثا في الماضي عن إجابات على أسئلة الحاضر، وظلت هواجس الكتابة الروائية غالبا محصورة في إطار القراءة السياسية والاجتماعية للواقع ومعضلاته المستحكمة، في حين حاولت بعض التجارب الروائية الجديدة أن توسع من حدود الرؤية وتقارب الواقع عبر الخوض في أزمات الواقع الذي يعيشه المثقف كإنسان وموقف وحالة استلاب تكشف عن عمق الأزمة الذاتية والأخلاقية والثقافية التي يعيشها هذا المثقف الضائع بين أوهام ما بعد الحداثة والماضي كما يملي عليه ذلك الموقف الانتهازي وادعاء الانتماء للعصر، وتعد رواية خليل صويلح الثانية ''دع عنك لومي'' تظهيرا لهذا الواقع المتردي والمستلب والمنخور في أعماقه، حيث يغدو الجسد الأنثوي فيه نصا مركزيا يغوي بلذة القراءة تعويضا عن حالة العجز والضعف التي يعيشها هذا المثقف وتعبيرا عن مكر الفحولة التي تتلطى وراء مقولات ما بعد الحداثة تارة، وثقافة الذكورة المتوارثة تارة أخرى، الأمر الذي يجعل المثقف حالات عجيبة ومركبة من تناصات مع الثقافة المعاصرة وثقافة الماضي· دلالات العنونة تكشف استراتيجية العنونة التي يستبدل بها التقسيم التقليدي للرواية عن الدور المحوري الذي تلعبه تلك العناوين في تكثيف المعنى واختزاله بحيث تتحول إلى بؤرة دلالية تخترق معنى النص، ويظهر التناص منذ العنوان الرئيس الذي يشكل مقطعا من صدر بيت للشاعر الأعشى وبذلك تساهم قراءته في معرفة الإطار السوسيولوجي والثقافي والتناصي الذي يندرج العنوان فيه، كما يكشف من خلال دوره كمفتاح تأويلي عن سعي الكاتب إلى ربط العنوان بنسيج النص الداخلي وجعله يوحي بكلية تمثيله للنص الروائي وهو ما يمكن إدراكه بعد قراءة النص، أو عبر القراءة الأولية حيث يلعب التصدير الشعري في مقدمة العمل دور الدال الموحي الذي يحدد النص، خاصة أن تلك الثنائية تمثل محور حياة شخصيات العمل، أو ما اصطلح الكاتب على تسميتها بشلة الثعالب· تقتحم جملة الاستهلال النص الحكائي من دون الاهتمام بتحديد الزمان والمكان فالروائي يكشف منذ البداية عن علاقته إلى لغة مركزة تحمل المعاني التي يستدعيها سياق الأحداث في النص الروائي أو التجربة التي يسعى لمقاربتها(''سحقا'' لحياة مبتذلة، نكرر تفاصيلها كل يوم، من دون تفكير بمعنى ما، لما نصرفه من فواتير على مائدة الوهم ونحن نتجول في شوارع الشهوة مستعيرين حياة أخرى لترميم أحلامنا المعطوبة)، وتكمن أهمية جملة الاستهلال كما يشي الشاهد بذلك في كونها تدخل القارئ في عالم الرواية المتخيل وتميط اللثام عن خلفية هذا العالم الروائي وحيوات شخصياته بصورة مكثفة· إشكالية المثقف يحاول السارد في مقدمة السرد أن يكشف عن الأسباب التي قادته للدخول إلى الكهف الذي يشكل عالم شلة الثعالب التي تتألف من مجموعة من المثقفين حيث يختلط الوهم والاستيهام الجنسي عندها بالوقائع الواقعية ويصعب تمييز الحدود الفاصلة بين الاثنين، ولعل الكشف يهدف الى تبرير الأسباب التي قادته إلى هذا الدخول كحل للخروج من مما يعانيه من القلق الاكتئابي الذي يعاني منه، وكما يفتتح الراوي السرد بتقديم نفسه والحديث عن علاقة متخيلة مع ممثلة مجهولة خلال زيارته إلى مصر، فإن نهاية الرواية تأتي مترابطة مع جملة الاستهلال إذ تتحدث عن أحوال الراوي التي لا تسر على صعيد محاولة استعادة علاقة قديمة مع صديقة تنتهي بالفشل، وتعبر في دلالاتها عن حالة الضياع والألم التي يعيشها الراوي· تتألف شلة الثعالب من مجموعة مثقفين شعراء وكتاب مسرح وصحافة تعيش حياة عطالة وضياع باعتبارهم يرفضون عبودية المؤسسة ويرون أن الحياة هي فضاء تخييلي لا تحده المحسوسات مستندين في تبرير ذلك إلى مقولات فلسفية حداثية وما بعدها ملفقة ومنتزعة من سياقها، وبقدر ما تكشف مواقف تلك الشلة الانتهازية والمتلونة وفق مقتضيات المصلحة النفعية فإنها تعبر عن بؤس المثقف وانتهازيته وقدرته على خيانة نفسه، إضافة إلى سطحيته المعرفية ومحاولة الإدعاء بالانتماء إلى ثقافة العصر الذي يعيش فيه· الإشكالية السردية يتدخل الراوي مرات عدة في إطار السرد للتعليق على الأحداث وشرح الغاية التي يضمرها من وراء سرد تلك الوقائع، والحقيقة أن السرد يكثر من استدعاء التناصات في حديث شخصياته، كما يكشف عن الإشكالية السردية القائمة على مستوى الانتقال من بنى السرد التقليدية إلى سرد ما بعد الحداثة، وبذلك ينتقل السارد لإشكالية الواقع وحياة شخصياته إلى إشكالية فنية تواجهها الكتابة الروائية في علاقتها بالمنجز الحداثي وما بعده في الكتابة· ينتقل الراوي في بداية السرد من الحديث عن تجربته إلى الحديث عن تجربة شخصيات شلة الثعالب، ويفعل الشيء نفسه في النهاية، وتتجلى هذه الاستراتجية في السرد أيضا في حالة التناص عندما ينتقل من الحديث عن عالم الشلة، إلى الحديث عن الواقع العام الذي يشكل صورة مكبرة عن عالم تلك الشلة بكل تناقضاته وضياعه وأوهامه وممارساته التي تفضح حالة التردي والزيف والاستلاب التي يعاني منها الواقع اجتماعيا وثقافيا وسياسيا (بلاد مستباحة ، بلاد على شكل حديقة حيوانات مفتوحة، بلاد شعارات)·